الحكمة – متابعة: عند الوصول إلى محطة الحافلات في بلدة “وادي آش” الإسبانية، بدت تلك البلدة كغيرها من البلدات الأندلسية الصغيرة بمنازلها المطلية باللون الأبيض وساحاتها المظللة والخلابة. وبينما كنت أصعد قمة أحد التلال، ظهر أمامي مشهد غريب، أشبه بمشاهد كوكب المريخ.
وبعد إلقاء نظرة فاحصة، استطعت أن أرى مداخن بيضاء صغيرة تبرز من التلال المنتشرة في تلك البلدة، ورأيت كذلك أبوابا أمامية محفورة في جوانب البيوت الصخرية، وكأنها بيوت قبائل “الهوبيت” الخيالية في فيلم “سيد الخواتم”.
وصلت إلى حي “باريو دي كويفاس”، (أو حي الكهوف)، حيث يعيش أكثر سكان البلدة تحت مستوى سطح الأرض، وهم السكان المحليون الذين عاشوا في هذه الكهوف لمئات السنين.
ناداني رجل عجوز جالس على كرسي مصنوع من الخوص، أمام فناء بيته، قائلا: “أتود أن ترى ما بداخل إحدى هذه الكهوف؟”. وكان اسم الكهف (كهف خوسيه) محفوراً على قطعة خشبية تقع بجوار باب بيته.
كنت قد سمعت أن سكان بلدة “وادي آش” ودودون ويرحبون بالضيوف، لكني لم أتوقع دعوتي إلى داخل أحد منازلهم بهذه السرعة بعد وصولي البلدة. ولبّيت الدعوة على الفور.
قال خوسيه، وهو يشير لي كي أتبعه داخل مسكنه المتعرج: “يعتقد كثيرون أن الكهوف كئيبة وقذرة ومظلمة، ولكن كما ترى، ليس ذلك واقع الحال على الإطلاق في ‘وادي آش'”.
قادني خوسيه بفخر واعتزاز داخل منزله متباهياً بغرفه ومقتنياته العديدة. ومع أن مطبخه مبني من الطوب اللبن، إلا أنه يبدو عصريا، حيث ترى الفلفل الأحمر والبصل والثوم المجفف وهي تتدلى من السقف وعلى الجدران. ثم أراني خوسيه غرفة طعام كبيرة تحوي طاولة خشبية طويلة تنتشر عليها أوان خشبية بداخلها فواكه وخضروات مجففة. وكانت الجدران مزيّنة بتعاويذ دينية وغيرها من الحلي الفولكلورية.
أراني خوسيه غرفة نومه، التي كان بداخلها سرير كبير ذهبي اللون ولوحات دينية على الجدران وثوب مزخرف أحمر اللون، مما يلبسه الفلامنكو، معلقاً في إحدى ثنايا الغرفة.
قال خوسيه: “يعود هذا الثوب إلى عائلتي. مازالت الفلامنكو جزءاً مهماً للغاية من تراثنا الحضاري هنا، كما هي الحال في الكثير من مناطق الأندلس”.
أما أكثر أقسام المنزل التي بدا وكأنه يفتخر بها أكثر من غيرها فقد كان حمامه، وكان صغيراً يحوي صنبور استحمام مبنياً كجزء لا يتجزأ من الحمام. كان المنزل يبدو مريحاً بما فيه الكفاية، ولكن لم يكن بوسعي إلا أن أتساءل عما يعنيه حقاً العيش داخل كهف.
قال خوسيه بصوت عال: “”أنا معجب بمنزلي، ولا أتخيل أن أعيش في مكان غيره. عاشت عائلتي هنا لأجيال، ولدي كل ما احتاج إليه. لا يمكنني تصور استبداله بمنزل عادي. يصبح الطقس حارا للغاية في الصيف، ونكون محميين من ذلك الحر هنا بالداخل. تقوم الكهوف بدور مكيف هواء طبيعي، كما أن البقاء تحت سطح الأرض يحافظ نسبياً على الدفء خلال برد الشتاء”.
