Take a fresh look at your lifestyle.

المحدث الجليل سدير بن حكيم الصيرفي (عصيدة بكل لون)

0 2٬663
 
             يعد سدير الصيرفي من كبار المحدثين الذين اختزنت حياتهم العديد من المحطات التي تستحق الوقوف سواء على مستوى الموروث الحديثي أم على المستوى العقائدي والتاريخي والعلاقة مع أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

وفي البحث عن حياة سدير، تواجه الباحث مشكلة تستوعب بعمومها وشموليتها معظم رواة الشيعة ومحدثيهم وخصوصاً أصحاب الأئمة(عليهم السلام) تتمثل بندرة المصادر والمعلومات التاريخية عن تفاصيل حياة أولئك الرجال الأفذاذ الذين نقلوا تراث آل محمد وأوصلوا لنا علومهم بمداد من دم ودم كالمداد.

   سدير.. المحدث الكوفي


هو سدير بن حُكيم بن صُهيب الصيرفي، يكنى أبا الفضل، كوفي، مولى. ذكره الشيخ في رجاله بهذا العنوان في أصحاب علي بن الحسين(عليهما السلام)، وفي أصحاب الباقر(عليه السلام) بعنوان سدير بن حكيم الصيرفي، وفي أصحاب الصادق(عليه السلام)، وهو والد حنان بن سدير (أعيان الشيعة 5\185).

ينتمي سدير إلى عائلة عرفت برواية الحديث، فجده (صُهيب) أدرك أمير المؤمنين(عليه السلام) وروى عنه، وأبوه (حُكيم بن صُهيب) له رواية عن بعض المخلصين من أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) كأبي سعيد عقيصا، ومثيم التمار(رضي الله عنهما) وهو أحد السبعة الذين دفنوا ميثم التمار، ويكفي سديراً أنه نشأ في أزقة الكوفة ومساجدها حيث تزدهر الرواية ودروس العلم.

كان أبوه حُكيم مولى لبني ضبة، وكان صيرفياً، وقد أخذ سدير الصيرفة وراثة عن أبيه فكان عنده محل صيرفة في سوق الكوفة، ويبدو أن سدير وعائلته لم تكن قد اصطبغت بالولاء الشيعي بشكل ملحوظ حتى نهاية العقد الهجري السادس، وإنما جذبها نحو أهل البيت(عليهم السلام) الميل العاطفي العام الذي جذب غيرهم من الناس دون الدافع العقائدي كما هو الحال مع المخلصين من أصحاب أمير المؤمنين ومن بعده ولديه الحسنين سلام الله عليهم أجمعين،
                ولذلك لم يكن لسدير وأبيه صلة ومعرفة بالإمام السجاد(عليه السلام) الذي نشأ وترعرع في المدينة ولم يكن الكوفيون على معرفة وثيقة بالإمام بعد أن تسلم الإمامة من أبيه الحسين الشهيد(عليه السلام)، يحدثنا سدير الصيرفي عن أول لقاء جمعه هو وأبوه وجده وعمه مع الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) في حمام بالمدينة المنورة إذ يقول:
                (دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماماً بالمدينة فإذا رجل في بيت المسلخ فقال لنا: ممن القوم؟ فقلنا: من أهل العراق فقال: وأي العراق؟ قلنا: كوفيون، فقال: مرحبا بكم يا أهل الكوفة أنتم الشعار دون الدثار ثم قال: ما يمنعكم من الأزُر فإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام، قال: فبعث إلى أبي كرباسة فشقها بأربعة، ثم أخذ كل واحد منا واحداً ثم دخلنا فيها فلما كنا في البيت الحار صمد لجدي (أي قصده) فقال:
               يا كهل ما يمنعك من الخضاب؟ فقال له جدي: أدركت من هو خير مني ومنك لا يختضب، فغضب لذلك حتى عرفنا غضبه في الحمام، قال: ومن ذلك الذي هو خير مني؟ فقال [جدي]: «أدركت علي بن أبي طالب(عليه السلام) وهو لا يختضب، فنكس رأسه وتصاب عرقاً فقال: صدقت وبررت ثم قال: يا كهل إن تختضب فإن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد خضب وهو خير من علي(عليه السلام)، وإن تترك فلك بعلي سنة، قال [سدير]: فلما خرجنا من الحمام سألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين(عليهما السلام) ومعه ابنه محمد بن علي) (الكافي 6\497).

