طرق حفظ الطعام: من ساحات المعارك إلى المتاجر

279

الحكمة – متابعة: ربما يضطر الجنود للابتعاد مسافات طويلة عن وسائل الراحة التي توفرها لهم المطابخ. ورغم ذلك، فهم يحتاجون للطعام طوال الوقت. وتستعرض “بي بي سي فيوتشر” الحيل الذكية لإنتاج أطعمة تظل صالحة للأكل أثناء الانتقال من مكان لآخر.

تكشف وجبات إعاشة الجنود الدانماركيين عن مدى تطور حصص الإعاشة الحديثة

عندما يتوجه الجنود إلى ساحة المعركة، يحملون ابتكارات هندسية صغيرة فائقة الذكاء، ولا نقصد بهذه الابتكارات الأسلحة فحسب، فقد ركزت بعض الأبحاث عالية التقنية على تطوير وجبات إعاشة الجنود، والحفاظ عليها في حالة جيدة.

ويجب أن تكون هذه الوجبات خفيفة الوزن وسهلة الحمل من مكان لآخر، وأن تبقى صالحة للأكل لفترة طويلة رغم تعرضها لحرارة الشمس لأسابيع، وأن تمد الجسم بعدد هائل من السعرات الحرارية التي يحتاجها الجنود في ساحة القتال، ما يزيد على أربعة آلاف سعر حراري يوميا، وفي الوقت نفسه، لا تكلف دافعي الضرائب مبالغ طائلة.

وأسفرت هذه الأبحاث عن بعض الحيل العلمية الذكية التي استخدمت فيما بعد لحفظ السلع الغذائية التي تجدها ضمن قائمة التسوق المعتادة.

تقول الكاتبة أنستاسيا ماركس دي سالسيدو، مؤلفة كتاب “مطابخ إعداد الجنود للقتال”، إن من أبرز الأصناف التي طورها الباحثون ضمن وجبات إعاشة الجنود هو الخبز.

فإن الخبز الطازج ما يلبث أن يخرج من الفرن حتى يبدأ في التجلد والتيبس، ويعزى ذلك إلى انتشار خيوط من النشا، تسمى أميلوز، في بنية الخبز بأكملها ومن ثم يصبح جافا تدريجيا. إلا أن ثمة إنزيمات تسمى أميليز يمكنها تقطيع خيوط الأميلوز، لكن هذه الإنزيمات تفقد خصائصها الطبيعية بفعل الحرارة أثناء طهي الخبز. لهذا، يصبح الخبز الفرنسي بعد بضعة أيام منفرا ويابسا إلى حدّ الإضرار باللثة.

وفي منتصف القرن العشرين، اكتشف علماء أطعمة من جامعة ولاية كانساس، على صلة بالجيش الأمريكي، أن إضافة إنزيم أميليز الذي يتحمل الحرارة، سيغير المعادلة تماما.

وهذه الإنزيمات المأخوذة من بكتيريا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة تستطيع أن تواصل تكسير النشا حتى بعد خروج الخبز من الفرن، ليبقى طريا ومرنا بشكل عجيب، وتطول مدة صلاحيته وتخزينه.

ووُضع الخبز المعالج بهذه الطريقة في أكياس، وأُضيف إلى حصص إعاشة الجنود. وتقول سالسيدو مازحة: “لن أقول إن هذا الخبز رائع المذاق، ولكنه يفي بالغرض”.

وقد تندهش إن عرفت أن هناك أنواعا مشابهة من هذا الخبز قد وصلت إلى أرفف متاجر البيع بالتجزئة. ويحتوي اليوم كل الخبز الذي تجده في متاجر المواد الغذائية تقريبا على إنزيمات الأميليز المأخوذة من البكتيريا، والتي تعمل على إبقاء الخبز طريا لفترة أطول، إذ استغلت المصانع الخاصة النتائج التي توصلت إليها الأبحاث السابقة في هذا الصدد لزيادة أرباحها.

وتقول سالسيدو إن أكياس الخميرة الفورية المجففة المتوفرة اليوم كانت أيضا ثمرة الأبحاث العسكرية. وركزت هذه الأبحاث على وضع الخميرة في حالة من السكون وتعليق وظائفها الحيوية ليتسنى نقلها عبر أرجاء العالم. وقبل ذلك، كانت الخميرة الحية تباع في صورة قوالب مجمدة، على أن تُستهلك في مدة لا تتجاوز نحو عشرة أيام.