وأشار إلى أنه يعتقد أن الكهوف بنيت منذ 500 عام مضت، لكنه جرى بالطبع تحديثها حالياً وجُهزت بقطع أثاث ومعدات وأجهزة عصرية.
وبعد ذلك، أخذني إلى شرفته التي تقع فوق منزله تماماً، والتي تمنحك إطلالة رائعة على بلدة ‘وادي آش’.
قال خوسيه وهو يشير إلى مدخنة بيضاء صغيرة تبرز من خلال واجهة صخرية مدورة: “يعيش أكثر أصدقائي في الكهوف، وتقع العديد من المباني العامة في الكهوف أيضاً، فهناك مثلا تجد كنيسة. انظر إلى الخلف وستعرف حقائق أكثر عن أصل قوم ‘وادي آش'”.
التفتُ ورأيت قلعة على الطراز العربي، ذات أبراج، وهي تجثم فوق البلدة.
قال خوسيه: “بنى الموريون (شعوب المناطق المغاربية) هذه عندما حكموا بلدتنا قبل ما يقرب من ألف عام”.
وبعد توجيه الشكر لخوسيه على حفاوته، توجهت إلى “مركز التعريف بالكهوف” حيث علمت أن المكان الحالي لبلدة “وادي آش” يعد أحد أقدم الأماكن التي عاش فيها الإنسان في أوروبا، ويعود إلى العصر الحجري. ومع ذلك، بنى الرومان البلدة الرئيسية لغرض استخراج الفضة من التلال المجاورة، ثم احتلها الموريون عندما حكموا الأندلس خلال الفترة ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر.
وكانت بلدة “وادي آش”، خلال فترة حكم الموريين، بلدة تجارية مهمة حيث كانت تقع في منتصف الطريق بين مدينة غرناطة، المعقل القوي لقصر الحمراء، والبحر. وعندما استعاد الملوك الكاثوليك سيطرتهم على الأندلس واستولوا على غرناطة عام 1492، فر العديد من الموريين إلى الجبال المجاورة وبلدة “وادي آش”. كما لجأ إليها كثيرون خلال الفترة بين عامي 1568 و1571، إبان “حرب البشرات”. ولدى وصولهم إلى البلدة ولم يجدوا مكاناً يعيشون فيه، قرر الكثير من المورسكيين (الموريون الذين أجبروا على التنصّر) أن يبنوا بيوتهم تحت سطح الأرض، للهروب في المقام الأول من درجة الحرارة العالية. ومع ذلك، وبخلاف الكهوف الطبيعية الكائنة في الصخور والتي تُشكل أكثر الكهوف، فإن تلك الكهوف الموجودة في “وادي آش” قد حُفرت تحت سطح الأرض.
وبينما نجد أحياءً كهفية في بلدات مجاورة مثل باثا وأويسكار (كلاهما بمقاطعة غرناطة)، إلا أن بلدة “وادي آش” تضم أكثر من ألفي مسكن تحت سطح الأرض، ما يجعل البلدة موطناً لأكبر عدد من بيوت الكهوف في أوروبا بأكملها.
وحتى عقود قليلة، كان يُنظر إلى بيوت الكهوف ببلدة “وادي آش” على أنها مساكن للفقراء، أما اليوم فقد أصبحت أكثر عصرية، إذ يغيّر العديد من السكان شكلها ليبنوا عليها مطاعم وفنادق، بل وحتى تحويلها إلى أماكن سياحية.
وعند عودتي إلى موقف الحافلات، لاحظت لافتة كبيرة معلقة على الجدار الخارجي لأحد الكهوف مكتوب عليها “للبيع”. لم يسعني إلا أن أتساءل: تُرى، ما هي تكلفة شراء تلك الدار؟