في ذکری استشهاد الإمام الحسن بن علي العسکري (عليه السلام)
نسبه الشريف
هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).
وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وأُمه اُم ولد يقال لها: حديث، أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات. وذكر سبط بن الجوزي: أنّ اسمها سوسن.
محل الولادة وتاريخها
ولد الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (ع) ـ كما عليه أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة (232هـ) من الهجرة النبويّة المشرفة في المدينة المنوّرة.
ألقابه (ع) وكُناه
اُطلق على الإمامين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر.
و(العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام).
وكان يكنّى بابن الرضا ، كأبيه وجدّه، وكنيته التي اختص بها هي: (أبو محمّد).
ملامحـه
وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله : إنّه أسمر أعين حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة، وقيل: إنّه كان بين السمرة والبياض.
النشأة وظروفها
نشأ الإمام أبو محمّد (ع) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وقد ظفر الإمام أبو محمّد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ …}، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.
وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (ع) يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة، فكان يوليه أكبر اهتمامه ، ولقد أشاد الإمام الهادي (ع) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:
“أبو محمّد ابني أصحّ آل محمّد غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها”، والإمام الهادي (ع) بعيد عن المحاباة والإندفاع العاطفي مثله في ذلك آباؤه المعصومون.
وقد لازم الإمام أبو محمّد (ع) أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والإعتداء، وانتقل الإمام العسكري (ع) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حيث كتب المتوكل إليه في الشخوص من المدينة، وذلك حينما وُشي بالإمام الهادي (ع) عنده، حيث كتب إليه عبد الله بن محمّد بن داود الهاشمي: “يذكر أنّ قوماً يقولون إنّه الإمام ـ أي عليّ الهادي (ع) ـ فشخص عن المدينة وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلمّا كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سُرَّ من رأى”.
وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الإمامة بعده، وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار (ع) وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة، قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) فتكون مدة إمامته (ع) ست سنين.
وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العبّاسية منه ومن دوره الفاعل في الأُمّة، لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن المنقول التاريخي عن الإمام العسكري (ع) في ظل حياة والده الإمام عليّ الهادي (ع) ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمام(ع) الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأُمّة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.
غير أنّ مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى اُمور مهمّة من حياة الإمام العسكري(ع)، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقوله(ع): “ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ”.
وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ(ص) والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها، أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجّة به على الخواص والثقات من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس.
انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكري(ع)
احتلّ أهل البيت (ع) المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين، لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوى والعبادة، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسول(ص) في الحث على التمسّك بهم والأخذ عنهم.
والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسول(ص) على رسالته كما قال تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
غير أنّ الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأُمّة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأُمّة عنهم بمختلف الوسائل والطرق، ثم ختموا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ.
ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسول(ص) بأهل البيت (ع) لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية على امتداد تأريخها بعد وفاة الرسول(ص) حتى عصر الإمام الحسن العسكري(ع).
وقد حُجب عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم ، إما خشية من السلطان، أو لأنّ من كتب تاريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية اُموية ومداد عبّاسي; لأنه قد عاش على فتات موائد الحكام المستبدّين.
ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمام(ع) وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيّة جميع من عاصره من رجال وعلماء الأُمّة الإسلامية.
1 ـ شهادة المعتمد العبّاسي
كانت منزلة الإمام معروفة ومشهورة لدى الخاصة والعامة، كما كانت معلومة لدى خلفاء عصره.
فقد روي أنّ جعفر بن عليّ الهادي(ع) طلب من المعتمد أن ينصّبه للإمامة ويعطيه مقام أخيه الإمام الحسن(ع) بعده، فقال له المعتمد: “إعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت بالله عزّوجل، ونحن كنا نجتهد في حطِ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك ، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً”.
2 ـ شهادة طبيب البلاط العبّاسي
كان بختيشوع ألمع شخصية طبية في عصر الإمام الحسن العسكري(ع)، فهو طبيب الأُسرة الحاكمة، وقد احتاج الإمام ذات يوم الى طبيب فطلب من بختيشوع أن يرسل إليه بعض تلامذته ليقوم بذلك، فاستدعى أحد تلاميذه وأوصاه أن يعالج الإمام(ع) وحدّثه عن سموّ منزلته ومكانته العالية، ثم قال له: «طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء ، فاحذر أن تعترض عليه في ما يأمرك به”.
3 ـ أحمد بن عبيد الله بن خاقان
كان عامل الخراج والضياع في كورة قم، وأبوه عبيدالله بن خاقان أحد أبرز شخصيات البلاط السياسية وكان وزيراً للمعتمد، وكان أحمد بن عبيدالله أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لأهل البيت (ع).
