Take a fresh look at your lifestyle.

مرقد محمد بن زيد .. في الكوفة

0 2٬834
           للكوفة مع أهل البيت(عليهم السلام) علاقة متميزة جعلتها تحتل بين المدن مكانة خاصة ومرتبة رفيعة، فكانت محوراً لكثير من أحاديثهم(عليهم السلام)، وفي اغلبها أشادوا بفضلها وسموها، ثم راحوا يتشوقون إليها مهما ابتعدت بهم الدار فكانت بحق مدينة تغمرها هالة من الثناء والإطراء، فهذا أمير المؤمنين(عليه السلام) يخاطبها قائلاً:
          (ويحك يا كوفة، ما أطيبك، وأطيب ريحك وأخبث كثيراً من اهلك، الخارج منك بذنب والداخل فيك برحمة، أما لا تذهب الدنيا حتى يحن إليك كل مؤمن ويخرج منك كل كافر)(1).
         ومذ نزلها أمير المؤمنين(عليه السلام) قادماً من معركة الجمل سنة 36هـ، أصبحت منزلاً للكثير من الموالين والأتباع، لكنها لم تخل من عناصر مختلفة الولاء لعلي وذريته ضمن التجمعات القبلية المنتشرة في مركز المدينة وضواحيها، وهكذا مرت بالكوفة ادوار متغيرة إلا أنها بقت تحمل بصمة علوية حتى قال فيها الإمام الصادق(عليه السلام): (تربة نحبها وتحبنا)(2).
           وعلى هذا الأساس هاجر إليها الكثير من العلويين، فقد ذكر السيد البراقي: (كانت في الكوفة أسر طالبية وبيوتات علوية، ليست بالنزر القليل، وكان لبعضهم السلطة والسيطرة، لاسيما أيام ازدهرت بخلافة الإمام علي(عليه السلام)، وكان لأفراد منهم النقابة العامة فيها والزعامة البدنية والروحية، مضافاً إلى شرفهم العلوي بانتسابهم إلى زعيمهم الإمام علي(عليه السلام) ذلك الشرف الباذخ والنسب الوضاح وقد بقيت لبعضهم بقية إلى القرن الثامن)(3).
           اليوم يشمخ في الكوفة مزار مشهور، يقصده الناس رغبة للتواصل مع ذرية رسول الله أحياء وأمواتاً، حيث ينسبه القائمون على خدمته إلى السيد محمد بن زيد بن علي بن الحسين الشهيد بن الإمام علي(عليهم السلام)،
           ولكن ليس هناك ما يدعم كلامهم ويسند حجتهم سوى آراء وأقوال، لهجت بها الألسن وتناقلتها الشفاه من الأجداد وإلى الأحفاد، دون الرجوع إلى المصادر التاريخية التي ليس لنا دليل آخر غيرها يربطنا بحوادث وأشخاص طوت صحفهم الدنيا فتلاشت ذكراهم عبر تقادم الأزمان، إلا ما حفظه التاريخ لنا عبر صفحاته.
           زرنا المرقد ووقفنا عليه، لعلنا نهتدي إلى ما يجعلنا نربط الماضي بالحاضر عبر أثر لنحصل على صورة واضحة تزيح ضبابية تعدد الأقوال، فكانت حصيلة زيارتنا جملة من المعلومات التي تعطي انطباعاً مقبولاً عن شخصية صاحب هذا المزار.

 

