من باريس إلى النجف

690


نشرت صحيفة اللوموند الفرنسية و وسائل اعلامية اخرى تقريراً مركزاً عن حياة الباحثة الفرنسية البروفسورة ماري بيير فولكمان (مريم ابو الذهب) وعكست وصيتها في دفنها في النجف الأشرف في أول بادرة من نوعها، والتي من الطبيعي أن تثير فضول واهتمام الأوساط العلمية والثقافية خاصة في فرنسا والعراق، وقد وصل جثمانها من باريس الى النجف بمعية صحفي فرنسي وأحد طلابها ـ حيث كانت قد أوصت بتصوير مراسم تجهيزها وعرضها على طلابها ليكون آخر درس لها عن الإسلام ــ.
لقد لاحظنا بوضوح خلال لقائنا بها قبل سنوات مدى تأثرها بأجواء النجف الأشرف وحالة الخشوع والسكينة التي انتابتها خلال زيارتها لمرقد الإمام علي (عليه السلام)، لكن لم نكن نتوقع أن يبلغ ذلك أقصى مداه بحيث توصي بدفنها في النجف الأشرف مبتعدةً عن وطنها وأهلها في باريس، إنه الجو النجفي بكل أبعاده الدينية والثقافية المعطر بعبق الإمام علي (عليه السلام) رمز الإيمان والعدالة والإنسانية، الذي سحر قبلها الكثير على مر العصور والذين حرصوا على الحظوه بدفنهم إلى جنب الإمام (عليه السلام).
إن حرص كثير من الشخصيات على مر التأريخ الطويل على الدفن في وادي السلام الذي تحتضنه النجف رغم ما فيه من مصاعب وتداعيات في تلك العصور ينم عن خصوصية في هذه البقعة والتي قد يشير اليها ما ورد عن علي (عليه السلام) من أنه (البقعة من جنة عدن. بحار الأنوار ٢٣/ ٢٧ نقلا عن الكافي.) ولعلها هي التي دعته عليه السلام لأن يوصي بالدفن هناك رغم ابتعاده عن الكوفة بعشرة كيلومترات .
وأول من روي دفنه في النجف هو اثيب اليماني(صافي صفا المتوفي سنة ٣٨هـ) الذي جلبه ولده من اليمن في حياة الإمام علي (عليه السلام) في رواية معروفة كما نصت المصادر التاريخية على
وصية الكثير من الشخصيات على الدفن في النجف، ففي رواية محمد بن مسلم عن الامام جعفر الصادق ع (وكان امير المؤمنين ع يأتي النجف ويقول :وادي السلام ومجمع ارواح المؤمنين ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان ،وكان يقول :اللهم اجعل قبري بها.) (الكوفة /٦٥)
وعن أبي قيس بن عكرمة ان الصحابي خباب بن الأرت (ت ٣٨)اوصى ان يدفن بظهر الكوفة (انظر المصدر /٤٣)
كما روى عبد المجيد بن مهران قال: سمعت عمرو بن ميمون (ت ٧٤)يشتهي ان يموت بالكوفة (انظر المصدر )
ويبدو من عدة مصادر ان الوصية بالدفن في النجف كانت ظاهرة منتشرة في القرن الرابع الهجري وربما قبله.
قال ابن الغضائري:  وادي السلام، جنة عدن
١ـ وتوفي احمد ابن محمد الزراري ـ الشيخ الصالح رضي الله عنه ــ في جمادى الآولى سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وتوليت جهازه وحملته إلى مقابر قريش على صاحبها السلام، ثم إلى الكوفة، ونفذت ما أوصى بانفاذه، واعانني على ذلك هلال بن محمد رضي الله عنه. (في رسالة ابي غالب الزراري ١٩٣ــ ١٩٤)
٢ـ ثم توفي هلال بن محمد في شوال من هذه السنة فتوليت أمره وجهازه ووصيته، وحملته إلى الشهيدين بمقابر قريش، ثم إلى الكوفة. وقبراهما رحمهما الله بالغري.
٣ـ ثم توفي في هذه السنة في ذي الحجة محمد بن احمد بن داوود رضي الله عنه بالبطحية ودفن هناك ثم نقل الى بغداد. وحيل بيني وبين انفاذ وصيته والقيام بأمره رضي الله عنه .( رسالة ابي خالب الزراري ١٩٣ / ١٩٤).
٤ـ وقال ابن الأثير في احداث سنة ٣٧٢هـ في هذه السنة في شوال… مات (عضد الدولة) ثامن شوال ببغداد وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السلام ودفن به. (الكامل في التأريخ: ٩ / ١٣) .
٥ـ وفي أحداث سنة ٣٧٩هـ مستهل جمادى الاخرى توفي الملك شرف الدولة ابو الفوارس شير زيل بن عضد الدولة مستسقيا، وحمل الى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام ودفن به.( الكامل في التأريخ ٤٢)
٦ــ وفي احداث سنة ٤٠٣هـ خامس جمادى الاخرى توفي بهاء الدولة ابو نصر بن عضد الدولة بن بابويه ــ وهو الملك حينئذ بالعراق ــ … وكان موته بارجان ــ وهي مدينة بهبهان جنوب ايران ــ وحمل الى مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام فدفن عند ابيه عضد الدولة (الكامل في التأريخ : ١٦٩).
٧ ــ وفي احداث سنة ٤٠٥هــ قتل بدر بن حسنويه أمير الجبل فأمر [الحسين بن مسعود الكردي ] بتجهيزه، وحمله إلى مشهد علي عليه السلام ليدفن فيه . ففعل ذلك. (الكامل في التأريخ : ١٧٣).
٨ ــ وفي احداث سنة ٤٠٦هــ قبض سلطان الدولى على نايبه بالعراق ووزيره فخر الممالك أبي غالب وقتل سلخ ربيع الأول … ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السلام فدفن هناك . (الكامل في التأريخ : ١٨٢).
تؤكد هذه النصوص أن للدفن في النجف جذورا من أعماق التاريخ الإسلامي وليس حادثاً في العصور المتأخرة، كما يتوهم البعض، كما أن مبادرة البروفيسورة الفرنسية قد تفتح آفاقاً جديدة لرمزية النجف وبعدها الروحي.

رياض الحكيم
٢٠ صفر ١٤٣٩هـ

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*