آتاه الله الحكم صبيا فأبهر المأمون وتفوق على علماء زمانه
335
شارك
الحكمة – متابعة : يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده بانواع الابتلاءات ليختبر قوة ايمانهم ومن اشدها ان يختار لهم اماما صبيا فيصابون بالشك والريبة وهذا ماحصل بالنسبة الى اتباع اهل بيت النبوة عليهم السلام عندما تولى الامام الجواد عليه السلام امامة المسلمين وهو في الثامنة من العمر فانقسم الشيعة الى اكثرية اتبعوا الامام الجواد عليه السلام وانضم بعضهم الى الواقفية وهم الذين توقفوا عند امامة موسى بن جعفر عليه السلام واقلية ذهبت الى الاعتقاد بامامة عبد الله بن موسى بن جعفر وهو شقيق الامام الرضا عليه السلام لكن الشيعة ليسوا من الذين يرضخون لامامة شخص دون ان يختبروا علمه ويلمسوا تفوقه ولما حان وقت استكشاف حال الامام الجديد عبد الله بن موسى! تبين انه ضعيف ولايقوى على اجابة الاسئلة التي تعود الائمة الاجابة عنها من دون تردد ولما اكتشفوا ضعفه تخلوا عنه، فليس في مذهب الشيعة التسليم لإمامة أحد دون دليل.
وينقل المؤرخون انه عندما تسنم الإمام الجواد عليه السلام الإمامة في صغر سنه اجتمع ثمانون رجلاً من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم، وخرجوا إلى المدينة، وأتوا دار الإمام الصادق عليه السلام فدخلوها، وبسط لهم بساطا أحمر، وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس، وقام مناد فنادى: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن أراد السؤال فليسأل. فسأله بعضهم، وأجاب من عنده، فتحيّر الشيعة، وحزنوا لذلك، عندها دخل الامام الجواد عليه السلام المجلس، فأعادوا عليه المسائل، فأجاب على جميعها وبأدلة قاطعة، فخرج القوم، ودعوا له.(1)
وظن مخالفوا اهل البيت انه بامكانهم ان يستفيدوا من عامل صغر عمر الامام كوسيلة للاطاحة بمذهب اهل البيت وانهم سينتصرون بلا شك في المعركة الفكرية والعلمية التي سيخوضونها ضد صبي لايبلغ من العمر سوى تسعة اعوام وذكر المؤرخون انه اجتمع رأي المخالفين على دفع اموال نفيسة ليحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأل الامام الجواد عليه السلام مسألة لا يعرف الجواب فيها ، وسألوا المأمون ان يختار لهم يوما يجتمعوا فيه لمناظرة الامام الجواد عليه السلام.
فاجتمعوا في ذلك اليوم وابتدأ يحيى بن أكثم بالكلام وقال : يأذن لي أميرالمؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون : استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : سل إن شئت.
قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟
فقال أبوجعفر عليه السلام : قتله في حل أو حرم عالما كان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ ، حرا كان المحرم أو عبدا، صغيرا كان أو كبيرا ، مبتدئا بالقتل أو معيدا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرا على ما فعل أو نادما، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟.
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم : أعرفتم الان ما كنتم تنكرونه؟
انبهار المأمون العباسي بالامام الجواد عليه السلام لم يكن له حدود، لاسيما بعد اكتشافه عجز كبار العلماء عن مناظرته، واجابة الامام عن كل تلك المسائل التي طرحها وهي موجودة في كتب التاريخ والمصادر الشيعية لكننا لم نأتِ بها طلبا للاختصار، وفي ذلك المجلس عرض المأمون على الامام الجواد عليه السلام تزويجه ابنته ام الفضل.
وهكذا اصبح ماكان المخالفون يفكرون به انه عامل قوتهم اصبح عامل عجزهم وضعفهم وكشف عن جانب اعجازي جديد لاهل بيت النبوة لايستطيع انكاره لا القاصي ولا الداني فالتاريخ يسجل هذا المشهد بكل تفاصيله واشخاصه ليسوا من النكرات حتى يمكن التقول عليهم او تحريف كلامهم ، اضافة الى ان كتّاب الخليفة يحصون كل صغيرة وكبيرة تحدث في البلاط.
