الحكمة – متابعة: ربما يساعدك التعرف على قوة تأثير فترات الصمت التي تتخلل الحديث على تحقيق مكاسب في حياتك العملية وحياتك العامة.
في الاجتماع المقبل، انتظر حتى يتوقف الحاضرون عن الكلام، وحاول أن تحسب طول فترة الصمت. وعادة لا تزيد فترة الصمت التي تتخلل الحديث عن ثانية واحدة أو ثانيتين، ولا سيما بين الناطقين باللغة الإنجليزية.
وتشير بعض الدراسات، إلى أننا لا نترك في المعتاد سوى جزء من الثانية لنتيح للآخرين الفرصة للرد، حتى في لغة الإشارة. وبينما قد ينطبق هذا النمط على مختلف البلدان حول العالم، فإن طريقة تفسيرنا للصمت تختلف باختلاف الثقافات، وإذا كنت تضطلع بأنشطة تجارية في دول أخرى، فعليك الانتباه لهذه الاختلافات.
وربما يشعر الناطقون بالانجليزية بالقلق والارتباك من فترات الصمت الطويلة أثناء الحديث أكثر من غيرهم. لكن إذا عرفت اللحظة المناسبة التي تلزم فيها الصمت، ستمسك بزمام الأمور، وتتحكم في كل شيء، بداية من صفقات البيع، والتفاوض على الرواتب، وتقديم العروض أمام الزملاء، وتطوير مهارات الموظفين. وهنا تنطبق مقولة “السكوت من ذهب”.
عادات ثقافية
قد يعد الصمت أثناء الحديث في بعض البلدان محيرا أو مريبا، في حين يراه سكان بلدان أخرى فرصة رائعة للتأمل والتفكير، ودليل على احترام ما قاله آخر المتحدثين.
المهارة التي استلهمها العالم من اليابانيين
وتوصل أحد الأبحاث في جامعة غرونينغن في هولندا، باللغتين الانجليزية والهولندية، إلى أن الصمت الذي يطول لأربع ثوانٍ أثناء الحديث، يجعل الآخرين يشعرون بالقلق.
وعلى النقيض، توصلت دراسة منفصلة أُجريت حول الاجتماعات التجارية إلى أن اليابانيين لم يتضجروا من فترات الصمت التي امتدت لثماني ثوان تقريبا، أي نحو ضعف فترة الصمت في اجتماعات الأمريكيين.
وتتجلى هذه الاختلافات الثقافية في المثل الأمريكي القائل إن “العجلة التي تُحدث ضجيجا تحصل على زيت الشحم”، في إشارة إلى أن الشخص الثرثار يستأثر بالاهتمام، في حين يقال في اليابان إن “خير من تنصت إليه هو الرجل الصامت”.
ويكشف مفهوم “هاراجي” في اللغة اليابانية، والذي يعني حرفيا “حديث البطون”، عن مدى احترام اليابانيين للصمت. ويشير هذا المصطلح إلى أن أفضل طريقة للتواصل هي الامتناع عن الكلام.
وتقول ديبوره تانين، أستاذة اللغويات بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية: “بمجرد أن تكون في حاجة إلى بعض الكلمات ولا تجدها، فهذا يعني أن هناك فشل بالفعل في فهم بعضنا بعضا. لذا، فأنت تلجأ إلى تدارك ذلك الفشل عن طريق استخدام الكلمات أيضا”.
التدريس في الهواء الطلق يطور مهارات الأطفال
ويقول دونال كاربو، أستاذ التواصل بجامعة ماساتشوستس أمهيرست، إن الفنلنديين، الذين يقدرون الخصوصية والتحفظ وفن الإنصات، يفضلون جلسات الاستغراق في التفكير. وأضاف: “لا أحد يتفوه بكلمة، بل الجميع يفكر فقط، وكلهم مستغرقون. ويعد احترام الصمت في هذه الحالة إيجابيا للغاية”.
لكن لماذا لا يطيق الناطقون باللغة الإنجليزية فترات الصمت الطويلة أثناء الحديث؟
يقول كاربو إن انزعاج الأمريكيين من الصمت ربما يكون له أصل تاريخي. إذ أن أمريكا كانت عبارة عن مجموعة من المستعمرات الأوروبية، ولهذا كانت تعد ملتقى لمختلف الأعراق والأجناس.
