تلوث الليطاني… سموم النهر تنشر السرطان بين البقاعيين
265
شارك
الحكمة – متابعة: تسارعت خطوات الطفلة اللبنانية سهى، هربا من الرائحة الكريهة المنتشرة على طول طريقها إلى مدرسة بر الياس الابتدائية الواقعة بالقرب من ضفة نهر الليطاني أكبر مجرى مائي في لبنان، إذ تخشى الإصابة بالأمراض الصدرية والمعوية بسبب التلوث الكبير الذي تعاني منه قرى محافظة البقاع شرقي لبنان، وتحديداً المناطق القريبة من نهر الليطاني “شديد التلوث” كما يصفه رئيس لجنة الصحة النيابية السابق، الطبيب إسماعيل سكرية الذي يشعر بالقلق الشديد من قائمة الأمراض المنتشرة في المنطقة وعلى رأسها السرطان والذي تجاوزت نسبة المصابين به من بين أبناء بلدات حوض الليطاني، المعدل الوطني العام الذي يبلغ 2.25 بالألف من المواطنين، وفق ما جاء في دراسة “علاقة التلوث بارتفاع نسبة مرض السرطان في قرى حوض الليطاني” الاحصائية المشتركة التي قادها النائب السابق سكرية بالتعاون مع الجامعتين اللبنانية والأميركية وتم الكشف عن نتائجها في إبريل/نيسان من عام 2016.
وتسجل البلدات والقرى القريبة من الليطاني، زيادة متسارعة في سرطان المعدة والثدي والرئة والبروستات بين أبناء المنطقة، وفق ما جاء في الداراسة التي رصدت إصابة 92 حالة بالسرطان في بلدة القرعون البقاعية خلال الأعوام الأربعة الماضية، كما تبين أن 44 من أهالي بلدة حوش الرافقة في البقاع الشمالي، والتي يخترق أراضيها مجرى نهر الليطاني، يعانون من أمراض سرطانية، أدت إلى وفاة 19 منهم خلال الفترة الماضية بحسب ما وثقته بلدية القرية، بالإضافة إلى تصاعد نسب الإصابة باالسرطان بين أهالي قرى تمنين التحتا والتي يحتل سرطان المعدة نسبة 25 في المئة من بين الإصابات السرطانية فيها، كما يقول الطبيب سكرية الذي خلصت دراسته إلى وجود علاقة قوية بين الارتفاع في نسب الإصابة بالسرطان ومناطق حوض الليطاني، في ظل تضاعف وارتفاع نسب التلوث في المنطقة.
“لا تقتصر “أمراض النهر” على نسب السرطان التي تنعكس على شكل جنازات بالجملة في البلدات القريبة من النهر، لكن أيضاً من خلال حالات التسمم وأمراض الجهازين الهضمي والتناسلي التي تتكاثر في محيط النهر”، بحسب ما قاله الصيدلاني محمد الحموي، الذي يعمل في بلدة القرعون التي تحتضن أكبر بحيرة صناعية في لبنان على مجرى الليطاني، والتي يصل سمك الملوثات الراكدة في قعرها إلى 10 أمتار.
ويعزو الصيدلاني ارتفاع نسبة الأمراض “التي تثقل جيب المواطن وتشكل ضغطا على القطاع الصحي في البقاع” إلى “ارتفاع نسبة السمية في اجساد المواطنين نتيجة تراكم المعادن الثقيلة في المياه وفي المزروعات”.
ويسجل فصل الصيف ارتفاع نسبة الإصابة بالحرارة والإسهال بسبب ارتفاع استهلاك الخضر المروية من مياه النهر، في ظل لجوء بعض المزارعين إلى كسر قنوات نقل مياه الصرف الصحي قبل وصولها إلى محطات التكرير واستخدام مياه المجاري للري”.
ويذكر الصيدلاني الحموي بأن “لجنة وزارية أصدرت تقريراً عام 1994 أعلنت فيه أن مياه النهر ومياه بحيرة القرعون غير صالحة لا للري ولا للاستخدام الزراعي أو الصناعي ولا للسباحة، ولكم أن تتخيلوا الوضع بعد كل هذه السنوات”. ويشير مثلاً إلى أن “النسبة العالمية المقبولة لبكتيريا القولون في المياه المستخدمة للري هي 1% بالـ250 ميليلتر، بينما في البحيرة وجدنا أن النسبة تبلغ 700% و 800% بالميليلتر”. وهو ما يتفق مع ما جاء في دراسة علمية وبيئية عن النهر، أجرتها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في عام 2013، وتضمنت مؤشرات صحية “خطرة” تم الاستناد إليها لوضع خطة لتنظيف مجرى النهر من الملوثات غير أنها لم تطبق حتى اليوم، وفق ما قالته لـ”العربي الجديد” أستاذة علوم الصحة البيئية في الجامعة الأميركية في بيروت، مي الجردي.
عبر جولة على مجرى النهر بين بلدتي بر الياس والقرعون البقاعيتين وثق معد التحقيق، تلوث المياه بـ”جيف الماشية والكلاب والمخلفات البشرية كما تظهر بالعين المجردة ترسبات لمواد كيمائية بيضاء وخضراء على ضفتي النهر الذي تنتشر في مجراه كل أنواع النفايات الصلبة من كراسي الحمام إلى قطع غيار السيارات والنفايات العضوية التي تصل إليه من أنابيب الصرف الصحي للبلدات المطلة عليه، ما أدى إلى انتشار الأمراض التنفسية الناتجة عن الرائحة الكريهة وتلك التي تصيب الجهاز الهضمي وفق ما تقوله أم ربيع التي امتنعت عن الجلوس في حديقة منزلها المطل على النهر، حالها في ذلك مثل التلاميذ الممتنعين عن فتح شبابيك فصولهم التربوية القريبة من ضفتي النهر.