وينقل أحمد هذا قصة شهدها في مجلس أبيه إذ دخل عليه حُجّابه فقالوا له: أبو محمّد ابن الرضا ـ أي الإمام العسكري(ع) ـ بالباب فقال بصوت عال: إئذنوا له، فقال أحمد: فتعجبت ممّا سمعت منهم، إنّهم جسروا يكنّون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكنَّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خُطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دخل عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه.
وتبيّن الرواية أنّ أحمد بقي متعجباً متحيراً حتى كان الليل، فلمّا صلّى أبوه وجلس، جاء وجلس بين يديه، فقال: ياأحمد لك حاجة ؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت.
قلت: يا أبه مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال: يابني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن عليّ المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة ثمّ قال: يابني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
4 ـ راهب دير العاقول
وكان من كبراء رجال النصرانية وأعلمهم بها، لمّا سمع بكرامات الإمام(ع) ورأى ما رآه ، أسلم على يديه وخلع لباس النصرانية ولبس ثياباً بيضاء.
ولما سأله الطبيب بختيشوع عما أزاله عن دينه، قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده ـ يعني بذلك الإمام الحسن العسكري(ع) ـ قال : وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره… وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إلى الإمام ولزم خدمته إلى أن مات.
5 ـ محمّد بن طلحة الشافعي
قال عن الإمام الحسن العسكري(ع):
“فأعلم المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصه الله عزّ وجلّ بها وقلّده فريدها ومنحه تقليدها وجعلها صفة دائمة لا يُبلي الدهر جديدها ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها، أنّ المهدي محمّد نسله، المخلوق منه ، وولده المنتسب إليه، وبضعته المنفصلة عنه”.
6 ـ ابن الصباغ المالكي
قال: إنّه “سيّد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكانه الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى ومبين غوامضها، فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب مظهر الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأُمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه ، بمحمد(ص)آمين”.
7 ـ العلّامة الشبراوي الشافعي
قال عنه : “الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري… ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر (عج) من أولاده، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار… فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك (السماء ـ خل) علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلة ومحلاً واستغرق صفات الكمال، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلاّ ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه…”.
الى أقوال كثيرة غيرها في فضله صرح بها الفقهاء والمؤرخون والمحدثون من العامة والخاصة ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو فرع الرسول(ص) وأبو الإمام المنتظر والحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم عدل القرآن كما ورد عن الرسول(ص) وهم سفينة النجاة، وقد شهد له أبوه الإمام الهادي(ع) بسموّ مقامه ورفعة منزلته بقوله الخالد: “أبو محمّد ابني أنصح آل محمّد غريزة وأوثقهم حجّة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها ، فما كنت سائلي فسله عنه ، فعنده ما يُحتاج إليه”.
الإمام العسكري (ع) ومتطلبات الجماعة الصالحة
تعتبر الجماعة الصالحة المحور الأهمّ الذي كان يشغل بال واهتمام أهل البيت(ع) لأنّها الأداة الوحيدة الصالحة لتحقيق الأهداف الرسالية الكبرى، وهي الوسط الحقيقي الذي يفهم ثقافة أهل البيت(ع) ورسالتهم ويستطيع التعاطي الإيجابي معهم وينقاد الى أوامرهم وتوجيهاتهم الرسالية.
من هنا نجد أنّ الإمام الحسن العسكري (ع) يكثّف جهوده لفترة الانتقال من عصر الحضور الى عصر الغيبة؛ لخطورة المرحلة من شتى النواحي ولقصر الفترة الزمينة التي يعيشها الإمام(ع) وهو يرى سرعة التقلّبات السياسية على مستوى الحكّام والخلفاء، كما يرى سوء تعاملهم جميعاً مع أهل البيت (ع) وشيعتهم من جهة، ورصدهم للإمام(ع) وكل تحركاته من جهة اُخرى، وسعيهم الحثيث للبحث عن المهدي الموعود والمنتظر الذي بشّر الرسول(ص) بأنه القائم بالقسط والعدل، والمقارع لكل رموز الظلم والعدوان.
فمهمّة الإمام الحسن العسكري (ع) خطيرة جدّاً تجاه ولده المهدي (عج)، كما هي خطيرة تجاه شيعته الذين سيُصابون بهذه الأزمة والمصيبة الجديدة التي لم يألفوها مع أئمتهم وهم يعيشون معهم وبين ظهرانيهم خلال قرنين ونصف قرن ويتلقّون التعاليم والتربية المباشرة منهم.
إنّ الشعور بوجود إمام وقائد حي يرتبطون به ويرتبط بهم ـ رغم صعوبة الظروف ـ له آثاره النفسية الإيجابية، بينما الشعور بوجود إمام لا يستطيعون الإرتباط به ولا يدرون متى سيظهر لهم وينفّس عنهم كرباتهم ويجيبهم عن أسئلتهم يحمل معه آثاراً نفسية سلبية إلاّ إذا كانت الغيبة عندهم كالحضور، ويكون البديل قادراً على تلبية حوائجهم وسدّ خللهم.