إن المتابع المتفحص في تاريخ التشيع يلمح بوضوح أن انتقال الإمام الحسن(عليه السلام) (ت49 ﻫ) من الكوفة ورجوعه إلى مدينة جده(صلى الله عليه وآله) قد ساهم في انكفاء الحالة الشيعية الكوفية خلال عشرين عاماً حتى واقعة الطف، حيث كان المخلصون من الشيعة إما قتلوا في كربلاء أو غيبوا في ظلمات السجون، وهو ما أفرز ابتعاد الموالين في حواضر العراق عن الاتصال المباشر بالإمام السجاد(عليه السلام) (ت95 ﻫ) خصوصاُ ممن هم في سن الشباب، وعلى هذا ليس غريباً أن سدير وأباه وجده وعمه لم يكونوا يعرفون الإمام السجاد(عليه السلام) كحال كثير من الموالين إبان تلك الحقبة الحرجة من تاريخ التشيع.

   علاقته بالإمامين الصادقين(عليهما السلام)


ويبدو أن هذا اللقاء أسس لعلاقة سدير بالأئمة(عليهم السلام)، وفتح صفحة جديدة في حياة سدير عنوانها صدق الولاء وأصالة المنهج في سيرته القائمة على أساس الاعتقاد بإمامة أهل البيت(عليهم السلام) وعصمتهم، ورغم أن سدير يصنف ضمن أصحاب الإمام السجاد(عليه السلام) إلا أن كتب الحديث ومصادر السيرة تخلو تقريباً من روايته عن الإمام(عليه السلام) باستثناء اللقاء المذكور الذي يبدو أنه كان في أواسط حياة الإمام السجاد(عليه السلام) أو نهاياتها.

ونستطيع أن نقول أن الانطلاقة الحقيقية لعلاقة سدير مع الأئمة(عليهم السلام) كانت مع الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام)
(ت114 ﻫ)، حيث حرص سدير أن يحضر عند الإمام(عليه السلام) مصطحباً معه ابنه (حنان)، وكأن الإمام الباقر(عليه السلام) قد لمس فيه صفاء السريرة فأخذ يعلمه أصول التشيع وأحكام الدين،
              ويحدثنا سدير أن الإمام الباقر(عليه السلام) طلب منه أن يعرض عقيدته عليه ليقوم اعوجاجها، أكان تقصيراً أم إغراقاً وغلواً، ويبدو أن هذا اللقاء التعريفي كان في بواكير اتصال سدير بالإمام(عليه السلام)، 
              يقول سدير: (قال أبو جعفر(عليه السلام)، ومعنا ابني: يا سدير، أذكر لنا أمرك الذي أنت عليه فإن كان فيه اغراق كففناك عنه، وإن كان مقصراً أرشدناك، قال [سدير]: فذهبت أن أتكلم فقال أبو جعفر(عليه السلام): أمسك حتى أكفيك، إن العلم الذي وضع رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند علي(عليه السلام)، من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثم كان من بعده الحسن(عليه السلام). قلتُ: كيف يكون بذلك المنزلة، وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال: اسكت، فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم) (علل الشرائع 1\210).

يتضح من الرواية أن سدير لم يكن ـ في ذلك الوقت ـ عارفاً بحق ومقام أهل البيت(عليهم السلام) كما يجب أن تكون المعرفة، وكان يعتقد أن الإمام الحسن(عليه السلام) لم يصب الحق عندما وقع الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وقد نهره الإمام الباقر(عليه السلام) وأوضح له أن الإمام أعلم بما يصنع، وليس للمؤمن أن يتقدم إمامه أو يتأخر عنه في قول أو فعل.

