الحكمة – متابعة: بات من المألوف جدا ان ترى أو تسمع ان صاحب شهادة يعمل “ ان كان يعمل” في مهنة بعيدة عن اختصاصه الذي افنى في معرفته ربيع شبابه، وقضى ليله ساهرا من أجل اجتياز مصاعبه وعقباته فضلا عما بذله من وقت وجهد ومال للحصول على شهادة جامعية اثبتت الأيام لاحقا انها لا تغني ولا تسمن من جوع.
مهندس مدني يبيع الفواكه والخضر، وكيميائي يعمل سائقا لسيارة أجرة، وتربوي يبيع زيوت السيارات على قارعة الطريق، وحقوقي يطرق ابواب المحامين على تشغيله مساعدا بسيطا، وآخرون يفترشون الأرصفة ليبيعوا مختلف البضائع والسلع لعلهم يحصلون على ما يسد رمقهم، وتتعدد الصور بتعدد الحالات الانسانية لحملة الشهادات الجامعية، هذا بالنسبة لخريجي الجامعات والمعاهد، أما بالنسبة للخريجات فقد تحول اغلبهن مجبرات الى ربات بيوت حالهن حال من لم يدرسن والأسوأ في المشهد ان هؤلاء الخريجين لا يتلقون اجورا تناسب شهاداتهم فنادية عمار علي وهي خريجة الكلية التقنية الهندسية- جامعة بغداد ومن العشرة الأوائل على كليتها، تعمل بصيغة العقد منذ ثماني سنوات وتتلقى راتبا قدره “289” الف دينار شهريا، فيما يحصل مصطفى عبد الوهاب عبد الرزاق خريج علوم بيولوجي على أجر قدره “150” الف دينار شهريا في مركز صحة حي العامل منذ اعوام، وكلما طالبهم برفع اجوره ردوا عليه بعدم وجود تخصيصات مالية كافية.
حدود الأزمة
يرى الباحث الاجتماعي حامد حسن الياسري ان تقدم الامم يعتمد على ما تضخه من اجيال تجاوزوا مراحل التعليم وتوجهوا الى خدمة المجتمع، لكن واقعنا الاقتصادي المزري لم يعد قادرا على امتصاص ما تضخه المؤسسات العلمية، ولهذا ازدحم الشارع العراقي بالكفاءات والعقول المنتجة، لينضم اصحابها الى طوابير العاطلين، والخطر الاعظم الذي يواجهه هؤلاء الخريجين هو انجراف بعضهم الى عالم الجريمة المظلم وماله من سلبيات وتداعيات، أو وقوعهم في منحدر اليأس ومن ثم اللجوء الى الانتحار، وهذا الواقع يؤدي الى انهيار المجتمع بالكامل وتراجعه، وما نشهده من احتجاجات هنا وهناك ما هو الا دليل على هذه المشكلة. ويوضح فهمي الياس “اختصاص ميكانيك”: ان عدم توظيف الخريجين ينتج عنه عدم انتقال خبرات الخريجين السابقين العاملين في المؤسسات الصناعية بشكل عام الى الخريجين الجدد، وسيؤدي استمرار زيادة العاطلين الى خسارة تراكم الخبرة في المؤسسات الفنية، فتحصل فجوة كبيرة بين قدماء الفنيين والملتحقين منهم حديثا، ما يسبب تراجعا في النمو الاقتصادي وفي الانجازات الفنية ككساد الصناعات الورقية، والمنتجات النفطية والنسيجية والميكانيكية، وفي مجالات عمل أخرى لا تعد ولا تحصى. واختتم الياس حديثه بالقول: ما زاد الطين بلة هو السماح باجازة أربع سنوات مقابل الراتب الاسمي دون الاحتفاظ بالخبراء منهم . وتطرق الخبير النفطي فائق الدباس الى اسباب الازمة مؤكدا انها لم تأت من فراغ خصوصا بعد العام 2003 ، فالخريجون ابتداء من الاعدادية فما فوق كانوا ضحية لطبيعة ادارة الدولة على اسس غير صحيحة، وفي غياب واضح لخطة ستراتيجية منهجية علمية حول سوق العمل، وعدم تبني تنمية مستدامة تعتمد على تنشيط وتنمية القطاعات الاقتصادية المهمة: الصناعية، الزراعية، السياحية، وجميع الانشطة الاقتصادية العامة نزولا الى القطاعات الاقتصادية الخاصة.