يمتد الليطاني من أعالي منطقة بعلبك شرقا ويخترق حوالي 150 بلدة بقاعية وجنوبية على امتداد 170 كيلومترا، ويحتل حوضه البالغ 2175 كيلومترا مربعا حوالي 20 في المئة من مساحة لبنان، ويقع 80 في المئة منها في سهل البقاع و20 في المئة في بلدات الجنوب اللبناني، بحسب ما جاء على الموقع الإلكتروني لـ “المصلحة الوطنية لنهر الليطاني” الرسمية.
وتراقب وحدة البيئة التابعة للمصلحة، المياه السطحية للنهر، وحصرت الوحدة أهم الملوثات التي أضرت بالنهر في مياه الصرف الصحي والنفايات والفضلات التي تطلقها مصانع المنتجات الزراعية والحيوانية والاستعمال المتمادي للمبيدات والمخصبات والأدوية الزراعية التي تساهم مباشرة في رفع معدل الآزوت والمعادن الثقيلة في مياه الخزان الجوفية وهو ما أدى إلى زيادة معدل النيترات (Nitrates) والفوسفات (Phosphates) الناتج أساساً عن النشاط الزراعي ومخلفات المنازل، بالإضافة إلى وجود قوي لـ”بكتيريا القولون” (CALIFORM) الناتجة بشكل أساسي عن تلويث الصرف الصحي المنزلي، وفق ما جاء في دراسة أجرتها وحدة البيئة بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والجامعة العربية خلال الفترة من عام 2010 وحتى عام 2013 بحسب ما جاء على موقع المصلحة الوطنية.
يوزع اختصاصي الجهاز الهضمي والمتابع لملفي تلوث المياه وسلامة الغذاء في البقاع وليد سكرية، مسؤولية التلوث القائم على مُختلف السلطات المحلية والعامة وحتى بعض المزارعين، ويحذر من “وصول المزروعات الملوثة المروية من مياه النهر إلى مختلف المناطق اللبنانية التي تستهلكها، وخصوصا الورقيات المنتجة في حوض الليطاني مثل الخس والكزبرة والنعناع وغيرها، والتي تتركز فيها نسب المواد المسرطنة بسبب طبيعة تكوينها”.
ويصف مسؤول في “مصلحة نهر الليطاني” واقع العمل الرسمي للحد من تلوث النهر، بـ”غير الكافي إطلاقا”، ويدعو المسؤول إلى تشغيل محطة تكرير مياه الصرف الصحي التي أنشأتها الحكومة الإيطالية على نفقتها في مدينة زحلة، والتي أصبحت جاهزة للتشغيل العام الماضي، “لكن نقص الموازنة وعدم تأمين الحكومة لمبلغ 2 مليون دولار سنويا لتشغيلها يبقيها أسيرة التعطيل ويطيل من عمر التلوث في النهر”. حتى إن الحكومة الإيطالية قامت وبعد تأخر تشغيل المحطة، بتقديم مولدين كبيرين للكهرباء ليبقى على الحكومة اللبنانية تحمل كلفة التشغيل فقط، وهو ما لم يتم بعد.
فشل قانوني
في سبتمبر/أيلول من عام 2013 أقرت لجان نيابية مشتركة إنشاء نيابة عامة بيئية تتألف من مدعٍ عام بيئي وعدد من المحامين المختصين بالشأن لتطبيق قانون حماية البيئة رقم 444 – الصادر في 29/ 7/ 2002. وينص القانون في مجال المياه على “حماية المياه السطحية والجوفية من مخاطر التلوث على أشكاله واستعادة نوعية هذه المياه، وحماية التوازنات البيئية والمواقع الرطبة وأنظمتها الإيكولوجية”. ويشير القانون إلى تطبيق جملة عقوبات “تطاول عملية تصريف أو إغراق أو رمي أو إيداع، مباشر أو غير مباشر، لمواد من شأنها أن تتسبب في تلوث المياه السطحية أو الجوفية، أو أن تزيد من تدهور نوعيتها بتعديل خصائصها الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية أو البكتريولوجية”.
ولا تقتصر هذه العقوبات على الغرامة المادية فقط، بل تتوسع لتشمل “إجراءات خاصة تساعد في إلغاء الضرر”، بحسب النص القانوني، ويؤكد المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية” المحامي نزار صاغية، أن الدستور يكفل للمواطن “المتضرر بشكل مباشر من التلوث في نهر الليطاني حق الإدعاء على الهيئات والأشخاص المعنيين بالملف، ويشير صاغية إلى أن “الشكوى التي قد يتقدم بها أي مواطن تُحال إلى النيابة العامة البيئية المسؤولة عن تحديد مصدر التلوث والمسؤولين عنه لمحاسبته بموجب القانون، كما يمكن للمواطن التقدم بطلب الحصول على تعويض مادي مقابل الضرر من مجلس شورى الدولة، بالإضافة إلى استطاعه الجميعات البيئية أن تتخذ صفة الإدعاء في الملفات البيئية، بحسب المحامي اللبناني.
غير أن القانون شيء والواقع شيء آخر، إذ ذكر رئيس بلدية بر الياس مواس عراجي، في إفادة لـ”العربي الجديد”، أن الأهالي عمدوا في مراحل سابقة إلى التقدم بإخبارات لدى النيابة عن مصانع تلوث مجرى النهر بمخلفاتها الصناعية، “ولكن السلطات القضائية قررت إغلاق الملف لعدم كفاية الأدلة”.