إنّ هذه المهمّة قد اشترك في انجازها أهل البيت(ع) جميعاً غير أنّ دور الإمام الحسن العسكري(ع) خطير للغاية وصعب جدّاً لشدّة المراقبة وشمولها بحيث كان الإمام(ع) يتعمّد الاحتجاب والانقطاع عن كثير من شيعته، ويشهد لذلك أنّ أغلب ما روي عنه كان بواسطة المكاتبات دون أُسلوب المشافهة بالرغم من أنّ الإمام(ع) طيلة ست سنوات كان يخرج الى البلاط كل اثنين وخميس، ولكنه لم يكن ليتكلم أو ليرتبط حتى بمن كان يقصده من مكان بعيد، إلاّ في حالات نادرة وبشكل خاص وهو يتحفّظ في ذلك من كثير ممّا يحيط به.
على هذا الأساس يقع البحث عن متطلبات الجماعة الصالحة في عصر الإمام الحسن العسكري(ع) في نقطتين:
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة الإمام المهدي(عج)
إنّ أهم انجاز للإمام العسكري(ع) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي(عج) من الوقوع بأيدي العتاة العابثين الذين كانوا يتربصون به الدوائر منذ عقود قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام(ع) بفضل جهود آبائه السابقين (ع) وتحذيراتهم تنصب أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام(ع)، الى جانب إتمام الحجّة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.
ففي مجال كتمان أمر الإمام المهدي(عج) عن عيون أعدائه قد أشارت نصوص أهل البيت(ع) الى أنّه ابن سيدة الإماء وأنّه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه. وفي هذه النصوص ثلاثة إرشادات أساسية تحقق هذا الكتمان، أوّلها أنّ اُمّه أمة وهي سيدة الإماء، وقد مهّد الإمام الهادي(ع) لهذه المهمّة باختيار زوجة من سبايا الروم للإمام الحسن العسكري(ع) ولم تكن للزواج أية مراسم ولا أية علامة بل كل ما تحقق قد تحقق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين.
وقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام، فإنّ عمّة الإمام(ع) لم تتعرّف على حمل اُم الإمام المهدي(ع) فضلاً عن غيرها، ومن هنا كانت الولادة في ظروف سرّية جداً وبعد منتصف الليل، وعند طلوع الفجر وهو وقت لا يستيقظ فيه إلاّ الخواصّ من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.
وقد خطّط الإمام العسكري(ع) ليبقى الإمام المهدي(عج) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية ولم يطّلع عليه إلاّ الخواص أو أخصّ الخواص من شيعته.
وأما كيفية إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة.
الخطوة الأُولى: النصوص المبشّرة بولادة المهدي (عج)
لقد جاءت النصوص المبشّرة بولادة المهدي(عج) عن أبيه الإمام الحسن العسكري(ع) تالية لنصوص الإمام الهادي(ع) وبقيّة أئمة أهل البيت(ع) التي ركّزت على أنّه حفيد الهادي(ع) وأنّه ابن الحسن العسكري(ع) وأنّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه، وأنّه الذي يقول الناس عنه أنّه لم يولد بعد، وأنّه الذي يغيب عنهم ويرفع من بين أظهرهم وأنّه الذي ستختلف شيعته الى أن يقوم، وعلى الشيعة أن تلتفّ حول العلماء الذين ينوبون عنه وينتظرون قيامه ودولته ويتمسّكون بأهل البيت(ع) ويظهرون لهم الولاء بالدعاء والزيارة وانه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين.
الخطوة الثانية: الإشهاد على ولادة الإمام المهدي (عج)
لقد قام الإمام الحسن(ع) بالإشهاد على الولادة فضلاً عن إخباره وإقراره بولادته وذلك إتماماً للحجّة بالرغم من حراجة الظروف وضرورة الكتمان التام عن أعين الجواسيس، الذين كانوا يرصدون دار الإمام وجواريه قبل الولادة وبعدها.
إنّ السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد واُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام الحسن العسكري (ع) قد تولّت أمر نرجس اُم الإمام المهدي(عج) في ساعة الولادة.
وصرّحت بمشاهدة الإمام المهدي بعد مولده كما شاهد الإمام حين الولادة بعض النسوة مثل جارية أبي عليّ الخيزراني التي أهداها الى الإمام العسكري(ع) ومارية ونسيم خادمة الإمام العسكري.
الخطوة الثالثة: الإخبار بولادة المهدي (عج)
وتمثّلت هذه الخطوة بإخبار الإمام(ع) شيعته بأنّ المهدي المنتظر(عج) قد وُلد، وحاول نشر هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ.