وثمة جانب كيميائي آخر مثير للاهتمام في وجبات إعاشة الجنود، يتمثل في مفهوم يسمى النشاط المائي، وهو الماء المتوفر لنمو البكتيريا غير المرتبط بجزيئات الطعام. فإن البكتيريا والفطريات تنمو في الأطعمة الرطبة أكثر مما تنمو في الأطعمة الجافة. ولتتأكد بنفسك، ضع قرصا من الجبن الفرنسي الطري “البري” ورقيقة ذرة هشة لينضجا في الهواء الطلق، وانتظر لترى أيهما سيفسد أولا.

لكن العامل الحاسم في إطالة مدة الصلاحية ليس المحتوى المائي للطعام، بل كمية جزيئات الماء العائمة غير المتصلة بأي شيء أخر.

وقد تصبح هذه الجزيئات المسبب الرئيسي للمشاكل التي تهدد سلامة الأطعمة وتتسبب في إفسادها. فقد تبين أن الأطعمة لا يشترط أن تصل إلى درجة الجفاف التام لتظل صالحة لفترات طويلة، بل كل ما نحتاجه لإطالة مدة صلاحيتها هو تقليل النشاط المائي إلى معدل معين.

وتقول سالسيدو إن الجيش الأمريكي ووكالة ناسا الفضائية ساهما في تمويل مشروع مهم أُجري في منتصف القرن العشرين، حول الاستفادة من النشاط المائي للحفاظ على الطعام طازجا لفترات طويلة.

وتتابع: “وتمكن علماء الأطعمة من خلال هذا المشروع من إنتاج أطعمة تبدو رطبة، لكنها تمنع نمو الكائنات الحية، أو على الأقل الكائنات الدقيقة”.

وبإضافة الملح والسكر إلى الأطعمة، ترتبط الجزئيات المائية من دون أن يبدو الطعام جافا. فضلا عن أنه من الممكن حفظ الرقائق الهشة والجبن الطري معا في كيس واحد لسنوات، وستظل الرقائق مقرمشة والجبن طريا، مادام النشاط المائي للجبن يعادل النشاط المائي لتلك الرقائق.

وتقول سالسيدو مفسرة: “في هذه الحالة، لن ينتقل الماء بين الاثنين”. وهذه الطريقة تستخدم في الأطعمة التي تباع في الأسواق كما في وجبات إعاشة الجنود.

نموذج من وجبات إعاشة الجنود في فرنساتحتوي وجبات إعاشة الجنود في فرنسا على عناصر اشتهر بها المطبخ الفرنسي، مثل الدجاج مع خضروات الربيع

وأشارت سالسيدو إلى تقنية أخرى توصلت إليها أبحاث أجريت برعاية الجيش، ثم انتشرت لتصل إلى مطابخنا، وهي معالجة الطعام بالضغط العالي بدلا من الحرارة. إذ تنفجر الكائنات الدقيقة تحت الضغط العالي، وبهذا يصبح الطعام معقما. ومن خلال هذه العملية، أصبح من الممكن الحصول اليوم على لحوم خالية من المواد الحافظة، وكذلك أنواع من الصلصة المعبأة، وعصائر في قوارير لا يتغير طعمها، وتسمى هذه العملية أحيانا البسترة الباردة.

وحين تتفقد الأقسام المختلفة في متاجر البيع بالتجزئة، سترى الكثير من السلع المعبأة التي طورها العلماء لغرض آخر، وتمتد جذور البعض منها إلى ما قبل العصر الحديث.

وقد طُورت العلب المعدنية المتواضعة على سبيل المثال لأغراض عسكرية، بعد أن ناشدت الحكومة الفرنسية، إبان حروب نابليون بونابارت، المخترعين لابتكار طريقة لحفظ الأطعمة للجنود لتبقى صالحة لفترات طويلة. وتمخضت الأبحاث عن عملية التعليب، وإن كانت في ذلك الوقت تقتصر على أوانٍ زجاجية محكمة الإغلاق.

وما يثير الاستغراب أن هذه المنتجات والابتكارات انتشرت من ساحات القتال إلى متاجر البيع بالتجزئة، لكنها تركت أثرا كبيرا على طرق حفظ الأطعمة.

وتقول سالسيدو: “إذا أزلنا جميع الأصناف التي طُورت لأغراض عسكرية من أرفف متجر البيع بالتجزئة، فربما يخلو المتجر من نصف السلع”.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*