الحكمة – متابعة: قد تكون بعض مسببات الوفاة متناهية الصغر، إلى درجة أنك قد تضطر لتعقبها بالمجهر. الصحفية العلمية فيرونيك غرينوود تتحدث إلى أحد مفتشي الأغذية المكلفين بالكشف عن أسباب ظهور الأمراض التي تنقلها لنا الأغذية الملوثة.
في ديسمبر/كانون الأول عام 2015، ظهرت حالات تسمم غذائي متفرقة في الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أنها لم تكن حالات كثيرة في كل مرة، فإنها ظلت تظهر بشكل متواصل لفترة طويلة.
وكان من بين الأعراض التي أبلغ عنها المصابون القيء، والإسهال المصحوب بالدماء. وأظهرت نتائج التحاليل وجود سلالات خطيرة من بكتيريا “إيشريشيا كولاي” (إي كولاي) لدى المصابين.
وانتشرت العدوى في أنحاء الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي حذرت فيه هيئة مراكز السيطرة على الأمراض (سي دي سي) للمرة الأولى من تفشي بكتيريا “إي كولاي” في البلاد، ظهرت حالات تسمم ناتجة عن الإصابة بتلك البكتيريا في 20 ولاية أمريكية، ونُقلت عشر حالات منها إلى المستشفى.
وكان من الواضح أن بكتيريا إي كولاي انتقلت إلى المصابين عن طريق الطعام. وكلفت هيئة مراكز السيطرة على الأمراض بالولايات المتحدة، ووزارة الصحة، والهيئات الصحية المحلية، فريقا من المفتشين للبحث في أسباب تلك الإصابات.
ربما لا يدرك أكثر الناس مدى أهمية رصد التسمم الغذائي من البداية، ففي أغلب الحالات، قد يكون مصحوبا بأعراض ومضاعفات خطيرة. وفي أسوأ الحالات، قد يفضي التسمم الغذائي إلى الموت.
ولهذا، فمن أجل الحفاظ على سلامتنا في المستقبل، يجب البحث عن مصدر التسمم والتعامل مع أصل المشكلة، سواء كان تلوث أماكن ذبح الحيوانات، أو نقص النظافة العامة في مصانع تعبئة الطعام.
ولعل قصة تفشي بكتيريا إي كولاي في شتاء 2015 تعطينا لمحة عن طبيعة مهام مفتشي الأغذية، المكلفين بالحفاظ على الصحة العامة، بداية من الوصول إلى مسرح الجريمة، وطرح الأسئلة على العاملين هناك.
ويطرح المفتشون على المصاب أسئلة تتعلق بما كان يأكله قبل ظهور الأعراض، وما إذا كان يتذكر ما الذي اشتراه من متجر السلع الغذائية في الأسبوع السابق لظهور تلك الأعراض، وإذا كانت لديه بطاقة لجمع النقاط من متجر البيع بالتجزئة الذي يتعامل معه ليستخدمها المحققون في الاستفسار من المتجر عن المواد الغذائية التي اشتراها.
يقول إيان ويليامز، مدير إدارة التعامل مع الأمراض المنقولة بواسطة الأغذية، والمياه، والبيئة، ومكافحتها، لدى هيئة مراكز السيطرة على الأمراض بالولايات المتحدة، إن مفتش الصحة العامة يقضي 30 أو 40 دقيقة مع كل مريض في الاستجواب المعتاد. والهدف هو التوصل إلى الأطعمة التي تناولها جميع المرضى قبل ظهور الأعراض.
فقد نجد في بعض الأحيان أن جميع المرضى تناولوا شطائر زبدة الفول السوداني، أو سلطة البنجر. لكن الأمر كان مختلفا مع حالات الإصابة الأخيرة ببكتيريا إي كولاي.
ويقول ويليامز: “لم يسفر استجواب المرضى عن أي أدلة تفيدنا في الوصول إلى أسباب العدوى”. لكننا اكتشفنا شيئا غير معتاد، وهو أن نحو 80 في المئة من المصابين كانوا من النساء.
وقد قررت هيئة مراكز السيطرة على الأمراض أن تتبع أسلوبا جديدا نسبيا ولكنه قويا، وهو تحديد تسلسل جينوم بكتيريا إي كولاي لدى كل مريض، وتبين أن البصمات الوراثية للبكتيريا متطابقة، أو تكاد تكون متطابقة، وهذا يعني أن العدوى ناتجة عن نفس المصدر. لكن ما هو المصدر؟
وفي هذا الوقت، استمر تقاطر الحالات على تلك المراكز، ويقول ويليامز: “كنا نستقبل من ثلاث إلى خمس حالات في الأسبوع، وامتد الأمر لأسابيع”.
كان ذلك أمرا غريبا. لقد انتشرت العدوي انتشارا واسعا، ففي كل مرة كان يأتي عدد قليل من المرضى، كأنما يتناول المرضى منتجا ما على فترات متباعدة، أو يحتفظون به ويأكلونه بين الحين والآخر.
وكان المحققون يتابعون معدلات الإصابة التي تسجلها المعامل التي يجري فيها المصابون التحاليل للكشف عن البكتيريا، ثم تحملها عبر شبكة “بالس نت” (PulseNet). ومن خلال هذه الشبكة، تأكدت هيئة مراكز السيطرة على الأمراض من تفشي بكتيريا إي كولاي في الولايات المتحدة، وأنها آخذة في الانتشار. ورغم ذلك ظل مصدرها غامضا.
وهنا تجلت براعة مفتشي الأغذية. فعندما لم يسفر الاستجواب عن أدلة مفيدة، تقمص المفتشون دور اختصاصي الأنثروبولوجي، وطرحوا على المصابين أسئلة تتطلب إجابات طويلة، وتعرفوا من خلالها على المصابين وعلى عائلاتهم، وكيف يمضون وقتهم مع عائلاتهم، وأين يخرجون لتناول الطعام.