إن هذه المعرفة السطحية التي وسمت عقلية سدير لم تكن غريبة على مجتمع ما زال بعد وفاة أمير المؤمنين(عليه السلام) يرقد في ظلمات الجهل، وضعف العقيدة، وقلة المعرفة، عندما عملت الماكنة الإعلامية الأموية على تصدير ثقافة مشبوهة تلاقت مع سطحية المعرفة التي عاشتها الأمة كل الأمة منذ وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتسلم التيار الانقلابي زمام الأمور بعد أن أزاحوا أهل البيت(عليهم السلام) من مناصبهم، وربما نعود للتذكير بهذه الرواية عندما نتكلم عن الصفات النفسية لشخصية سدير وأثرها في نظرته للأحداث.

وفي رواية أخرى نرى أن سدير الصيرفي يسأل الإمام الباقر(عليه السلام) عن رأيه في الشيخين (الخليفة الأول والثاني)، ويبدو أن الدعاية الأموية كانت مؤثرة في السواد الأعظم من الكوفيين بحيث اختلط عليهم الأمر، واشتبه فيهم الرأي حتى باتوا يسألون في مسلمات يعرفها صبيان الشيعة،
             يقول سدير: (سألت أبا جعفر(عليه السلام) عنهما فقال: يا أبا الفضل ما تسألني عنهما، فوالله ما مات منا ميت قط إلا ساخطاً عليهما، وما منا اليوم إلا ساخطاً عليهما، يوصي بذلك الكبير منا الصغير، إنهما ظلمانا حقنا، ومنعانا فيئنا، وكانا أول من ركب أعناقنا وبثقا علينا بثقاً (أي خرقاً) في الإسلام لا يُسكَّرُ (أي لا يُسَد) أبداً حتى يقوم قائمنا) (الكافي 8\245).

ونجد في رواية ثالثة أن سديراً استغرب من وجود تشظي في أصحاب الإمام الباقر(عليه السلام) في الكوفة على خلفية الجدل العقائدي وظهور المذاهب الفاسدة كالكيسانية والبترية، وعلى خلفية الموقف السياسي المتأزم في حاضرة الكوفة،
                 فقد روى الشيخ الكليني عن سدير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام تركت مواليك مختلفين يتبرأ بعضهم من بعض، قال: وما أنت وذاك، إنما كلف الله الناس ثلاثة: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما يرد عليهم، والرد عليهم فيما اختلفوا فيه.

اجتاز سدير مرحلة إعداد عقائدي في عهد الإمام الباقر(عليه السلام) (ت114 ﻫ) استعاد خلالها بمساعدة الإمام جانباً من الوعي الشيعي المستباح في الثقافة الكوفية آنذاك، وهذا الإعداد في عهد الإمام الباقر(عليه السلام) أسس لعلاقة وثيقة الصلة بين سدير وبين الإمام الصادق(عليه السلام) حتى كان من المقربين من أصحابه وكان يحرص على السفر إلى المدينة المنورة والمكوث فيها أياماً يستمع لحديث الإمام الصادق(عليه السلام) لينشره بين رواة الكوفة، وهكذا توسعت المنظومة المعرفية لسدير وأصبح من كبار أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) ولعله من خواصه وأصحاب سره الذين يعتمد الإمام عليهم ليستودعهم سر آل محمد.


     وهذه نماذج من علاقة سدير الصيرفي مع الإمامين الصادقين(عليهما السلام):


      أولاً: كان وكيلاً لأهل الكوفة لعرض مسائلهم واستفتاءاتهم على الإمام الصادق(عليه السلام).

