كيف ساهمت كندا بموقعها في ثورة الاتصالات الحديثة؟
الحكمة – متابعة: كان النسيم العليل القادم من المحيط الأطلسي يتلاعب بشعري المتدلي فوق جبهتي، ويدفعه إلى الوراء. وقد ألقت الشمس أشعتها فوق قمة جبل جليدي ضخم يطفو خلفي على بعد أميال قليلة، وهو ما يظهر صورة رائعة تجمع بين نقيضين (الجليد والشمس).
وقد أغراني ذلك المشهد لالتقاط صورة “سيلفي” رائعة تظهر ذلك الجبل الجليدي خلف كتفي الأيسر.
وفي ثوان معدودة، كانت تلك الصورة تنتشر بسرعة في فضاء الإنترنت بعد أن أرسلتها من موقعي بمدينة سانت جونز، في مقاطعة نيوفاوندلاند الكندية، لتصل إلى أصدقائي ومتابعي حول العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
ودعاني ذلك إلى التساؤل عما إذا كان العالم الفيزيائي غولييلمو ماركوني، الذي كان قد وقف سابقا في هذه البقعة التي أقف فيها الآن في ديسمبر/كانون الأول 1901، ليستقبل أول رسالة لاسلكية عبر الأطلسي في العالم، سيعلم إلى أين يقودنا نجاحه الأول في عالم الاتصالات اللاسلكية.
كنت أقف عند تل “سيغنال هيل”، وهو يمثل قطعة حجرية ضخمة يصل ارتفاعها إلى 140 مترا فوق مياه المحيط الأطلسي على الساحل الشرقي لكندا. إنه بقعة مثالية تتداخل عندها مياه المحيط بمياه ميناء سانت جونز.
وتمر قوارب الصيد في هذا المكان كل صباح عندما تشرق الشمس، وتعود في آخر النهار محملة بالأسماك لترسلها إلى المطاعم المحلية.
وهناك طريق معبد يمر بمحاذاة الساحل ليربط بين وسط المدينة في سانت جونز وأسفل التل، قبل أن يلتف عبر سلسلة من الممرات التي تجعل الرحلة مشوقة وحيوية.
ليس تل “سيغنال هيل” أبعد نقطة في الجانب الشرقي لأمريكا الشمالية، لكنه بقعة يحميها المحيط الأطلسي
وعندما ذهبت لاستكشف ذلك التل في أحد أيام السبت، كان المكان يعج بالزائرين في وقت الظهيرة، إذ جاءوا للفسحة والترفيه. وكان الناس يستمتعون جدا بجمال الطبيعة، ويصطحب بعضهم الكلاب والحيوانات الأليفة.
ورأيت هناك حفلي زفاف يستغلان هذا الموقع الرائع لالتقاط الصور مع الأقارب والمحتفلين.
لكن ربما ليست شهرة ذلك التل هي التي جذبت ماركوني إلى هذا المكان. لأن عدد الناس في مثل هذا المكان كان سيسبب له بعض المخاوف، نظرا لأنه كان يريد مكانا آمنا يجري فيه تجاربه.
كان ماركوني طفلا لأسرة ثرية تعيش في بولونيا بإيطاليا، وتلقى تعليما جيدا، وأظهر منذ صغره ولعا بدراسة العلوم، وخاصة انتقال الموجات الكهرومغناطيسية عبر الهواء.
وكان ماركوني أول من اكتشف أنه من خلال توصيل جهازي استقبال وإرسال بالأرض، ورفع جهاز استقبال الإشارة (الهوائي) عاليا، يمكننا أن نوسع نطاق إرسال الإشارة.
كان ذلك يمثل خبرا عظيما في عام 1894. لكن قليلا من الناس في إيطاليا تحمسوا لذلك الاكتشاف، ما دفع ماركوني للانتقال إلى بريطانيا العظمى لتسجيل براءة اختراعه، والعثور على مستثمرين يمكنهم المشاركة في تمويل مشروعاته وتجاربه الطموحة.
وكان السؤال المهم في ذلك الوقت هو ما إذا كان يمكن لموجة راديو بعيدة المدى أن تتبع انحناءات الأرض، أم أنها ستنطلق إلى الفضاء فقط.
وقد استكشف ماركوني عدة مواقع في الجانب الشرقي لساحل أمريكا الشمالية من أجل إجراء تجاربه الخاصة بانتقال الإشارة.
أراد ماركوني أن يستخدم البالونات والطائرات الورقية للمساعدة في الحفاظ على أجهزة الهوائي في وضع قائم
وكان أول اختيار له في منطقة كيب كود، في ماساتشوسيتس، لكن سلسلة من العواصف على جانبي المحيط دفعته لتغيير المكان، والاتجاه شمالا.
ورغم أن منطقة “سيغنال هيل” لا تقع في أقصى الطرف الشرقي في أمريكا الشمالية، إلا أنها محمية قليلا من عواصف المحيط الأطلسي الشديدة من خلال وجود تجويف طبيعي في الشريط الساحلي للمحيط.
وقد اختار ماركوني أيضا الموقع المثالي في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي في انجلترا، والمتمثل في منطقة بولدو بشبه جزيرة ليزرد في مدينة ساوث كورنوال.
وبالرغم من أن محطة البث الأصلية أزيلت من المكان، لا يزال هناك مركزا أنشيء خصيصا لإحياء هذه الذكرى، يحمل اسم ماركوني، ويأتي الزوار إليه اليوم.
ويشرح المركز للزوار ما الذي جرى في تلك البقعة من الأرض، عندما كان ماركوني وفريقه يمارسون عملهم في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
وقد عمل الفريق الذي كان في انجلترا في تلك المنطقة المعزولة، وكافح في مواجهة ظروف الطقس الصعبة، وكان أعضاؤه لا يدرون ما إذا كانوا سينجحون في استقبال رسائل من ماركوني وفريقه في أمريكا الشمالية.
وقد استغرق الأمر عدة أسابيع قبل أن يتمكن الفريق من تلقي رسائل ماركوني والتواصل معه.
ولعدة أيام تلت، وفي وقت محدد كل يوم، كان فريق العلماء في بولدو يرسلون رسائل في صورة ثلاث نقاط بسيطة، وترمز كل نقطة إلى حرف “إس” باللغة الأنجليزية.
كان أحد أجهزة ماركوني للاتصال اللاسلكي هو الذي استقبل رسائل الاستغاثة من سفينة تايتانك الشهيرة