وبحثوا عن أنماط مشتركة تجمع بين المصابين وبعضهم بعضا، وفكروا في الأطعمة التي تسببت في هذا النوع من العدوى في الماضي، مع الاهتمام بأدق التفاصيل.
وقد توصل المفتشون إلى استنتاجات مذهلة. فعلى سبيل المثال، منذ ست سنوات انتشرت حالات تسمم ناتجة عن بكتيريا السلمونيلا انتشارا واسعا، وكان أكثر المصابين من الأطفال، ولم يسفر الاستجواب أيضا عن نتائج مفيدة، وحاول المفتشون الحصول على معلومات بطرق شتى، ثم لاحظوا أن الكثير من المرضى لديهم أحواض لتربية الأسماك في منازلهم.
ثم اكتشفوا أن هذه السلالة من السلمونيلا لم يكن مصدرها الطعام، إنما كان مصدرها الضفادع التي تربى في تلك الأحواض. إذ تبين أن جميع المصابين يربون الضفادع المائية الأفريقية. وبعد التحقيق مع الشركة الموردة لهذا النوع من الضفادع، انتهى تفشي بكتيريا السلمونيلا.
أما في حالة تفشي بكتيريا إي كولاي في عام 2015، نجح المفتشون في تبديد الغموض الذي يكتنف انتشار هذه البكتيريا من خلال تتبع عادات المرضى.
إذ لاحظ مسؤول الاستقصاء الوبائي المكلف بمتابعة هذه القضية منذ البداية أن المصابين، وأغلبهم من النساء، يكثرون من خبز المعجنات. ورغم أن الخضروات واللحوم غير المطهية تعد مصدرا رئيسيا لهذه السلالات من إي كولاي، فهل من الممكن أن توجد هذه السلالات في الدقيق أيضا؟
والمشكلة التي واجهت المفتشون أن الناس يفضلون إفراغ الدقيق في أوعية والتخلص من العبوات البلاستيكية، وكان من الصعب معرفة العلامة التجارية للدقيق الذي استخدمه المصابون.
لكن المفتشين تمكّنوا من العثور على عبوتي دقيق في منازل المصابين بولايتين مختلفتين، وكانا يحملان اسم “غولد ميدال”، وكان مصدرهما نفس المطحنة في مدينة كانساس، بولاية ميسوري، وتاريخ إنتاج أحدهما يسبق الآخر بيوم واحد.
ويقول ويليامز: “كان الخيط الأخير الذي قادنا لحل هذا اللغز هو أن ثلاثة أطفال تناولوا الطعام في ثلاثة أفرع مختلفة من نفس سلسلة المطاعم المكسيكية”. وقد اعتاد العاملون في هذه السلسلة من المطاعم إعطاء الأطفال كرات عجين خبز التورتيلا لكي يلهوا بها إلى حين وصول الطعام على المائدة.
واكتشف المفتشون أن الأطفال الثلاثة كانوا يلهون بكرات العجين، بل أكلها أحدهم. ويقول ويليام: “هل تعرف من أين أتى الدقيق الذي صنعت منه عجينة التورتيلا؟ في الحقيقة كان مصدره نفس المطحنة في مدينة كنساس، ويحمل نفس تاريخ الإنتاج تقريبا.”
ويضيف ويليامز أن الهيئات الصحية تواصلت مع شركة “جنرال ميلز” للسلع الغذائية، المنتجة لدقيق “غولد ميدال”، وسرعان ما دعت الشركة المستهلكين للتخلص من المنتجات المصنوعة أثناء المدة التي تعتقد أن التلوث وقع خلالها.
ويتابع أن في الوقت الذي أُغلقت فيه التحقيقات، أكدت نتائج الفحوصات وجود بكتيريا إي كولاي في الدقيق الذي استخدمه العديد من المصابين، وقد ظهرت أعراض العدوى على 63 شخصا، لكن لحسن الحظ لم تسفر عن حالات وفاة. ثم اتجهت الأنظار كلها نحو الدقيق.
إن الدقيق من المنتجات التي لا تؤكل في المعتاد من دون طهي. وقد لا يخطر ببالك أن القليل من الدقيق الذي ترشه على طاولة إعداد الطعام في المطبخ قد يسبب لك مشكلة صحية. لكن في الحقيقة، الدقيق هو منتج زراعي نيء في نهاية الأمر، أي أنه يأتي من المزارع حيث قد توجد الحيوانات التي تتسبب في نشر بكتيريا إي كولاي.
ويُعالج الدقيق في مصانع يُطحن فيها القمح القادم من عدة أماكن مختلفة في نفس الوقت، فإذا كان القمح القادم من مزرعة واحدة فقط ملوثا، قد يؤثر تأثيرا بالغا على إنتاج المطحنة بأكملها من الدقيق.
ربما ينبهنا تفشي بكتيريا إي كولاي إلى خطورة تناول العجين النيء، سواء كان سميكا أو سائلا. ولعل المصانع أو الشركات تأخذ في الحسبان أن العدوى قد تنتقل للناس من ملامسة الدقيق أثناء الخبز.
وقد يسهم التعامل مع الدقيق على أنه من المنتجات التي تمثل خطرا محتملا على الصحة في إنقاذ حياة الكثيرين في المستقبل، سواء من خلال وضع إجراءات أكثر صرامة للكشف عن مسببات التلوث، أو ابتكار طرق جديدة لمنعه بداية من حقل القمح، ووصولا إلى المطحنة. وكل هذه المهام اعتاد مفتشو الأغذية على القيام بها بصدر رحب.