وهذا يتضح مما رواه الصفار في بصائر الدرجات ص46 عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن سدير الصيرفي قال: كنت بين يدي أبي عبد الله(عليه السلام) أعرض عليه مسائل قد أعطانيها أصحابنا..، ويروي شيخنا الكليني في الكافي 5\117 عن حنان بن سدير قال: كانت امرأة معنا في الحي ولها جارية نائحة فجاءت إلى أبي فقالت: يا عم أنت تعلم أن معيشتي من الله عز وجل ثم من هذه الجارية النائحة وقد أحببت أن تسأل أبا عبد الله(عليه السلام) عن ذلك فإن كان حلالاً وإلا بعتها وأكلت من ثمنها حتى يأتي الله بالفرج، فقال لها أبي: والله إني لأعظم أبا عبد الله(عليه السلام)
أن أسأله عن هذه المسألة، قال: فلما قدمنا عليه أخبرته أنا بذلك فقال أبو عبد الله(عليه السلام):

  أتشارط؟ قلت: والله ما أدري تشارط أم لا، فقال: قل لها: لا تشارط وتقبل ما أعطيت.

      ثانياً: كان الإمام الباقر(عليه السلام) يكلفه بقضاء بعض حوائجه.

يروي الشيخ الصفار في بصائر الدرجات 116 عن إبراهيم بن أبي البلاد عن سدير الصيرفي قال: أوصاني أبو جعفر(عليه السلام) بحوائج له بالمدينة، فبينا أنا في فج الروحاء على راحلتي إذا إنسان يلوى بثوبه، فملت إليه وظننت انه عطشان فناولته الإداوة، فقال: لا حاجة لي بها ثم ناولني كتابا طينه رطب، فلما نظرت إلى ختمه إذا هو خاتم أبى جعفر(عليه السلام)، فقلت له: متى عهدك بصاحب الكتاب؟ قال: الساعة، فإذا فيه أشياء يأمرني بها، ثم التفت فإذا ليس عندي أحد، قال فقدم أبو جعفر عليه السلام فلقيته فقلت له: جعلت فداك رجل أتاني بكتاب وطينه رطب قال: يا سدير إن لنا خدماً من الجن فإذا أردنا السرعة بعثناهم.

ويروي الشيخ الكليني في الكافي 5\529 أن الإمام الباقر(عليه السلام) طلب منه أن يخطب له امرأة من نساء أهل الكوفة ذات جمال وحسن تبعل.

      ثالثاً: كان الإمام الصادق(عليه السلام) يحثه على زيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وعمل الخير.

في كامل الزيارات 415 عن يونس بن عبد الرحمان، عن حنان بن سدير، عن أبيه في حديث طويل، قال: قال أبو عبد الله(عليه السلام): يا سدير وما عليك أن تزور قبر الحسين(عليه السلام) في كل جمعة خمس مرات وفي كل يوم مرة، قلت: جعلت فداك إن بيننا وبينه فراسخ كثيرة، فقال: تصعد فوق سطحك ثم تلتفت يمنة ويسرة، ثم ترفع رأسك إلى السماء، ثم تتحرى نحو قبر الحسين(عليه السلام)، ثم تقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته. يكتب لك زورة، والزورة حجة وعمرة، قال سدير: فربما فعلته في النهار أكثر من عشرين مرة.

       رابعاً: مكانته عند الإمامين(عليهما السلام).

يظهر من الروايات أن سدير كان يحظى باحترام ومكانة خاصة عند الإمامين الصادقين(عليهما السلام)، وكان الأئمة(عليهم السلام) يرغبونه بعمل الخير ويحثونه على أن حسن الولاية لأهل البيت وشيعتهم ويوعدونه بعظيم الأجر في الآخرة.


                  والروايات التالية تلقي بعض الضوء على هذا الموضوع:


 * عن الحسين ابن علوان، عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنه قال ـ وعنده سدير ـ : (إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً، وإنا وإياكم يا سدير لنصبح به ونمسي) (الكافي 2\253).

   * عن الخطاب الكوفي ومصعب بن عبد الله الكوفي قالا: (دخل سدير الصيرفي على أبي عبد الله(عليه السلام) وعنده جماعة من أصحابه، فقال له: يا سدير لا تزال شيعتنا مرعبين، محفوظين، مستورين، معصومين، ما أحسنوا النظر لأنفسهم فيما بينهم وبين خالقهم، وصحت نياتهم لأئمتهم، وبروا إخوانهم، فعطفوا على ضعيفهم، وتصدقوا على ذوي الفاقة منهم…) (المحاسن 1\139).

