شهادة… الإمام الكاظم عليه السّلام
أسباب عميقة
استلب العبّاسيّون الحُكْم ليطرحوا أنفسَهم بديلاً مُصطنَعاً للخلافة الإسلاميّة، بعد أن تظاهروا في بادئ أمرهم بالتظلّم لآل البيت النبويّ والتنكّر لجرائم الأُمويّين في حقّ الأئمّة أوصياءِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي حقّ الحركات العلويّة ونهضاتها في وجه الظلم والاستبداد.
حتّى إذا استقرّ العبّاسيّون على كرسيّ السلطة وقضَوا على من سبقهم بالسيف، أحسُّوا أنّ لهم منافساً لا يقاوَم، وهو الإمام الحقُّ المُوصى به من قبل النبيّ صلّى الله عليه وآله، والذي يمتلك مواهبَ ربّانيّةً تجذب القلوب إليه، ويمتلك الشرعيّة الدينيّة التي يسجد لها المؤمنون وإليها يُسلّمون.
وكان هارون العبّاسيّ ـ الذي لُقِّب زُوراً بـ « الرشيد » ـ قد ورث عن بني العبّاس حقدَهم على أهل بيت الوحي عليهم السّلام، فسعى في محاولات عديدة لقتل شخصيّة إمام زمانه موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام.. من الناحية العلميّة أو الاجتماعيّة، فباء بالهزيمة النكراء، وعاد أدراج الفشل والخيبة لا يأمل شيئاً ولا يرى حلاًّ إلاّ الغدر والاغتيال!
وقد شهدت لقاءات هارون مع الإمام موسى عليه السّلام أنّ الاحتجاجات لا تُجدي، إذ هي أثبتَتْ أمرين خطيرين:
أوّلاً: عدم شرعيّة السلطة العبّاسيّة الحاكمة، وذلك بالأدلّة الواقعيّة والموازين العقليّة والشرعيّة.
وثانياً: شرعية خلافة الإمام الكاظم عليه السّلام، بدلائلَ وبراهين قاطعة مستخرَجةٍ ومستنبطةٍ من الكتاب العزيز والسُّنة الشريفة.. قدّمها الإمام سلام الله عليه أمام هارون وفي مجلسه، فأثبت أنّه عليه السّلام: سليل النبوّة، ووريث الإمامة، والمنسوب إلى بيت الوحي وهو الأدرى من غيره بما نزل فيه وما جرى. كما ثبت له صلوات الله عليه أنّه الأعلم والأتقى والأعبد، من خلال تعرّف الناس على بعض شؤونه وأحواله، فهو إذن أحقُّ بالخلافة وأولى وأنسب لها ممّن ادّعاها ادّعاءً واغتصبها اغتصاباً، وتقمّصها وهو غارقٌ في الظلم والفجور والانحراف بأنواعه!
وفي جوّ السلاطين، وغياب الورع والتقوى والدين.. يتحرّك المتملّقون والحسّاد والوشاة فيقتربون من آذان الحكّام ليهمسوا وشاياتهم، ويُثيروا هواجس الشكّ والقلق والرِّيبة. وكثرت الوشايات، من القريب والبعيد، من ذلك ما ذكره جمع من المؤرّخين:
منهم ابن الطقطقيّ، قال: كان بعض حُسّاد موسى بن جعفر من أقاربه قد وشى به إلى الرشيد وقال له: إنّ الناس يحملون إلى موسى خُمس أموالهم، ويعتقدون إمامتَه، وأنّه على عزمِ الخروج عليك. وكثّر في القول، فوقع ذلك عند الرشيد بموقعٍ أهمّه وأقلقه، ثمّ أعطى الواشيَ مالاً أحاله به على البلاد (1).
ومنهم العالم المالكيّ ابن الصبّاغ، يروي عن محمّد بن عليّ النوفليّ في السبب في أخذ الرشيدِ موسى بنَ جعفر وحبسِه؛ أنّه سعى به إليه جماعة وقالوا: إنّ الأموال تُحمَل إليه من جميع الجهات، والزكَوات والأخماس، وأنّه اشترى ضيعةً سمّاها « التيسيريّة » بثلاثين ألف دينار. فخرج الرشيد في تلك السنة يريد الحجّ، وبدأ بدخوله إلى المدينة.. (2)
وتبدأ قصّة الاعتقال والحبوس، حيث أصدر هارون حكمه إلى الشَّرَطة بالبحث عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام وإلقاء القبض عليه أين ما كان، وكيف ما كان.. فوجدوه قائماً يصلّي عند قبر جدّه رسول الله صلّى الله وآله، فما كان من جلاوزة الرشيد إلاّ أن سحبوه، فقطعوا عليه صلاته ولم يُمهلوه ليُتمَّ صلاته، وحُمل إلى سجن البصرة مقيّداً بالحديد وهو يخاطب جدّه: إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى (3).
اصطراع شيطاني
لم يزل هارون العبّاسيّ يعيش هواجس الحسد والاضطراب والقلق والشكّ.. وهو يسمع أخباراً تفِده حول الإمام موسى الكاظم عليه السّلام، فكان ذلك يؤرّق منامه، ويكدّر عليه عيشه، وينغّص عليه تمتّعه في لياليه الحمراء الماجنة!
وبعد اصطراعٍ نفسيّ، وحيرةٍ مُرّة.. قرّر هارون إيداع الإمام موسى بن جعفر في السجون، كمرحلة أُولى ليفكّر بعد ذلك كيف يتخلّص منه. وما كان من شَرَطة هذا الطاغي إلاّ أن يحملوا الإمام عليه السّلام إليه، وبدل أن يردّ هارون سلامَه عليه شتمه وجفاه وقيّده، ثمّ بعثه محمولاً إلى البصرة ليُسَلَّم هناك إلى عيسى بن جعفر ـ وهو يومذاك أمير البصرة ـ، فحبسه في بيوت المحبس سنة كاملة، بعدها كتب إلى الرشيد: أن خُذْه منّي وسلّمْه إلى مَن شئت، وإلاّ خلّيتُ سبيله! فقد اجتهدتُ بأن أجد عليه حُجّةً فلم أقدر على ذلك.. فما أسمعه يدعو إلاّ لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة. فوجَّهَ الرشيد مَنَ تسلّمه منه، وحُمل سرّاً إلى بغداد (4).