ويضيف: “عندما يكون لديك هذا الخليط المتنوع من الأجناس والأعراق، من الصعب أن يحدث تفاهم متبادل بين الناس إلا إذا تجاذبوا أطراف الحديث. وسينتاب الناس نوع من القلق، لأسباب وجيهة، ما لم يتفقوا معا من خلال الكلام على تأسيس حياة مشتركة”. ويتابع أن هذا ينطبق أيضا إلى حد ما على لندن.
وفي المقابل، يقول كاربو: “كلما زاد التوافق والتجانس بين الناس، أصبح من السهل تقبل الصمت والاعتياد عليه. فإن الجلوس في صمت مع الأصدقاء المقربين وأفراد العائلة أيسر من الجلوس في صمت مع الغرباء”.
أساليب فعالة
ولأن الناطقين باللغة الإنجليزية يرتبكون ويشعرون بالقلق بشكل عام حيال الصمت أثناء الحديث، فقد يستغل البعض الصمت أحيانا كأداة فعالة لتحقيق المكاسب.
يحرص غافين بريزمان، الخبير في المبيعات ومدير بشركة “إنسباير” لتوفير خدمات التدريب والتطوير بالمملكة المتحدة، على التوقف لبعض الوقت عن الكلام بعد الترويج لخدماته أمام العملاء.
ويقول بريزمان: “في مجال الأعمال، قد تكون فترة الصمت لخمس ثوانٍ طويلة. لذا أترك ثلاث ثوانٍ فقط قبل أن أتابع الكلام، لكن تأثير هذه الفترة مدهش”.
وأضاف بريزمان إن أحد العملاء قال له مؤخرا “إن الأسعار التي تطلبونها مبالغ فيها، ولست واثقا إن كنت سأستطيع أن أوفر هذا المبلغ أم لا”، ثم رد عليه بريزمان أنه يتفهم ذلك، ثم انتظر ولم ينبس بكلمة. وبعد عشر ثوان، قال هذا العميل إنه أدرك قيمة ذلك التدريب، ويود أن يمضي قدما في إجراءات التعاقد.
ويقول بريزمان: “نظن أحيانا أن الصمت هو التوقف عن الكلام فحسب، لكن في الحقيقة الصمت يتيح للناس الوقت لترتيب الأفكار والتروي”.
وتتمسك كاتي دونوفان، التي أسست شركة “إيكوال باي نيغوشييشن” للاستشارات في مجال الحصول على رواتب متساوية، بالولايات المتحدة الأمريكية، بمبدأ “من يتكلم أولا هو الخاسر”. وفي بداية حياتها المهنية، حضرت مقابلة لشغل وظيفة في مجال المبيعات، وحصلت على الوظيفة على الفور.
وعندما عرض عليها الموظف الذي أجرى معها المقابلة راتبا، قالت له إنها سترد عليه الأسبوع المقبل، ثم لاذت بالصمت، فرفع الموظف الراتب المعروض، ثم أعادت الكرّة، حتى عرض للمرة الثالثة راتبا أعلى بنسبة 20 في المئة من الراتب الأول. وهنا قبلت العرض.
هل يمكن اكتساب “الكاريزما”؟
تقول دونوفان: “إن تعلم مهارة الصمت أصعب من تعلم مهارة المعرفة بالمنتج، وغير ذلك من المهارات المطلوبة في مجال المبيعات. بل إن الصمت هو أصعب الأساليب التي يمكن تعلمها على الإطلاق. ويعد الصمت مخالفا للطبيعة البشرية، إذ ينزع الناس دائما إلى سد الفراغات”.
وتنصح دونوفان بالتدرب على الصمت مع الأصدقاء والزملاء، بدلا من انتظار فرصة الدخول في تفاوض صعب. وتقول: “اطرح سؤالا بسيطا، مثل ‘كيف أمضيت عطلة نهاية الأسبوع؟’، ثم الزم الصمت. وبمجرد أن تتدرب على لزوم الصمت، ستدرك مدى أهميته في مختلف لحظات حياتك، من الخروج بصحبة الأصدقاء إلى شراء منزل”.
متى تتحدث؟
وتقول تانين إن التعبير عن الرأي في بعض المواقف أفضل من السكوت. فإن الصمت قد يُساء تفسيره أحيانا. وتتابع أن بعض الباحثين في مجال التفاعل في قاعة المحكمة اكتشفوا أن المحامين ينصحون وكلاءهم الذين يدلون بالشهادة بالتفكير أولا قبل الإجابة، وعدم التسرع والتحدث بعد السؤال على الفور.
لكن الشخص الذي يصمت قبل التحدث كثيرا ما يثير شكوكا لدى المحلفين الذي يعتقدون أنه يحاول تلفيق كذبة. وتتابع: “فإن نية الصمت وأثره تختلف من شخص لآخر، ومن موقف لآخر”.