 * عن الحسن بن محبوب عن سدير الصيرفي قال: (كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) فذكروا عنده المؤمن، فالتفت إلي فقال: يا أبا الفضل ألا أحدثك بحال المؤمن عند الله؟ قلت: بلى، فحدثني قال: إذا قبض الله روح المؤمن صعد ملكاه إلى السماء فقالا: ربنا عبدك فلان ونعم العبد كان لك سريعاً في طاعتك، بطيئاً في معصيتك، وقد قبضته إليك، فماذا تأمرنا من بعده؟ فيقول الله لهما: إهبطا إلى الدنيا، وكونا عند قبر عبدي فاحمداني، وسبحاني، وهللاني، وكبراني واكتبا ذلك لعبدي حتى أبعثه من قبره…) والحديث طويل اختصرناه (ثواب الأعمال 200).

  معالم الشخصية النفسية لسدير


يظهر من المرويات والآثار أن سديراً كان شخصية تواقة لرؤية انتصار الحق وتمكين الأئمة(عليهم السلام) في الأرض لإقامة الدين والعدل واقتلاع الظلم والجور وإماتة البدع التي نشرها حكام الضلال وهم بنو أمية آنذاك ومن بعدهم بنو العباس، والذي يتتبع الآثار المروية عن الصادقين(عليهما السلام) يجد أن الخط التربوي الذي انتهجه الأئمة(عليهم السلام) كان يتجه نحو تنشئة الحالة الشيعية الفتية على ما يمكن تسميته (ثقافة التسليم) وهي ثقافة تنبع من عمق القرآن الكريم، تعتمد على ترسيخ مفهوم التسليم والطاعة لولاة الأمر الذين هم خلفاء الله العاملين بأمر الله لا بأمر الناس، الناطقين عن الله لا عن أنفسهم وآرائهم، الذين أوجب الله تعالى طاعتهم والرد إليهم،
                  ومن هنا لم تكن جهود الأئمة منصبة في تصعيد الحماس والحمية بين الأتباع والمخلصين من شيعتهم لأن الحمية إذا لم تكن مؤتمرة بأمر الله تعالى، لم يكن لها نفع، وكان فسادها أكبر وشرها أعظم، لقد أضحت مفاهيم (الصبر) و(انتظار أمر الله ) أو ما تسميه الروايات (الفرج)، وتصعيد مستوى الاستعداد للطاعة، ورفض الأنظمة الظالمة، وترسيخ الإخلاص لله، والاستعداد لمواجهة الفتن ومحطات الامتحان والاختبار، أضحت هي السمات البارزة للثقافة التي نشأ عليها الجيل الأوسط من أصحاب الأئمة(عليهم السلام)،
                   ولم يكن سدير ـ و هو متأثر بعصر الصراعات السياسية خصوصاً في العراق ـ قد تشرب هذه المفاهيم فكانت له مواقف يحث فيها الإمام الصادق(عليه السلام) على الخروج والنهوض بالأمر ظناً منه أن القضية لا تعدو كونها انقلاباً سياسياً يمكن أن يحصل إذا توافر له المال والرجال كما بقية الانقلابات التي أطاحت عواصفها بعروش العراق والشام، وقد قرأنا قبل قليل كيف اعترض سدير على صلح الإمام الحسن(عليه السلام) مع معاوية فنهره الإمام الباقر(عليه السلام) وقال: (إنه أعلم بما صنع).

روى الشيخ الكليني في الكافي 2\242 عن عبد الله ابن حماد الأنصاري، عن سدير الصيرفي قال: (دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) فقلت له: والله ما يسعك القعود، فقال: ولم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك والله لو كان لأمير المؤمنين(عليه السلام) ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي، فقال: يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قلت: مائة ألف، قال: مائة ألف؟ قلت: نعم، ومائتي ألف قال: مائتي ألف؟ قلت: نعم ونصف الدنيا قال: فسكت عني ثم قال: يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع قلت: نعم.. إلى أن قال: فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء، فقال(عليه السلام): (والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود، ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر).