وتستمرّ قصّة السجون العديدة والحبوس المظلمة والزنزانات الرهيبة، يُودَع في جوفها الإمام الكاظم عليه السّلام مُفرَداً سنواتٍ طويلةً، بعيداً عن الأهل والوطن، غريباً في دُور الظلمة والفاسقين القُساة، فينشغل ليله ونهاره بالطاعات متّصلةً لا يسأم ولا يفترُ ولا يملّ، إنّما الذي سأم وضاق به نَفَسُه هو هارون العبّاسيّ، فأخذت نفسه تُسوّل له بالإقدام على الجريمة العظمى!
روى الثوبانيّ قائلاً: كان هارون ربّما صَعِد سطحاً يُشرف منه على الحبس الذي حَبَس فيه أبا الحسن ( الكاظم ) عليه السّلام، فكان يرى أبا الحسن عليه السّلام ساجداً، فقال يوماً للربيع بن الفضل: يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كلَّ يوم في ذلك الموضع ؟! فقال الربيع: يا أمير المؤمنين! ما ذاك بثوب، إنّما هو موسى بن جعفر، له كلَّ يوم سجدةٌ بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال.
قال الربيع: فقال لي هارون: أما إنّ هذا من رُهبان بني هاشم! قلت: فما لك قد ضيّقتَ عليه في الحبس! قال: هيهات! لابدّ من ذلك (5).
الكظم والإباء
عُرف الإمام موسى بن جعفر سلام الله عليه بـ « الكاظم »، بهذا اللقب السَّماويّ، لعلم الله تعالى أنّه سيكظم غيظه وحزنه وآلامه ممّا يلاقي من الناس، وسيصبر ويتحمّل ما يتحمّل في مواجهة الظلم والانحراف.. فواجه سلاطين الجور بحقائق الدين، وعرّف الحقَّ وميّزه أمام الملأ عن الباطل، حتّى اختزى دعاة الضَّلال واغتاظوا وتفاقمت أحقادهم إلى حدٍّ دَعَتْهم أنفسهم الخبيثة الشيطانيّة إلى إيذائه وحبسه، بل والإقدام على قتله، فيما دعَتْه نفسه المقدّسة إلى الصبر في سبيل الله، والكظم في ذات الله، وتحمّل السجون تسليماً لأمر الله وقضائه، وشكراً وحمداً على حُسن بلائه.
كلُّ ذلك والإمام موسى عليه السّلام لا يَظهر منه ضعفٌ ـ حاشاه ـ ولا تنازلٌ على حساب العقيدة والرسالة الإسلاميّة.. حتّى قيل له عليه السّلام: لو كتبتَ إلى فلان يُكلِّم فيك الرشيد! فقال: حدّثني أبي ( أي الإمام الصادق عليه السّلام ) عن آبائه، أنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى داود: يا داود، إنّه ما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحدٍ من خَلْقي دوني، عَرَفتُ ذلك منه، إلاّ قطعتُ عنه أسبابَ السماء وأسَخْتُ الأرض من تحته (6).
وكم طُلِب منه تنازلاتٌ عن مبادئ الدين فأبى، ليثبّت معالم الحقّ ويُخزي مظاهر الباطل المتغطرسة فاضحاً دواخلها وأساليبها الماكرة. وكان الإمام عليه السّلام منصرفاً إلى العبادة، وخلال ذلك كان يؤكّد موقفه الصلب الذي سينتهي به إلى الشهادة، ويُعلن الحقائق التي يضيق بها الظالمون ذرعاً، ويُوعظ ويُوبّخ المتغافلين.. فيكتب يوماً رسالةً من قعر السجن يعنونها إلى الحاكم المتسلّط هارون العبّاسيّ « الرشيد »: إنّه لن ينقضيَ عنّي يومٌ من البلاء، إلاّ انقضى عنك معه يومٌ من الرخاء، حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يَخسَر فيه المُبطِلون! (7)
سطرانِ تضمّنا: موعظةً، وتوبيخاً، وتهديداً.. أُرسِلا من السجن، من إنسانٍ مظلوم إلى طاغية متجبرّ، من حُجّةِ حقّ إلى إمام جور!
ولكي لا تُحتجَب الحقيقة.. أنّ الحاكم العبّاسيّ هو القاتل الجاني، وأنّ الإمام السجين هو المقتول الشهيد، أنبأ الإمام موسى الكاظم عليه السّلام بخبر شهادته أكثر من مرّة، في مواقع عديدة لا سيّما بعد أن غيّبه هارون الرشيد سنواتٍ عديدة في غياهب الحبوس، وأمر باغتياله ثمّ حاول إنكار ذلك! فلم يترك الإمام الكاظم عليه السّلام لهذه المكيدة أن تمرّ ـ رغم صعوبة الموقف، فلابدّ من تبيان الحقيقة ولو قُبَيلَ الرحيل أيضاً:
• روى المسعوديّ صاحب كتاب « مروج الذهب » في التاريخ قال: أدخلَ السنديُّ بن شاهك القضاةَ قبل موته ( أي الإمام الكاظم عليه السّلام ) بثلاثة أيّام، فأخرجه إليهم وقال لهم: إنّ الناس يقولون إنّ أبا الحسن في يدي في ضَنْك وضرر! ها هو ذا صحيحٌ لا علّة به ولا مرض ولا ضرر. فالتفت عليه السّلام فقال لهم: إشهَدُوا علَيّ أنّي مقتولٌ بالسّمّ بعد ثلاثة أيّام. فانصرفوا (8).
• وروى الشيخ المجلسيّ عن الحسين بن عبدالوهّاب أنّه ذكر في كتابه « عيون المعجزات ص 95 » هذه الرواية التي تقول بإحضار السنديّ بن شاهك رُطَباً مسموماً، وتقديمِه للإمام الكاظم عليه السّلام.
فأكل عليه السّلام منه عشر رطبات، فقال له السنديّ: تزداد ؟ قال عليه السّلام: حسبُك، قد بلغتَ ما يُحتاج إليه فيما أُمرتَ به!
ثمّ إنّ السنديَّ أحضر القضاة والعدول قبل وفاته ( أي الإمام الكاظم عليه السّلام ) بأيّام، وأخرجه إليهم وقال: إنّ الناس يقولون: إنّ أبا الحسن موسى في ضَنْك وضُرّ، وها هو ذا لا علّةَ به ولا مرض ولا ضرّ! فالتفت عليه السّلام فقال لهم: إشهدوا عَلَيّ أنّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة أيّام. إشهدوا أنّي صحيح الظاهر لكنّي مسموم، وسأحْمَرُّ في آخر هذا اليوم حُمرةً شديدة منكَرة، وأصفرُّ غداً صُفرةً شديدة، وأبيضُّ بعد غدٍ وأمضي إلى رحمةِ الله ورضوانه. فمضى عليه السّلام كما قال، في آخر اليوم الثالث (9).