وتضيف أن في مكان العمل، قد يعلن المدير عن قرار ما، وإذا سكت الموظفون، سيفترض أنهم راضون، لأنهم لو لم يكونوا راضين، كانوا سيعبرون عن اعتراضهم. وربما يعتقد الموظفون أن الكلام لا طائل منه، لأن المدير قد اتخذ القرار بالفعل. وتقول تانين: “لكن الفارق بين التفسيرين له تبعات خطيرة”.
يقول ماثيو ماكلاكلان، الموظف لدى شركة “ليرنلايت”، لتوفير خدمات التدريب على المهارات التفاعلية واللغوية في المملكة المتحدة، إن مواجهة الصمت تعد من المهارات المهمة التي يجب تعلمها، ولا سيما عند العمل مع أناس من ثقافات مختلفة.
ويتابع: “يعي المفاوضون الصينيون تماما أن الأمريكيين يميلون إلى ملء فترات الصمت، ولهذا فالصينيون مدربون على كيفية لزوم الصمت وعدم إبداء أي انفعالات، لأن ذلك يقلق الأمريكيين، وربما يدفعهم إلى تقديم تنازلات، من دون أن يحرك الصينيون ساكنا”.
إذن، ما هو رد الفعل الأنسب؟ يقول ماكلاكلان: “حافظ على رباطة جأشك واصبر. لا تساوم أو تقدم تنازلات عندما تجد الطرف الآخر لا يتحدث. وإذا اضطررت للحديث، فلتطرح سؤالا مباشرا، مثل ‘ما رأيك في هذا العرض؟'”
ويتابع: “فإذا طال الصمت لما يقرب من 45 ثانية يمكنك أن تقول، ‘حسنا لنرجيء الحديث عن هذه النقطة الآن’، ولننتقل إلى الجزء التالي من التفاوض”.
ويضيف أن فترات الصمت عند التحدث أمام جمع من الناس، أكثر دلالة بمراحل من الانفعالات المثيرة للمشاعر. ويقول: “قبل أن تبدأ، انظر إلى الحضور وتوقف عن الكلام للحظة واحدة، فكأنك تقول: ‘أنا أسيطر على الموقف، وأعرف تماما ما الذي أفعله، وواثق من قدراتي’.”
كيف تتميز عن الآخرين وتسوق مهاراتك؟
وخير مثال على ذلك خطاب ستيف جوبز، الذي ساهم في تأسيس شركة آبل، بمناسبة إطلاق أول هاتف “آيفون”، ويقول ماكلاكلان: “تخلل خطاب ستيف جوبز فترات صمت عديدة، حتى لا تفوت المتلقي أي نقطة من النقاط الرئيسية. فإن الصمت يشعرنا بالتوتر، ويكون رد فعلنا الطبيعي أن ننتبه ترقبا لما سيحدث لاحقا”.
وبالمثل، عندما تقدم آراء وتعليقات حول أداء الموظفين أو المتدربين، فإن كل وقفة أثناء الحديث لها دلالة، لا سيما إن كان التعليق سلبيا.
ويقول ماكلاكلان: “إذا استرسلت في الحديث، فكأنك تثقل على المتلقي وتجعله يعجز عن المتابعة. ولهذا، فإن لحظة الصمت تتيح للآخرين تجاوز رد الفعل العاطفي والانتقال إلى التفكير العقلاني وتحليل الموقف”.
يقول كاربو إن الصمت قد يكون حالة من الاستغراق في التفكير، أو حالة من السكون الظاهري، يمنحك الفرصة لمراقبة الوضع والتفكير والإنصات إلى العالم من حولك.
ويقول كاربو إنه بعد أن رصد عادات الصمت في فنلندا وبين أفراد قبيلة “بلاكفيت”، وهي قبيلة من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية في شمال ولاية مونتانا بالولايات المتحدة الأمريكية، اكتشف أن مزايا الصمت تتجاوز اغتنام الفرص لتحقيق أفضل المكاسب بمراحل.
ويضيف: “ربما يكون الصمت هو العنصر المحوري الفعال الذي يتيح لنا فهم أنفسنا وفهم الآخرين، وإرساء التفاهم المتبادل بين الناس، ويساعدنا على تحقيق نتائج مثمرة، وهذا ينطبق على مجالات التجارة، والسياسة، والتعليم، والقانون، والطب، وكل مجالات الحياة البشرية”.