ولهذا كان الإمام الصادق(عليه السلام) يحرص على تربية سدير وأمثاله بالثقافة التي أشرنا إليها فقال له في حديث آخر: (يا سدير ألزم بيتك وكن حلساً من أحلاسه واسكن ما سكن الليل والنهار فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك) (الكافي 8\265).

وهذا الأمر بالسكون وانتظار الأمر ليس مختصاً بسدير كما توهم البعض بل هي حالة عممها أهل البيت(عليهم السلام) في شيعتهم وأصبحت ثقافة راسخة في الأجيال اللاحقة.

وكان (سدير الصيرفي) و (عبد السلام بن عبد الرحمن الأزدي) مع جماعة من الشيعة قد بعثوا برسالة للإمام الصادق(عليه السلام) حين ظهرت المسودة في الكوفة (وهم أتباع أبي مسلم الخراساني) بحدود سنة 131 للهجرة وطلبوا من الإمام أن يسمح لهم بالسيطرة على الكوفة مستغلين حالة الفراغ السياسي، فكان موقف الإمام شديداً مع تلك الرسالة لأنها لا ترسخ إلا ثقافة الاستعجال في قبالة (الصبر)، و ثقافة عدم الانضباط في قبالة (التسليم) التي أرادها أهل البيت(عليهم السلام)،
                 ويبدو أن هذا الحراك السياسي لهؤلاء الشيعة أوقع سديراً وعبد السلام في سجون السلطة العباسية بعد أن اشتد عودها وقويت شوكتها في الكوفة، وقد دعا لهما الإمام الصادق(عليه السلام) ففرج عنهما،
               روى الكشي في رجاله بإسناده عن بكر بن محمد الأزدي، قال: وزعم لي زيد الشحام، قال: إني لأطوف حول الكعبة وكفي في كفِّ أبي عبد الله(عليه السلام) ودموعه تجري على خديه، فقال: يا شحام ما رأيت ما صنع ربي إلي، ثم بكى ودعا، ثم قال لي: (يا شحام إني طلبت إلى الهي في سدير وعبد السلام بن عبد الرحمن وكانا في السجن فوهبهما لي وخلي سبيلهما) (اختيار معرفة الرجال 2\740).

ويرى بعض المحققين أن كلمة (سدير) المذكورة في الروايتين مصحفة من (شديد) وهو بن عبد الرحمن الأزدي شقيق عبد السلام، وكيفما كان فكل الاحتمالات تبقى قائمة.

   سدير.. عصيدة بكل لون


من الروايات المشهورة عن سدير ما رواه الكشي في رجاله عن محمد بن عذافر، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: ذُكر عنده سدير فقال: (سدير عصيدة بكل لون) (اختيار معرفة الرجال 2\469).

وقد اختلف الرجاليون وأصحاب التراجم في معنى هذه الجملة، وهل قيلت على سبيل المدح أم القدح، فذهب الأكثر إلى كونها من المدح وخالف البعض فعدها من روايات الذم.

والعصيدة في اللغة (لسان العرب 3\291) هو ما يُعصد أي ما يخلط بغيره على سبيل الممازجة، وتطلق على الدقيق الذي يمزج بالدهن ويطبخ، ويعرف عندنا باللهجة العراقية (حلاوة الطحين)، أي أن سدير يتلون مع تلون المواقف واختلافها كما تتلون العصيدة بالألوان عندما تمزج معها.
وهو معنى يحتمل المدح كما الذم، ولكن بحسب ما ذكره أرباب هذا الفن فإن الغالب على الظن أنها كلمة مدح، وهذه جملة من أقوالهم:

* السيد الخوئي(رحمه الله) (ت1411) معجم رجال الحديث 9\38 قال: (لا دلالة فيها على الذم، بل يحتمل دلالتها على المدح لاحتمال أن يراد بهذه الجملة: أن سديراً لا تتغير حقيقته بأي لون كان، فهو عصيدة على كل حال، وإن اختلفت ألوانه).