• وفي رواية الطبريّ الإماميّ وخبره: كان سبب وفاته أنّ يحيى بن خالد البرمكيّ سمّه في رطبٍ وريحان أرسل بهما إليه مسمومَينِ بأمر الرشيد، ولمّا سُمّ وجَّهَ إليه بشهود حتّى يشهدوا عليه بخروجه عن أملاكه، فلمّا دخلوا قال عليه السّلام: يا فلان، يا فلان.. سُقيتُ السمَّ في يومي هذا، وفي غدٍ يَصفارُّ بدني ويَحمارّ، وبعد غدٍ يسودّ وأموت. فانصرف الشهودُ من عنده، فكان كما قال (10).
• أمّا الشيخ الصدوق فيروي الخبر بهذه العبارات: فأكل عليه السّلام فمرض، فلمّا كان من غدٍ بُعث إليه بالطبيب ليسأله عن العلّة فقال: ما حالك ؟ فتغافل عليه السّلام عنه، فلمّا أكثر الطبيب عليه أخرج عليه السّلام إليه راحته فأراها الطبيب، ثمّ قال له: هذه علّتي. وكانت خُضرةٌ وسطَ راحته تدلّ على أنّه سُمّ، فاجتمع في ذلك الموضع (11).
كيف نُفِّذ الاغتيال!
لو استقرأنا ـ أيّها الإخوة ـ تحرّكات هارون العبّاسي قُبَيل وبُعَيد شهادة الإمام الكاظم عليه السّلام لرأيناه قد تحرّى أُسلوباً خاصّاً في مكيدته، تحرّك من خلاله على ثلاث نقاط حسّاسة:
النقطة الأولى: استعمال الغدر الخفيّ، في حركةٍ هادئة لا تجذب نظراً ولا يشهدها أحد، من خلال خطوةٍ طبيعيّة..
يعني: في ظلام، وفي مائدة طعام. لا يحتاج الجاني إلى أن يستخدم سيفاً أو رمحاً، بل يكفي السمّ وسيلةً تتسلّل إلى جوف العبد الصالح، ليرقد بعدها في غيبوبة الوفاة.. لا أحد رأى ولا أحد سمع.
يذكر ابن الطقطقيّ إشارةً إلى هذه المكيدة فيكتب: كان الرشيد بالرِّقّة، فأمر بقتلهِ، فقُتل قتلاً خفيّاً، ثمّ أدخلوا عليه جماعةً من العدول بالكرخ ليشاهدوه؛ إظهاراً أنّه مات حتف أنفه صلوات الله عليه وسلامه (12). ويوضحّ ابن عنبة ذلك بشيءٍ من التفصيل والبيان حتّى يكتب: ولمّا وُلّي هارون الرشيد الخلافة أكرمَه وعظّمه ( إيهاماً للناس )، ثمّ قبض عليه وحبسه عند الفضل بن يحيى ( البرمكيّ )، ثمّ أخرجه من عنده فسلّمه إلى السنديّ بن شاهك. ومضى الرشيد إلى الشام، فأمر يحيى بنُ خالد السنديَّ بقتله، فقيل: إنّه سُمّ. وقيل: بل لُفّ في بساط وغُمِز ( والغَمْز هو العصر والكبس ) حتّى مات. ثمّ أُخرج للناس وعمل ( السنديّ ) مَحضراً بأنّه مات حتف أنفه، وتركه ثلاثة أيّام على الطريق.. يأتي مَن يأتي فينظر إليه ثمّ يكتب في المحضر (13).
النقطة الثانية: محاولة إبعاد الظنون عن شخص القاتل، فيصدر الأمر من الحاكم العبّاسيّ إلى الوزير، ومن الوزير إلى السجّان؛ لإبعاد الشكّ وتحريف النظر عن القاتل الحقيقيّ الذي قرّر قتلَ الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام وقد بذل هارون العبّاسيّ محاولاتٍ عديدة في إيكال هذه المهمّة إلى أشخاص بعيدين عن أُسرته وحاشيته، من ذلك ما يرويه الشيخ المجلسيّ قائلاً:
رأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا: رُويَ أنّ الرشيد لعنه الله لمّا أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام.. عَرَض قَتْله على جنده وفرسانه فلم يقبله أحدٌ منهم، فأرسل إلى عمّاله في بلاد الإفرنج يقول لهم: التمِسُوا لي قوماً لا يعرفون الله ورسوله؛ فإنّي أريد أن أستعين بهم على أمرٍ! فأرسَلوا إليه قوماً لا يعرفون من الإسلام ولا من لغة العرب شيئاً، وكانوا خمسين رجلاً، فلمّا دخلوا عليه أكرمهم وسألهم: مَن ربُّكم ؟ ومن نبيّكم ؟ فقالوا: لا نعرف لنا ربّاً ولا نبيّاً أبداً. فأدخلهمُ البيتَ الذي فيه الإمام عليه السّلام ليقتلوه، والرشيد ينظر إليهم من زاوية البيت، فلمّا رأوا الإمام رموا أسلحتَهم، وارتعدت فرائصهم، وخرّوا سُجَّداً يبكون رحمةً له، فجعل الإمام يُمرّ يده على رؤوسهم ويخاطبهم بلغتهم وهم يبكون. فلمّا رأى الرشيد ذلك خشي الفتنة وصاح بوزيره: أخْرِجْهم! فخرجوا وهم يمشون القهقرى؛ إجلالاً للإمام عليه السّلام، وركبوا خيولهم ومضَوا نحو بلادهم من غير استئذان (14).
وكأنّ هارون أراد أن يتذرّع بأنّ هؤلاء عصابة من الملاحدة، رأوا أن يقتلوا موسى بنَ جعفر سلام الله عليه لأنّه رجلٌ عابد. فخاب في هذه وغيرها، فأمر الفضلَ بن يحيى البرمكيّ أن يقتل الإمامَ الكاظم عليه السّلام وهو في السجن، فرفض، فشقّ على هارون ذلك فأمر بمعاقبة الفضل حتّى جُرّد من ثيابه وضُرب مئةَ سوط في مجلس العبّاس بن محمّد.. ثمّ أمر بتسليم الإمام موسى عليه السّلام إلى السنديّ بن شاهك.