ومثلما سجل التاريخ البشري معجزة بمستوى حديث النبي عيسى عليه السلام وهو في المهد حيث منحه الله منصب النبوة فإن القرآن الكريم نفسه سجل معجزة اخرى بالنسبة الى النبي يحيى عليه السلام {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَـابَ بِقُوَّة وآتَيْنـاهُ الْحُكْمَ صَبِيَّا} مریم -12- فالقرآن الکریم هو الذي اتاح امكانية حصول الصبي على منصب النبوة والامامة.
لم يكن الانسان بحاجة الى كثير من البصيرة لتشخيص الاعجاز الرباني الذي ظهر في الامام الجواد عليه السلام لكن المخالفين الذين خشوا على سلطانهم استمروا في مؤامراتهم وحاولوا ان يوقعوا الخلاف بين الامام الجواد عليه السلام وبين الخليفة المأمون بخصوص الموقف من الصحابة لكن الامام تحاشى وببراعة لانظير لها الوقوع في الفخ.
وامام الخليفة المأمون سال يحيى بن أكثم الامام الجواد عليه السلام وقال : «ما تقول يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخبر الذي روي أنه نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن الله عز وجل يقرؤك السلام، ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض؟ فإني عنه راض»، فاجاب الامام الجواد عليه السلام : «لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع قد كثرت عليّ الكذابة، وستكثر بعدي، فمن كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني، فاعرضوه على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي، فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي، فلا تأخذوا به، وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله قال الله تعالى «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره، هذا مستحيل في العقول». (2)
وكان من جملة الحوادث التي ابرزت مكانة الامام الجواد عليه السلام وتفوقه على اهل زمانه في العلم والفقه وغير ذلك من العلوم هي قصة ذلك السارق الذي اقر على نفسه بالسرقة في مجلس المعتصم، فجمع الخليفة الفقهاء وقد أحضر الإمام الجواد عليه السلام أيضاً، فاختلفوا في الموضع الذي يجب أن تقطع اليد منه، فقال بعضهم: من المعصم، وقال آخرون: من المرفق، فطلب المعتصم من الإمام عليه السلام أن يبدي رأيه، فامتنع الإمام باديء الأمر قائلاً: «قد تكلم القوم فيه» لكن الخليفة ألحّ عليه في الجواب، فأجاب عليه السلام بعد إصرار الخليفة قائلاً: «إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل الأصابع فيُترك الكف» فقال الخليفة وما الحجة في ذلك؟ فقال: قوله تعالى «وَإنّ المَساجِدَ لِلهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَداً» فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع.(3)
ان هؤلاء الذين ظنوا ان الانقياد لصبي سيسبب لهم الاحراج وسخرية المسلمين عرفوا من قرب ان الامام الجواد عليه السلام لم يكن عامل الضعف والوهن في المذهب بل هو عنصر الاعجاز الرباني الذي لم يستطع المخالفون انكاره وهذه جملة من تصريحات رواة الحديث وعلماء السنة بحق الامام الجواد فقد ذكر السبط الجوزي: «لقد كان في علمه وتقواه وزهده وعفوه على سر أبيه».(4)
وعن ابن حجر الهيثمي: «قال له – المأمون يوماً – أنت ابن الرضا حقاً، وأخذه معه، وأحسن إليه، وبالغ في إكرامه، فلم يزل مشفقاً به لما ظهر له بعد ذلك من فضله وعلمه وكمال عظمته وظهور برهانه مع صغر سنه، وعزم على تزويجه بابنته أم الفضل، وصمم على ذلك».(5)
وعن الفتال النيشابوري: «وكان المأمون قد شغف بأبي جعفر عليه السلام لما رأى من فضله مع صغر سنه وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل، مالم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان».(6)
وبعد ان اقبل المعتصم على راي الامام عليه السلام في قطع يد السارق اثار ذلك حفيظة حاشية السلطان من الفقهاء والقضاة من اهل الدنيا والرياء فدبروا له المكائد للايقاع به وتأليب المعتصم عليه من اجل التخلص منه وقد تمكنوا من تحقيق مرادهم واتفقوا على دس السم في طعامه حيث استشهد وهو ابن خمس وعشرين عاما
بقلم : طاهر القزويني
================================
(1) الطبري، دلائل الإمامة، ص 204 تا 206؛ وفي المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص98 إلى 100.
(2) الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص478.
(3) العياشي، كتاب التفسير، ج1،صص 319و320 والمجلسي، بحار الأنوار،ج50، ص 5 و6 . (الكف من اعضاء السجود فهي من المساجد)