  * السيد محسن الأمين (ت1371) في أعيان الشيعة 5\185: (والعصيدة طعام معروف وفي منتهى المقال (أي انه لا يخاف عليه من المخالفين لأنه يتلون معهم بلونهم فلا يعرف نظير قولهم فلان كالإبريسم الأبيض أي كما أن الإبريسم الأبيض يقبل كل لون كذلك هو يتلون مع الناس بلونهم).

فهو نوع من المدح فيراد حسن تصرفه ومخاطبته كل قوم بحيث لا يقدرون على إلزامه بشئ هذا هو الظاهر من هذا الخبر وهو الذي فهمناه منه قبل اطلاعنا على منتهى المقال).

* علي أكبر غفاري، محقق كتاب تحف العقول بهامش ص325 قال: (يعنى أنه لا يخاف عليه من المخالفين ؛ لأنه يتلون معهم بلونهم تقية بحيث يخفى عليهم، ولا يعرف بالتشيع وأنه ملتزم بالتقية الواجبة).

وممن حمل هذه الكلام على الذم الشيخ المنتظري فقال في تعليقه على الرواية: (والمراد منه على الظاهر انه معقود بكل لون، وانه رجل إحساسي مزاجي غير مستقيم بحسب الفكر والدقة، لا انه ملتزم بالتقية الواجبة ويتلون عند كل فرقة بلون يحفظ به نفسه، كما في تنقيح المقال. إذ لو كان كذلك لم يكن يقع في سجن المخالفين) (دراسات في ولاية الفقيه 1\229).

   أقول: ليس في الروايات ما يشير إلى مزاجية سدير التي ادعاها الشيخ المنتظري، وإنما كان يدفعه فرط إخلاصه لأهل البيت(عليهم السلام) لاستعجال أمرهم، وقيام دولتهم، وهو حال كثير من الرواة المخلصين غيره، أما وقوعه في سجن المخالفين فلم يثبت على وجه القطع واليقين لاحتمال أن يقصد به (شديد) كما ذكرنا سابقاً، وبالجملة فإن هذه العبارة تبقى مثاراً للجدل، إلا أن المتتبع لحال سدير وعلاقته مع الإمام الصادق(عليه السلام) تميل نفسه إلى ترجيح كفة المدح على الذم، مهما كان المعنى المقصود من المدح أهو الالتزام بالتقية أو ثبات حقيقته بكل لون أو شيء آخر.

  سدير في كتب الرجال


عرف سدير الصيرفي بالوثاقة وحسن الحديث حتى عند رجال أهل السنة ومحدثيهم، وقد طعن عليه بعضهم لا لشائبة فيه إلا التشيع الذي يعد جرماً في موازينهم الرجالية العرجاء.


                   وهذه جملة من أقوالهم بحق سدير:


   1ـ ضعفاء العقيلي (ت322) 2\179: (سدير الصيرفي وكان ممن يغلو في الرفض).
   2ـ ابن حبان (ت354) في كتاب المجروحين 1\345: (منكر الحديث جداً على قلة روايته).
   3ـ ابن عدي (ت365) في الكامل 3\343: (ولسدير بن حكيم الصيرفي أحاديث يرويها أهل الكوفة عنه قليل وقد ذكر عنه إفراط في التشيع، وأما في الحديث فإني أرجو أن مقدار ما يرويه لا بأس به).
   4ـ الذهبي (ت748) في ميزان الاعتدال 2\116: (سدير بن حكيم الصيرفي الكوفي. صالح الحديث. وقال الجوزجاني: مذموم المذهب. وروى أحمد بن أبي مريم عن يحيى: ثقة. وقال ابن الجوزي: قال ابن عيينة: كان يكذب. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني: متروك).

وقد تتبع ابن حجر (ت852) ما نقله ابن الجوزي فتبين أنه صحف كلمة (يحدث) إلى (يكذب)، قال في لسان الميزان 3\9: (قال ابن عيينة رأيته يحدث بكذا، في نسخة معتمدة، بصيغة الفعل المضارع عن التحديث، فصحفها ابن الجوزي بيكذب).
   5ـ الذهبي في تاريخ الإسلام 8\436: (قال أبو حاتم: صالح الحديث).