وبلغ يحيى بنَ خالد البرمكي ( أبا الفضل بن يحيى ) الخبر، فركب إلى الرشيد وقال له: أنا أكفل بما تُريد.. متطوّعاً أن ينفّذَ ما رفضه ابنه الفضل من قتل الإمام الكاظم عليه السّلام في حبسه.
ثمّ خرج إلى بغداد ودعا بالسنديّ، وأمَرَه فيه بأمره، فامتثله السنديُّ وسَمَّه في طعامٍ قدّمه إليه (15).
وهكذا يستريح هارون الرشيد حين يسمع ـ وهو بعيد عن السجن ـ أنّ محسودَه قد اغتيل في خفاء، وبيد غيره من القُساة اللُّعناء! فلا يكون أثرٌ واضح لجريمته إذْ لم يُعْلَن شيء من ذلك حوله، ولم يصدر منه أمر علنيّ بقتل الإمام، وهو مع ذلك في راحةٍ من أمره حيثما وُجّهت التُّهمة وإلى أيّ أحدٍ غيرهِ! وأيَّ جهةٍ اتّجهت الشكوك إلى سواه!
النقطة الثالثة: وقد تركّزت على الإيهام وصرف النظر في أمرين:
أ. إبعاد الاحتمال عن ذهن الناس أنّ هارون الرشيد هو القاتل، أو هو الآمر بالقتل.. فسافر هارون إلى خارج بغداد، وقيل: ذهب إلى الرِّقّة أو غيرها في الشام، ومن هناك بعث أمرَه بقتل الإمام الكاظم عليه السّلام قتلاً خفيّاً (16). وكان قد أوكل بعض شؤونه إلى سليمان بن أبي جعفر المنصور.. ومنها مداراة الناس ومعالجة الموقف بعد اغتيال الإمام موسى عليه السّلام، فجلس سليمان في شُرفة من شُرَف قصره ينتظر تنفيذ الجريمة العظمى، حتّى إذا سمع الصياح والضوضاء أمر ولْدَه وغلمانه بأخذ نعش الإمام الشهيد بالقوّة من الحمّالين، فنزلوا وأخذوه من أيديهم وخرّقوا عليهم سوادهم، ووضعوا النعش الشريف على مفرق أربعة طرق، وأقام المنادون ينادون: ألاَ مَن أراد أن يرى الطيّبَ ابن الطيّب موسى بنَ جعفر، فليخرج.
وشارك سليمان بتشييع جنازة الإمام الكاظم عليه السّلام وحملها، متظاهراً بالتفجّع، حتّى احتفى ومشى متسلّباً مشقوقَ الجيب حاسرَ الرأس إلى مقابر قريش في باب التين، حيث دُفن فيها الإمام سلام الله عليه، بعدها كتب الرشيد إليه: وصلتْك رِحمٌ يا عمّ، وأحسن الله جزاءك، واللهِ ما فعل السنديُّ بن شاهك لعنه الله ما فَعلَه عن أمرنا! (17)
وهكذا يُصرَف النظر عن الآمر بالقتل هارون، وتُوجَّه أصابع الاتّهام إلى القاتل المأمور السنديّ بن شاهك، ويُتظاهَر بالحزن والتأبين من قِبَل الأُسرة العبّاسيّة.
ب. إنكار أنّ الإمام موسى الكاظم عليه السّلام قضى شهيداً بالقتل داخل السجن؛ لأنّ وفاته داخل حبس الرشيد يضع احتمال الاغتيال.. فالأمر يكتنفه الغموض فلابدّ لهارون من تبرئة نفسه وتبرئة بطانته!
وقد تقدّم أنّ السنديّ بن شاهك أحضر القضاة والعدول بعد تقديمه الرُّطَب المسموم للإمام الكاظم عليه السّلام، وأخرجه إليهم ليُشهِدَهم أنّه ليس ذا علّة ولا مرض ولا ضُرّ (18). وعمل هو أو يحيى بن خالد البرمكيّ بعد تنفيذ الاغتيال اللئيم، محضراً بأنّه تُوفّي وفاةً طبيعيّة، وتُركت جنازة الإمام عليه السّلام على الطريق ثلاثة أيّام ينظر إليها المارّة، لتُكتب شهادات الزُّور في المحضر (19).
ويذكر الطبرسيّ الفضل بن الحسن أنّه: لمّا استُشهد صلوات الله عليه أدخلَ السنديُّ عليه الفقهاء ووجوه الناس من أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عَدِيّ، فنظروا إليه لا أثر به من جراح ولا خنق، ثمّ وضعه على الجسر ببغداد، وأمر يحيى بن خالد فنُودي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، قد مات! فانظروا إليه. فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميّت، ثمّ حُمل فدُفن في مقابر قريش، وكانت هذه المقبرة لبني هاشم والأشراف من الناس قديماً (20).
وفي بعض الروايات أنّه عليه السّلام أُتي به إلى السوق فوُضع هناك، ثمّ نُودي عليه: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، ألاَ فانظروا إليه. فحفّ به الناس وجعلوا ينظرون إليه، ثمّ أمروا العلماءَ والفقهاء أن يكتبوا شهادتَهم في ذلك، فكتبوا جميعاً إلاّ أحمدَ بنَ حنبل، فكلّما زجروه لم يكتب شيئاً (21).
ويبدو أن هذا الخبر منقول عن هندوشاه بن سنجر حيث كتب: روى الشيعة: لمّا أخرجوا جثمان الإمام موسى بن جعفر كانوا ينادون ( أي العبّاسيون ): إمام الرافضة مات حتف أنفه. وكان أحمد بن حنبل حاضراً، وكان يبكي خِفْيةً، ولما قالوا: مات إمام الرافضة قال: لا والله، بل مات إمام المغرب والمشرق! (22)
وهكذا جدّ سعيُ القتلة في إنكار شهادة الإمام عليه السّلام، وتظاهروا بولائهم له أنّ السنديّ سأل الإمامَ الكاظم عليه السّلام أن يأذن له بأن يكفّنه، فأبى وقال له: إنّا ـ أهل بيت ـ مهورُ نسائنا وحجّ صرورتنا وأكفان موتانا من طُهرة أموالنا، وعندي كفني (23).
أمّا سليمان بن المنصور.. فقد هيّأ للإمام عليه السّلام كفناً فيه حَبرة استُعملت له بألفين وخمسمائة دينار، مكتوب عليها القرآن كلّه (24).