الأسباب
الدباس عزا اسباب شلل الاقتصاد العراقي الى الاعتماد على النفط كمصدر اساس للدخل، وبالتالي اصبح الاقتصاد العراقي وحيد الجانب، يتأثر بارتفاع وانخفاض اسعار هذه المادة، ومن بين القضايا المهمة والخطرة جدا ان حرمان الخريجين من العمل للأسباب الآنفة الذكر اجبرهم على ولوج سوق العمل الطفيلي أو الاستهلاكي الذي لا يحقق أي تطور في تنشيط الاقتصاد وبنائه على اساس التنمية المستدامة، ومن الآثار الاخرى أن اهمالهم المتعمد ولد عندهم امراضا نفسية ونزعات سلبية منها الهجرة الى الخارج.
غياب الاستراتيجيات
القانوني طارق المختار بدأ بتحليل الازمة تمهيدا لتقديم المعالجات الناجعة لها، قائلا: ان ازدياد معدلات البطالة في العراق يعود بالأساس لتحويل العراق الى سوق للسلع وبضائع المنتجات الغربية، مما أدى ذلك الى غياب ستراتيجيات ورؤى اقتصادية حكيمة للدولة، للنهوض بالاقتصاد وتطويره وتحسينه، لذلك اهملت المعامل بشكل مقصود، وتوقف انتاجها الذي كان يغطي جزءا من حاجات المجتمع العراقي.
واضاف المختار أن القطاع الزراعي ليس بأفضل من الصناعي، إذ طاله الاهمال بشكل اوسع، بحيث غابت المنتجات الزراعية المحلية، وساد الاستيراد العشوائي من دول الجوار.
ورافق هذا غياب السياسات التعليمية المدروسة وفق حاجة السوق الفعلية في العراق وحاجة مؤسسات الدولة من الكوادر العلمية، واصبحت لدينا اعداد كبيرة من الخريجين التي تتزايد سنويا وليس بمقدور السوق العراقية ومؤسسات الدولة استيعابهم، علاوة على غياب النظم القانونية للعمالة الاجنبية على حساب المواطن العراقي، والذي أدى الى تنافس غير متكافئ، ووأد رغبة اصحاب المشاريع باستخدام هذه العمالة الى زيادة البطالة في العراق، كما أن هناك اسبابا أخرى لا يتسع الحديث عنها ، كتفشي الامية بالعراق، بعد ان كان العراق عام 1979 وحسب احصائية اليونسكو خاليا من الامية ، حيث تقدرها آخر الاحصائيات الرسمية بما يقرب عن 20بالمئة من المجتمع العراقي، وهذه النسبة تضاف ايضا الى جيش العاطلين.
المعالجات
وعرج المختار الى معالجات الازمة فحددها برسم سياسة ورؤية اقتصادية للتنمية المستدامة الشاملة، من خلال تنويع مصادر الاقتصاد وانتاج صناعة نفطية حقيقية وتطوير العمل الزراعي وبناء منظومات ري متقدمة، مع الاهتمام بالبنى التحتية كالطرق والجسور والمباني وغيرها التي ستستقطب عشرات الآلاف من جيوش العاطلين. مؤكدا على تطوير المنظومة القانونية الخاصة بسوق العمل ومنع التوسع في استقطاب العمالة الاجنبية كي لا تكون منافسة غير متكافئة على حساب العمالة والخبرات العراقية . مشيرا الى ضرورة اعادة رسم السياسة التربوية بحيث يتم اصلاح العملية التربوية بكاملها وربطها بحاجات البلد الفعلية من الخريجين لكل المراحل التعليمية، وبما يتلاءم وينسجم مع سياسات الدولة المركزية. واختتم المختار حديثه بمطالبة الجهات ذات العلاقة بتطوير ورسم سياسة حقيقية للتنمية البشرية في مؤسسات الدولة، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني بهذا الخصوص والانفتاح على كل تجارب بلدان العالم للخروج من هذه الأزمة.