                    أما في كتب الشيعة فقد اتفقت كلمة المحققين على وثاقته، وحسن عقيدته، وعلو مرتبته، وهذه جملة من أقوالهم:

  1ـ ابن شهر آشوب مناقبه 3\312: عده من خواص أصحاب الصادق(عليه السلام).
  مستدركات علم رجال الحديث 4\12 قال بعد أن ذكر مجموعة من رواياته: (ومن ذلك كله ظهر حسنه وكماله ووثاقته مضافا إلى وقوعه في طريق ابن قولويه في كامل الزيارة باب 49، وعلي بن إبراهيم في تفسيره في المائدة).
  3ـ أعيان الشيعة 5\185: (وبالجملة يظهر من الروايات كونه من أكابر الشيعة مضافاً إلى ما فيه من كثرة الرواية ورواية الأجلة ومن أجمعت العصابة كابن مسكان عنه).
  4ـ المصطفى والعترة للحاج حسين الشاكري 8\435: (وقال المامقاني (تنقيح المقال): إن سديراً إمامي ممدوح محبوب لله تعالى، محب لأهل البيت(عليهم السلام) قلباً وقالباً، ومن بطانتهم والعارف منهم كلماتهم وألحانهم. وقد عد الرجل في الوجيزة (للمجلسي) ممدوحاً. وذكره العلامة [الحلي] في القسم الأول المعد للثقات والممدوحين).
  5ـ السيد الخوئي في معجم رجال الحديث 9\39: حكم بوثاقته لشهادة علي بن إبراهيم القمي بذلك في تفسيره.
  6ـ جاء في (موسوعة أصحاب الفقهاء) 2\229: (وكان من كبار رجال الشيعة، فاضلاً، من خواص أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام)، وكان يسعى في أواخر الدولة الأموية إلى جعل زمام قيادة العالم الإسلامي بيده(عليه السلام)).

   طبقته في الحديث


يعد سدير من الطبقة الرابعة أو (من صغار الثالثة) في الحديث لأنه من أصحاب السجاد والباقر والصادق(عليهم السلام)، وقد روى عنهم جميعاً خصوصاً عن الصادقين(عليهما السلام)، علاوة على ذلك يروي سدير عن جملة من الرواة والتابعين منهم:

والده حُكيم بن صُهيب، حُكيم بن جُبير الأسدي، أبو خالد الكابلي، الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عكرمة.

                أما من روى عنه فخلق كثير منهم:
               أبناؤه حنان والحسين وجميل، وإسحاق بن جرير، وبكر بن محمد (وهو الأزدي)، وجميل بن صالح، والحسين بن نعيم الصحاف، وعبد الله بن حماد الأنصاري، وعبد الله بن مسكان، وهاشم بن المثنى، هشام بن الحكم، و إبراهيم بن أبي البلاد، والحارث بن حريز، والحسن بن محبوب، عبد الرحمن بن الحجاج، عمرو بن أبي نصر الأنماطي، داود بن سرحان، والعلاء بن رزين، وعلي بن رئاب، وفضالة بن أيوب، والفضل بن دكين، عائذ بن حبيب، وسفيان الثوري وابن عيينة، وشريك بن عبد الله، وهريم بن سفيان والحسن بن صالح، شريس الوابشي، وخالد بن عمار (أو عمارة)، والخطاب بن مصعب، وزُريق بن الزبير، الخطاب الكوفي ومصعب بن عبد الله الكوفي.

   وفــاتـه


لم يرد ذكر وفاته في كل المصادر التي تحدثت عنه، بيد أنه كان حياً حتى سنة 138 حيث روى في هذا التاريخ رواية عن الصادق(عليه السلام) كما ذكر ذلك الكشي في رجاله (اختيار معرفة الرجال 2\584)، ولم تعهد له رواية عن الإمام الكاظم(عليه السلام)، لذا فالراجح أنه توفي في زمن الصادق(عليه السلام) أي بين سنة 138 و 148.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.