   أضواء على سيرته

            لم يتسن لنا معرفة متى ولد محمد بالضبط، عدا ما ذكره السيد عبد الرزاق المقرم حيث قال: (… وعمره يوم قتل أبيه أربعون يوماً)(4)، بناء على إن زيداً قتل سنة 121هـ، ومعنى ذلك إن محمداً كانت ولادته سنة120هـ، أمه أم ولد سندية، ولا ندري أين ولدت محمداً؟، هل ولد في المدينة أم ولد بالكوفة حيث كان والده يعد العدة استعداداً لثورته ضد الأمويين.
            لقد أشار ابن عنبة إليه قائلاً: (أصغر ولد أبيه ويكنى أبا جعفر وكان في غاية الفضل ونهاية النبل)(5)، كما عده الشيخ الطوسي (من رجال الإمام الصادق(عليه السلام)، وكناه بأبي عبد الله المدني، وأسند عنه)(6)، وفي إشارة الشيخ الطوسي إلى كونه مدنياً ما يقوي بقائه في مدينة أجداده الأطهار، وعدم نزوحه منها إلى سواها.
            اللهم إلا ما ذكره الخطيب البغدادي حيث قال بعد أن ساق نسبه إلى الإمام علي(عليه السلام)، (…أبو عبد الله الهاشمي، وهو أخو يحيى وعيسى بن زيد، ورد بغداد أيام المهدي)(7).
             روى محمد عن أبيه زيد، عن أخيه الباقر(عليه السلام)، قال سمعت أخي الباقر(عليه السلام) يقول: (دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين، فقال(عليه السلام): يا أبا عبد الله ألا أخبرك قوله عز وجل: (من جاء بالحسنة… إلى قوله كنتم تفعلون)، قال: بلى، جعلت فداك، قال(عليه السلام): الحسنة حبنا أهل البيت، والسيئة بغضنا أهل البيت)(8)، كما روى محمد عن أخيه يحيى بن زيد: (قال سألت أبي زيد بن علي: من أحق الناس أن يحذر، قال: ثلاثة العدو الفاجر، والصديق الغادر، والسلطان الجائر)(9).
             أما في الحوادث التاريخية فقد جرى ذكره في موضعين، احدهما لما أراد المنصور أن يقبض على محمد بن هشام الأموي وهو بالكعبة، فقال له محمد بن زيد، أنت في ذمتي وأنا أخلصك، فخلصه من الموت ولم يتوان محمد في إنقاذ الأموي الذي كان لأبيه أعظم دور في قتل زيد بن علي(عليه السلام)(10).
            أما القصة الثانية فتشير إلى إن محمد بن محمد بن زيد أراد أن يرى عمه عيسى بن زيد فأشار عليه أبوه أن يقصد الكوفة ليرى عمه عيسى، وقد كان متخفياً في الكوفة متوارٍ عن بني العباس(11).
           في حين تذكر كتب التاريخ إن محمد بن زيد كان في جملة من دعاهم الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) من ولد علي وفاطمة فأشهدهم لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد مماته(12)، وفي النصوص السابقة نرى ما يدعم فكرة سكن محمد بالمدينة وما يعضد قول الشيخ الطوسي كونه مدنياً.
            توفي محمد بالمدينة وليست هناك إشارة إلى تاريخ وفاته عدا ما وجدناه في قطعة تعريفية كتبت في المرقد الموجود في الكوفة حيث ذكرت وفاته سنة166هـ، وفي خبر وفاته يذكر ابن شبه الذي روى (عن محمد بن يحيى قال سمعت من يذكر إن قبر أم سلمة(رضي الله عنها) عنها بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد بن علي، وإنه كان يحفر فوجد على ثمانية أذرع حجراً مكسوراً في بعضه مكتوب أم سلمة زوج النبي فبذلك عرفنا أنه قبرها، وأمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه)(13).

   ذرية محمد بن زيد

            أعقب محمد بن زيد أحد عشر ولد، منهم ثلاث نساء، ولم يعقب منهم سوى جعفر بن محمد، وكان لمحمد بن زيد ولد يدعى محمد الثاني نصبه أبو السرايا في الكوفة أميراً بعد وفاة محمد بن إبراهيم طباطبا وبعد فشل حركة أبي السرايا، قبض على محمد الثاني واقتيد أسيراً إلى المأمون في مرو، فما لبث أن سمه المأمون(14)، ويعرف له اليوم في نيشابور مزار يطلق عليه محمد المحروق.
             أما جعفر بن محمد بن زيد، فهو الرئيس الشاعر وقد عقد له أخيه محمد الثاني على واسط(15) بمعنى أنه كان في الكوفة ولا ندري هل كان فيها ساكناً أم نازلاً مع أخيه محمد.
             وقد ذكره النجفي فقال: (خرج بخراسان وقتل بمرو وقبره بها في سكة ساسان، وذكر العميدي أن قبره وقبر أخيه محمد الملقب بالمعتز بالله في مكان واحد)(16).
             والظاهر أن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين الشهيد هو أول من نزل الكوفة، بقصد السكن فيها فقد نزل عند بني حمان (من قبيلة تميم) فنسب إليهم لأنهم شكلوا تجمعاً عشائرياً حتى أطلق على محلتهم حمّان (قرية بالكوفة سميت باسم عبد العزيز الملقب بالحمّان)(17).
           كان محمد بن جعفر، شاعراً معروفاً، ولكن ولده علي المشهور بـ(الحمّاني) حاز من الشهرة ما جعله يلقب بـ(الأفوه)، ويقول: (أنا شاعر، وأبي شاعر وجدي شاعر آل أبي طالب)(18) ومن شعره:
      لنا من هاشم هضبات عز                  مطنـبة بأبـراج السـمــاء
      تطيف بنا الملائك كل يوم                  ونكفل في حجور الأنبـياء
      ويهتز المقـام لنا ارتـياحاً                   ويلقـانا صفـاه بالصـفاء
               أعقب علي زيداً، ومنه في ولده محمد، وقد عد ابن طباطبا محمداً هذا من منتقلة الطالبية فقال: (ذكر من ورد الكوفة من أولاد محمد بن زيد الشهيد، بالكوفة محمد بن زيد بن علي الحماني الشاعر ابن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي ويعرف بـ(صاحب دار الصخر) وعقبه أبو جعفر أحمد وأبو الحسن علي المعروف بـ(الواوه)، وأم الحسن)(19).
              ومما تقدم نرى إن هذا المرقد البارز المشهور بمرقد محمد بن زيد بن علي يعود للحفيد دون الجد، فتشابه أسمه وأسم وأبيه وجده مع جده الأكبر وأسم أبيه وجده ولد حالة من الالتباس فنسب إلى الجد الأكبر.
             ولو أطلعنا على خارطة الكوفة في عهد الدولة الأموية وما فيها من القرى لأمكننا الجزم بهذه النسبة، ولكن الخارطة التي رسمها لويس ما سينيون لم تشمل جميع محلات الكوفة حتى يمكننا تعيين قرية حمان أو دار الصخر والمقارنة بينهما وموضع القبر اليوم نسبة لمسجد الكوفة المعلم المتبقي من ذلك الحين وحتى اليوم.