كلّ ذلك ليقال أنّ السلطة العباسيّة ليست حاقدةً على الإمام موسى عليه السّلام ولم يكن لها غرضٌ في قتل أو نيّة في غدر، بل ظاهر حالها يحكي المودّةَ والاحترام والإجلال.. وأنّ الإمام إنّما تُوفّي وفاةً عاديّة لا شكّ فيها!
ولمّا جيء بالجنازة أمر السنديّ بوضعها على الجسر، وأظهر للناس أنّه مات بقضاء الله تعالى. فكان الناس ينظرون إليه وليس به جرح (25)، حتّى إذا سارت جماهير الناس في بغداد ووجوهها وأشرافها لتشييع الجثمان الطاهر للإمام الكاظم عليه السّلام، تقدّمهم سليمان بن أبي جعفر المنصور في موكب جنائزيّ حزين.
وقفة تأبين
قضى الكاظمُ المظلومُ بالسمِّ غِيلةً | ببغدادَ.. مَن ذا للهواشم يقصدُ ؟! | |
قضى وحدَه في السجنِ ملتهِبَ الحشى | فلهفي عليهِ ذلك المتهجِّدُ | |
قضى في طواميرِ السجون بغُربةٍ | عن الأهل والأوطان.. قهراً مُبَعَّدُ | |
سنينَ قضاها في الحديد مكبَّلاً | وهارونُ في طغيانهِ يتمرّدُ | |
وفي حبسِه السندي اللعين ابنُ شاهَكٍ | فكان عليه كلَّ يومٍ يُشدِّدُ | |
ثلاثينَ رَطْلاً كان ثقلُ حديدهِ | ولم أدرِ ماذا قد جنى فيُحَدَّدُ! | |
ولمّا أراد الرجسُ مَحْوَ رسومهِ | له دسَّ سمّاً.. والحديثُ مؤكَّدُ | |
فقطّع منه قلبَه ومُرادَه | لكي يشتفي منه الفؤاد ويبردُ | |
قضى نحبَه.. وافَجْعَتاه ـ لوحدهِ | غريباً بقعر السجن وهْو مُصَفَّدُ | |
وأربعةٌ جاؤوا بنعشِ إمامنا | وأصواتُهم منها الحشى يتوقّدُ | |
ينادون: هذا نعشُ موسى بنِ جعفرٍ | هلّموا إليه ـ أيُّها الناسُ ـ واشهَدُوا | |
أهذا جزاء المصطفى بابنِ بنتِهِ | على الجسرِ يبقى مُرهَناً.. أين أحمدُ ؟! | |
وأين أُباةُ الضيم، أين زعيمها | عليٌّ هِزَبْرُ الكون ذاك المؤيَّدُ ؟! | |
أيا هاشمٌ.. ماذا أطاح بعزمِكم | وماذا دهاكم في المهمّات تجمدوا! | |
أيُلقى على جسرِ الرصافةِ فخرُكم | ويَهْنا لكم وسطَ المجالس مقعدُ! | |
ألا فاعلموا في كاظم الغيظ ما جرى | فمِن أجلهِ فالكونُ أكلَحُ أسودُ | |
وشُيّع في جمعٍ عظيمٍ لقبره | وقامت عليه النادباتُ تُردِّدُ | |
أيا قومُ هذا حُجّة الله في الورى | أبوه عليٌّ والنبيُّ محمّدُ |
التوديع إلى المثوى
ينقل البعض ـ توهّماً ـ أنّ السنديّ بن شاهك هو الذي تولّى تجهيز الإمام موسى الكاظم عليه السّلام بعد شهادته، وتكفينَه ودفنه.. وهذا في المصادر المعتبرة. نعم، طلب السنديّ من الإمام عليه السّلام قبل شهادته أن يأذن له بأن يكفّنه، فأبى عليه السّلام وقال: عندي كفني (26).
وحتّى سليمان بن أبي جعفر المنصور.. لم يكن ليتسنّى له ذلك، لدليلين:
الأول ـ الدليل الاعتقاديّ: حيث ثبّت العلماء أنّ الإمام لا يغسّله ولا يدفنه إلاّ إمام، استفادةً من الروايات الصحيحة الوافرة، منها:
• عن إبراهيم بن أبي سماك قال: كتبتُ إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام: إنّا قد روينا عن أبي عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام أن الإمام لا يغسّله إلاّ الإمام، وقد بلغَنا هذا الحديث، فما تقول ؟ فكتب إليَّ: إنّ الذي بلغك هو الحقّ (27).
• وعن أبي بصير قال: قال الصادق عليه السّلام: فيما أوصاني به أبي ( أي الإمام الباقر ) عليه السّلام أن قال: يا بُنيّ إذا أنا متّ فلا يغسّلني أحد غيرك؛ فإنّ الإمام لا يغسّله إلاّ إمام (28).
الثاني ـ الدليل الروائيّ: إذ توافدت الأخبار في خصوص شهادة الإمام الكاظم عليه السّلام أنّ الذي غسّله وكفّنه ودفنه بعد تجهيزه والصلاة عليه هو ابنه ووصيّه الإمام عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه، وممّن روى ذلك:
• أبو جعفر الطبريّ الإماميّ، فكتب: وبعدما مضى خمس عشرة سنة من مُلك الرشيد استُشهد وليّ الله ( أي الإمام الكاظم عليه السّلام ) في رجب سنة مئة وأربع وثمانين من الهجرة، وصار إلى كرامة الله عزّوجلّ وقد كمل عمره أربعاً وخمسين سنةً، ويُروى سبعاً وخمسين سنة.
وكان سبب وفاته أنّ يحيى بن خالد سمَّه في رُطَبٍ وريحان أرسل بهما إليه مسمومَين بأمر الرشيد، ولمّا سُمّ وجّه إليه بشهود حتّى يشهدوا عليه بخروجه عن أملاكه، فلمّا دخلوا عليه قال عليه السّلام: يا فلان ويا فلان! سُقيتُ السمَّ في يومي هذا، وفي غدٍ يصفارُّ بدني ويحمارّ، وبعد غدٍ يسودّ وأموت. فانصرف الشهود من عنده، فكان كما قال.
وتولّى أمرَه ابنُه عليُّ الرضا عليه السّلام، ودُفن ببغداد بمقابر قريش في بقعةٍ كان قبل وفاته ابتاعها لنفسه، وكانت وفاته في حبس المسيّب، وهو المسجد الذي بباب الكوفة (في من بغداد ـ الباب الذي يؤدّي إلى مدينة الكوفة).. الذي فيه السِّدرة (29).