    حالة المزار اليوم

              يقع المزار في منطقة تسمى (الكَريشات) حيث سكن المنطقة عشيرة القريشيين ويمكن الوصول إليه من شارع معمل السمنت، الذي يمتد من مركز الكوفة وينتهي بمعمل أسمنت الكوفة، من شارع السمنت ينحدر طريق فرعي على جهة اليمين، على بعد 2 كيلومتر تقريباً، في منتصف الطريق الفرعي، يقع المزار ويسمى في المنطقة (السيد محمد أبو صريمة)، والصريمة تدل على معان ثلاث:
  الأول: الرأي النافذ.
  الثاني: العزيمة على الشيء.
  الثالث: الأرض المحصود زرعها.
              وقد يأتي هذا اللقب من أمر أو كرامة جرت لسيد محمد مما ينطبق واحدة من المعاني الثلاث.

 

   وصف المرقد

             يتكون المرقد من مساحة كبيرة يحيطها سياج خارجي، وتطل بباب كبيرة على الطريق المتفرع من شارع معمل السمنت كما ذكرنا.
           يتوسط المرقد الصحن، كما يحتوي الصحن في جوانبه على بعض المسقفات والمجموعة الصحية، ونتيجة لعدم إهتمام الوقف الشيعي أو إدارة المزارات يلاحظ تردي الخدمات المقدمة، أما أرضية الصحن فليست معبدة، ولا مكسوة حتى بالبلاطات الكونكريتية، بل هي أرض جرداء خالية حتى من الأشجار أو الزرع،
             أما المرقد فتعلوها قبة كبيرة خضراء اللون بقطر 8م تقريباً وبارتفاع يبلغ 6م، وقد زخرفت من الداخل بالمرايا وتستند على أربع أعمدة، أما الضريح الذي يضم القبر، فهو عبارة عن صندوق مصنوع من مادة الألمنيوم ويغطي مساحة (3×1,5م).
           يذكر سادن المرقد لم يُشمل هذا المرقد لحد الآن برعاية من ممثلية المزارات الشيعية في النجف الأشرف، فلم تمد إليه يد التحديث أو الترميم، وكل ما تراه موجود من بناء مشيد أو أثاث هو من تمويل المحسنين أو الذين شملتهم يد الرحمة الإلهية عندما قصدوا هذا السيد الطاهر، فنالوا ما يريدون،
       وعن ظهور ونشأة المرقد يتحدث قائلاُ:
           (أدركت جدي الذي حدثني عن ظهور هذا المرقد، فقد كانت الأرض التي دفن فيها هذا السيد أرضا زراعية، وبالصدفة تم العثور على المرقد عن طريق قطعة تعريفية من الصخر كانت موجودة ، ولحد الآن توجد في المرقد ولكننا دفناها خوفاً من ضياعها،
          وهكذا توالت العمارات على المرقد بداية من حجرة صغيرة، مسقوفة بجذوع النخيل، ثم أصبحت غرفة من الطين، إلى أن أصبحت بناية صغيرة، ترتفع فوقها قبة متواضعة، وقد وفق الله الحاج كاظم اطيمش القريشي فتبرع مشكوراً ببناء قبة تليق بالمرقد الطاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشريف الرضي، خصائص الأئمة، ص114.
(2) المجلسي، بحار الأنوار، 57/210.
(3) تاريخ الكوفة، ص469.
(4) زيد الشهيد، ص187.
(5) عمدة الطالب، ص298.
(6) الطوسي، رجال، ص282.
(7) تاريخ بغداد، 7/407.
(8) القندوزي، ينابيع المودة، 1/292.
(9) المجلسي، بحار الأنوار، 71/192.
(10) العاملي، أعيان الشيعة، 9/337.
(11) ابن عنبة، عمدة الطالب، ص286.
(12) الصدوق، عيون أخبار الرضا، 2/37.
(13) تاريخ المدينة، 1/130.
(14) الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص412.
(15) المصدر السابق، ص413.
(16) المجلسي، بحار الأنوار، 46/160.
(17) لباب الأنساب، 1/316.
(18) ابن عنبة، عمدة الطالب، ص300.
(19) ابن طبا طبا، منتقلة الطالبية، ص276.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.