وتولّي الأمر بعد الوفاة يكون من قبل المُوصى إليه، ويُقصَد بتولّي الأمر تجهيزُ المتوفّى الموصي، وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه، ثمّ دفنه.
• والذي رواه الطبريّ الإماميّ.. كان الشيخ الصدوق قد ثبّته من قبل ذلك في أخباره التي رواها، فكتب بعد ذكْر سندٍ طويل:
عن جماعةٍ من مشايخ أهل المدينة قالوا: لمّا مضى خمس عشرة سنة من مُلك الرشيد استُشهد وليّ الله موسى بن جعفر عليهما السّلام مسموماً، سمَّه السنديّ بن شاهك بأمر الرشيد، في الحبس المعروف بـ « دار المسيَّب » بباب الكوفة، وفيه السدرة.
ومضى إلى رضوان الله تعالى وكرامته يوم الجمعة لخمس خلون من رجب سنة ثلاث وثمانين ومئة من الهجرة، وقد تمّ عمره أربعاً وخمسين سنة. وتربته بمدينة السلام ( أي بغداد ) في الجانب الغربيّ بباب التبن في المقبرة المعروفة بمقابر قريش (30).
• وذهب إلى هذا ابنُ شهرآشوب فكتب: كانت وفاته ( أي الإمام الكاظم عليه السّلام ) في مسجد هارون الرشيد، وهو المعروف بمسجد المسيّب، وهو في الجانب الغربيّ (أي من بغداد) باب الكوفة؛ لأنّه نُقل إليه من دارٍ تُعرَف بـ « دار عَمرَويه » (31).
• وهنا نترك عمرو بن واقد يحدّثنا كيف استُشهد الإمام موسى الكاظم عليه السّلام مقتطعين من خبره هذه المشاهد:
ثمّ إنّ سيّدنا موسى عليه السّلام دعا بالمسيّب ( ابن زهير ) وذلك قبل وفاته بثلاثة أيّام، وكان المسيَّب موكَّلاً به، فقال له: يا مسيب، قال: لبّيك يا مولاي، قال عليه السّلام: إنّي ظاعن ( أي مسافر ) في هذه الليلة إلى المدينة مدينةِ جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ لأعهد إلى عليٍّ ابني ما عهده إليّ أبي، وأجعلَه وصيّي وخليفتي وآمره أمري. قال المسيّب:
فقلت: يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرسُ معي على الأبواب ؟! فقال: يا مسيّب! ضَعُفَ يقينُك بالله عزّوجلّ وفينا ؟! قلت: لا يا سيّدي، قال: فمَه، قلت: يا سيّدي ادعُ اللهَ أن يثبّتني، فقال: اللهمّ ثبّتْه… قال المسيب: فسمعته عليه السّلام يدعو، ففقدته عن مصلاّه، فلم أزل قائماً على قدمَيّ حتّى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجلَيه، فخررتُ لله ساجداً لوجهي؛ شكراً على ما أنعم به علَيّ من معرفته. فقال لي: إرفع رأسك يا مسيّب، واعلم أنّي راحل إلى الله عزّوجلّ في ثالث هذا اليوم. قال المسيّب:
فبكيت.. قال لي: لا تبكِ يا مسيّب، فإنّ عليّاً ابني هو إمامك ومولاك بعدي، فاستمسِكْ بولايته؛ فإنّك لن تضلّ ما لَزِمتَه. فقلت: الحمد لله. قال المسيّب:
ثمّ إنّ سيّدي عليه السّلام دعاني في ليلة اليوم الثالث فقال لي: إنّي على ما عرّفتك من الرحيل إلى الله عزّوجلّ، فإذا دعوتُ بشربةٍ من ماءٍ فشربتها ورأيتني قد اصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ، وتلّون ألواناً فخبّرِ الطاغيةَ بوفاتي، فإذا رأيت بي هذا الحدث فإيّاك أن تُظهر عليه أحداً ولا على مَن عندي [ أي مَن تراه يجلس عندي عند وفاتي ] إلاّ بعد وفاتي.
قال المسيّب بن زهير: فلم أزل أرقب وعدَه حتّى دعا عليه السّلام بالشربة فشربها، ثمّ دعاني فقال لي: يا مسيّب، إنّ هذا الرجس السنديّ بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غُسلي وكَفَني! هيهاتَ هيهات أن يكون ذلك أبداً! فإذا حُملتُ إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحِدوني فيها… قال المسيّب:
ثمّ رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به [ أي بالإمام الكاظم عليه السّلام ] جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضا عليه السّلام وهو غلام (32)، فأردت سؤاله، فصاح بي سيّدي موسى عليه السّلام فقال: أليس قد نهيتك يا مسيّب ؟!.. فلم أزل صابراً حتّى مضى وغاب الشخص.
ثمّ أنهيت الخبر [ والحديث ما زال للمسيب بن زهير ] إلى الرشيد، فوافى السنديّ بن شاهك، فواللهِ لقد رأيتُهم بعيني وهم يظنّون أنّهم يغسّلونه، فلا تصلُ أيديهم إليه.. ويظنّون أنّهم يُحنّطونه ويكفّنونه.. وأراهم لا يصنعون شيئاً! ورأيت ذلك الشخصَ يتولّى غُسله وتحنيطه وتكفينه وهو يُظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه، فلمّا فَرَغ من أمره قال لي ذلك الشخص [ أي الإمام الرضا صلوات ربّنا عليه ]: يا مسيّب، مهما شككتَ فلا تشكّنّ فيّ، فإنّي إمامك ومولاك، وحُجّة الله عليك بعد أبي عليه السّلام…
ثمّ حُمل عليه السّلام حتّى دُفن في مقابر قريش (33).
ويُقال: إنّه دُفن بقيوده، وكان عليه السّلام أوصى بذلك (34).
تزوير التاريخ
دأب الجُناة على حجب الحقائق عن الناس، وإيهام الأجيال أنّ الأئمّة عليهم السّلام تُوفُّوا وفاةً طبيعيّة، وإن كان بعضهم في ريعان الشباب: كالإمام محمّد الجواد عليه السّلام حيث استُشهد وعمره خمس وعشرون سنة، والإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام وقد استُشهد وعمره ثمانٍ وعشرون سنة. وحتّى لو كانوا يطوون الأعوام في طوامير السجون والزنزانات المظلمة، كالإمام موسى بن جعفر عليه السّلام.. فيُخرَج جثمانه الطاهر ليُدّعى أنّه مات موتاً عاديّاً ولم يكن به أثر من جُراحة، فتُلقى جنازته على الجسر ببغداد أو عند مفترق طرق السوق، ويُنصَب محضرُ الزُّور هناك ثمّ يُدعى الناس ليَشهَدوا أنّه عليه السّلام مات حتف أنفه، وقد تُرك ثلاثة أيّام على الطريق.. يأتي مَن يأتي فينظرإليه ثمّ يكتب في المحضر! (35)
وهذا غريب في تاريخ الحكّام، وباعثٌ على الريبة والشك، وكما قيل: يكادُ المُريب يقول خذوني! فأراد بنو العبّاس تبرئة أنفسهم من دم الإمام الكاظم عليه السّلام فزاد الشكّ فيهم بل تأكّد الأمر أنّهم القَتَلة المكَرَة، وقد خابت مساعيهم في تزوير هذه الحقيقة.
ويأتي بعد قرون، وبين عصر وآخر مَن يشكّك بشهادات أهل البيت وأئمّة الهدى عليهم السّلام، أو يدّعي عدمَ ثبوتها، رغم مثول أدلّتها في صحائف التاريخ وتوافر الروايات العامّة والخاصّة على صحّتها: فمن الروايات العامّة، قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: ما مِن نبيّ ولا وصيّ.. إلاّ شهيداً (36).
وقول الإمام الحسن عليه السّلام: واللهِ إنّه لعهدٌ عهِدَه إلينا رسول الله صلّى الله عليه وآله.. ما مِنّا إلاّ مسموم أو مقتول (37).
وقول الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: واللهِ ما منّا إلاّ مقتول شهيد (38).
وقول الإمام الرضا عليه السّلام: ما منّا إلاّ مقتول (39).
ومن الروايات الخاصّة، ما ذكرناه من قول الإمام الكاظم عليه السّلام للطبيب الذي بُعث إليه في السجن وقد سأله: ما حالك ؟ فتغافل عنه، فلمّا أكثر الطبيبُ السؤالَ عليه أخرج إليه راحته فأراها الطبيب، ثمّ قال:هذه علّتي. وكانت خضرةٌ وسط راحته تدلّ على أنّه سُمّ (40).
وإخباره القضاةَ بشهادته، قائلاً لهم: إشهدوا علَيّ أنّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة أيّام، اشهدوا أنّي صحيح الظاهر لكنّي مسموم (41).
وقوله لشهود الزور الذين جِيء بهم ليقولوا بمرضه ووفاته مِن غير أثر: يا فلان، يا فلان! سُقيتُ السّمَّ في يومي هذا، وفي غدٍ يصفارّ بدني ويحمارّ، وبعدَ غدٍ يسودّ وأموت… فكان كما قال (42).
وقد أكّد شهادتَه عليه السّلام الشيخُ الصدوق حين كتب: اعتقادنا في النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه سُمَّ في غزاة خيبر… وموسى سمَّه هارونُ الرشيد فقتله. ثمّ قال الصدوق: وقد أخبر النبيّ والأئمّة عليهم السّلام أنّهم مقتولون، ومَن قال أنّهم لم يُقتَلُوا فقد كذّبهم، ومَن كذّبهم فقد كذّب الله (43).
ويرى ابن طاووس أنّ الأئمّة عليهم السّلام شهداء كلّهم، يثبّت ذلك في دعاء الصلوات الذي يذكره في أعمال كلّ يوم من شهر رمضان، وفيه: اللهم صلِّ على عليٍّ أمير المؤمنين، ووالِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وضاعف العذاب على مَن شَرِك في دمه… اللّهمّ صلِّ على موسى بن جعفر إمامِ المسلمين، ووالِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وضاعف العذابَ على مَن شرك في دمه ـ وهو الرشيد (44).
ويؤكّد ابن طاووس ذلك في الزيارة التي يُوردها في كتابه ( مصباح الزائر ) وفيها: اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وأهل بيته، وصلِّ على موسى بن جعفر وصيِّ الأبرار، وإمامِ الأخيار، وعيبة الأنوار… ومَألفِ البلوى والصبر، والمضطهَدِ بالظلم، والمقبورِ بالجور، والمعذَّبِ في قعر السجون وظُلَم المطامير، ذي الساق المرضوض بحَلَق القيود، والجَنازة المُنادى عليها بذُلّ الاستخفاف، والواردِ على جَدّه المصطفى وأبيه المرتضى وأُمِّه سيدةِ النساء بإرثٍ مغصوب، وولاءٍ مسلوب، وأمرٍ مغلوب، ودمٍ مطلوب، وسَمٍّ مشروب..
وتواترت المصادر على إثبات شهادة الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام بما لا يدع مجالاً للتردّد والشكّ، ومن تلك المصادر:
ـ إثبات الوصيّة للمسعوديّ ص 169.
ـ تاريخ الفخريّ لابن الطقطقيّ ص 196.
ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة لابن الصبّاغ المالكيّ ص 238.
ـ عمدة الطالب لابن عنبة 196.
ـ الارشاد للشيخ المفيد، ذكر شهادته عليه السّلام بشيء من التفصيل في باب: السبب في وفاته ص 298 ـ 302.
ـ تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد للشيخ المفيد ص 110.
ـ المقنعة للشيخ المفيد ص 72 ـ 75.
ـ دلائل الإمامة للطبريّ الإماميّ ص 148.
ـ إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسيّ 34:2.
ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 383:2.
ـ روضة الواعظين للفتّال النيسابوريّ 185.
ـ أُرجوزة الحرّ العامليّ.
ـ تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزيّ.
ـ الدروس للشهيد الأوّل ص 155.
ـ الإقبال للسيّد ابن طاووس 97.
ـ أمالي الصدوق ص 149.
ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام للشيخ الصدوق 93:1 / ح 13، 85:1 / ح 10، 99:1 / ح 4.
ـ بصائر الدرجات للصفّار القمّي ص 483 / ح 12 من الباب 9، الفصل العاشر.
ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 206:48 ـ 249.
ـ الغَيبة للطوسيّ 24.
ـ الكافي للشيخ الكلينيّ 203:1 / ح 5.
ـ المصباح للكفعمّي.
ـ جنّات الخلود للخاتون آباديّ 31.
ـ أُرجوزة الشيخ الفتّونيّ.
ـ التتمّة في تواريخ الأئمّة عليهم السّلام للسيّد تاج الدين الحسينيّ العامليّ ص 116.
ـ مسند الإمام الكاظم عليه السّلام للشيخ عزيز الله العطارديّ 104:1 ـ 132.
وغيرها من المصادر.. تُوجز أو تفصّل قصّة شهادة الإمام المظلوم المسموم مولانا موسى بن جعفر الكاظم صلوات الله عليه.
رزقنا الله في الدنيا زيارتَه، وفي الآخرة شفاعتَه،
وأثبتَ في قلوبنا محبّتَه، وفي ضمائرنا ولايتَه والحمد لله ربّ العالمين،
وأزكى الصلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.
1 ـ الفخريّ للسيّد فخرالدين محمّد بن تاج الدين الحسنيّ، المعروف بـ « ابن الطقطقيّ » ت 709 هـ.. ص 196.
2 ـ الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة للمحدّث والمؤرّخ عليّ بن محمّد المالكيّ، المشهور بـ « ابن الصبّاغ »: ت 855 هـ.. ص 238.
3 ـ الغَيبة للطوسيّ 21. إثبات الهُداة بالنصوص والمعجزات للحرّ العامليّ 520:5 / ح 37. الإرشاد للشيخ المفيد أبي عبدالله محمّد بن النعمان البغدادي، ت 413هـ.. ص 235.
4 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام للشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، ت 381 هـ ـ 85:1 / ح 10. الغَيبة للطوسيّ 22.
5 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 95:1 / ح 14.
6 ـ تاريخ اليعقوبيّ لأحمد بن إسحاق، ت 292 هـ.. ج 3 ص 151.
7 ـ تاريخ بغداد 32:13، لأحمد بن عليّ الأشعريّ الشافعيّ، المعروف بـ « الخطيب البغداديّ » ت 463 هـ.
8 ـ إثبات الوصيّة لأبي الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ الهذليّ، ت 346 هـ ـ ص 169.
9 ـ بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر المجلسيّ، ت 1111 هـ ـ 247:48 ـ 248 / ح 56 من الباب 43. قرب الإسناد للمحدّث عبدالله بن جعفر الحميريّ، ت ق 3 هـ ـ ص 142. عيون أخبار الرضا عليه السّلام 96:1 / ح 2 من الباب 8.. وفيه أنه عليه السّلام قال: غيرَ أني أُخبركم أيُّها النفر أنّي قد سُممتُ في تسع تمرات، وأنّي أخضرّ ( وفي نسخة: أحتضر ) غداً، وبعد غدٍ أموت. قال الراوي: فنظرتُ إلى السنديّ بن شاهك ترتعد فرائصه ويضطرب مثل السعفة. أمالي الصدوق 128. الغَيبة للطوسيّ 24. الكافي للكلينيّ محمّد بن يعقوب الرازيّ، ت 329 هـ ـ 258:1 / ح 2.
10 ـ دلائل الإمامة للطبريّ الإماميّ 147.
11 ـ أمالي الصدوق 146.
12 ـ الفخريّ 196.
13 ـ عُمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب للسيّد النسّابة جمال الدين أحمد بن عليّ الحسنيّ، المعروف بـ « ابن عنبة » ت 828 هـ، ص 196 ـ عنه بحار الأنوار 248:48 / ح 57.
14 ـ بحار الأنوار 249:48.
15 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ أبي عليّ الفضل بن الحسن الطِبْرسِيّ، ت ق 6 هـ ـ 33:2 ـ 34.
16 ـ الفخري 196. عمدة الطالب 185.
17 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 99:1 / ح 5 من الباب 8. كمال الدين للشيخ الصدوق 38:1. إعلام الورى 34:2 ـ 35. مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب محمّد بن عليّ السَّرَويّ المازندرانيّ، ت 588 هـ ـ ج 4 ص 328.
18 ـ عيون المعجزات 95.
19 ـ عمدة الطالب 185.
20 ـ إعلام الورى 34:2. الإرشاد للشيخ المفيد 302.
21 ـ منتهى الآمال للشيخ عبّاس القمّي 345:2.
22 ـ تجارب السلف للمؤرّخ هندوشاه بن سنجر بن عبدالله صاحبي نخجواني ص 140.
23 ـ الغَيبة للطوسيّ 22. والطُّهْرة: النقاء، والمراد به في هذا المقام المالُ النقيّ من كلّ شبهة وشائبة.
24 ـ إعلام الورى 34:2.
25 ـ التتمّة في تاريخ الأئمّة عليهم السّلام للسيّد تاج الدين الحسينيّ العامليّ. إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحرّ العامليّ.
26 ـ إعلام الورى 34:2.
27 ـ مختصر بصائر الدرجات 13 ـ عنه بحار الأنوار 288:27 / ح 1.
28 ـ مناقب آل أبي طالب ـ عنه بحار الأنوار 290:27 / ح 4.
29 ـ دلائل الإمامة 147.
30 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 99:1 / ح 4 من الباب 8.
31 ـ مناقب آل أبي طالب 348:3 ـ عنه بحار الأنوار 239:48 / ح 47 ـ الباب 43.
32 ـ وفي نسخة: وكان عهدي لسيّدي الرضا عليه السّلام: أي كان ميثاقي وعهدي الذي أخذه الإمام الكاظم عليه السّلام منّي بسيّدي الرضا عليه السّلام، وعصري مقرون به، فأظنّ أنّه الرضا عليه السّلام، وهو في هذا الوقت غلام، فأردت أن أسأله.
33 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 100:1 ـ 104 / ح 6 من الباب 8.
34 ـ فِرق الشيعة للنوبختيّ 85.
35 ـ عمدة الطالب 196.
36 ـ بصائر الدرجات 148 ـ عنه بحار الأنوار 516:22.
37 ـ الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم للشيخ النباطيّ البياضيّ، ت 877 هـ، ج 128:2 ـ الباب العاشر.
38 ـ مناقب آل أبي طالب 51:2.
39 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام 203:2 / ح 5 ـ الباب 46، والرواية ينتهي سندها إلى أبي الصلت الهرويّ رحمه الله.
40 ـ أمالي الصدوق 146.
41 ـ عيون المعجزات 95.
42 ـ دلائل الإمامة 147.
43 ـ اعتقادات الصدوق 109 ـ 110.
44 ـ إقبال الأعمال للسيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى بن طاووس، ت 664 هـ ـ ص 97.
المصدر: (holykadhmia)