ولدينا ثمانية عشر حديثاً يتضمّن كلّ منها سعي الإمام(ع) لنشر خبر الولادة بين شيعته وأوليائه.
فمنها الخبر الذي صرّح فيه الإمام الحسن(ع) بعلّتين لوضع بني العباس سيوفهم على أهل البيت (ع) واغتيالهم من دون أن يكونوا قد تصدّوا للثورة العلنية عليهم حيث جاء فيه:
“فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله(ص) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولّد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون”.
وحين قتل الزبيري قال الإمام(ع) في توقيع خرج عنه: «هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنّه يقتلني وليس لي عَقب، فكيف رأى قدرة الله فيه”؟!.
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد أنّه قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكري(ص)يقول: «الحمدلله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله(ص) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يُظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظُلماً”.
وقد أمر الإمام(ع) بعض وكلائه بأن يعقّوا عن ولده المهدي(عج) ويطعموا شيعته، والعقيقة له إخبار ضمني بولادته(ع). بل جاء التصريح في بعضها بالولادة حيث كتب لبعضهم ما نصّه: «عقّ هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك”.
الخطوة الرابعة:
وتمثّلت في الإشهاد على ولادة الإمام المهدي(عج) ووجوده وحياته.
فعن أبي غانم الخادم أنّه ولد لأبي محمّد ولد فسمّاه محمّداً فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: “هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالإنتظار، فإذا إمتلأت الأرض جوراً وظلماً فملأها قِسطاً وعدلا”.
وعن عمرو الأهوازي أنّ أبا محمّد أراه ابنه وقال: “هذا صاحبكم من بعدي”.
وعن معاوية بن حكيم ومحمّد بن أيّوب بن نوح ومحمّد بن عثمان العمري أنّهم قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ(ع) ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً فقال:
“هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا» قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى مضى أبو محمّد(ع)”.
الخطوة الخامسة:
وتمثّلت في النصوص التي هيّأت أتباع أهل البيت(ع) لاستقبال الوضع الجديد الذي سيحلّ بهم عند غيبة الإمام المهدي(ع) لئلاّ يفاجأوا باُمور لا يعرفون كيفية التعامل معها مثل ما يحصل بعد الغيبة من الحيرة والاختلاف بين الشيعة، وما ينبغي لهم من الصبر والانتظار للفرج والثبات على الإيمان والدعاء للإمام(ع) ولتعجيل فرجه الشريف.
استشهاد الإمام الحسن العسكري(ع)
وبعد أن أدّى الإمام العسكري (ع) مسؤوليته بشكل كامل تجاه دينه وأُمّة جدّه(ص) وولده(ع) نعى نفسه قبل سنة ستين ومائتين، وأخذ يهدّئ روع والدته قائلاً لها: “لا بد من وقوع أمر الله فلا تجزعي”…، ونزلت الكارثة كما قال، والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن اعتلّ(ع) في أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل من ذلك العام. ولم تزل العلة تزيد فيه والمرض يثقل عليه حتى استشهد في الثامن من ذلك الشهر، وروي أيضاً أنّه قد سُم واغتيل من قبل السلطة حيث دسّ السم له المعتمد العبّاسي الذي كان قد أزعجه تعظيم الأمة للإمام العسكري وتقديمها له على جميع الهاشميين من علويين وعبّاسيين، فأجمع رأيه على الفتك به.
ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد (الحجّة) وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين وقد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب.
ودفن الإمام الحسن العسكري(ع) إلى جانب أبيه الإمام الهادي(ع) في سامراء (في العراق)، وقد ذكر أغلب المؤرخين أنّ سنة وفاته كانت (260هـ) . دون إيضاح لسبب وفاته.
الصلاة على الإمام العسكري(ع)
وكان لاستشهاد الإمام العسكري(ع) صدىً كبير في سامراء، فقد عطّلت الدكاكين وسارع العامة والخاصة إلى بيت الإمام، ويروي أحمد بن عبيدالله واصفاً ذلك اليوم العظيم قائلاً: ولما رفع خبر وفاته، ارتجّت سرّ من رأى وقامت ضجة واحدة: مات ابن الرضا، وعطّلت الأسواق، وغلّقت أبواب الدكاكين وركب بنو هاشم والكتّاب والقوّاد والقضاة والمعدّلون وساير الناس الى أن حضروا جنازته فكانت سرّ من رأى شبيهاً بالقيامة.
ولما اُخرج نعش الإمام العسكري(ع) صلّى عليه أبو عيسى بن المتوكل بأمر الخليفة المعتمد العبّاسي، تمويهاً على الرأي العام حول استشهاد الإمام(ع)، وكأنّ السلطة ليس لها في ذلك يد بل على العكس، فإنّها قد أظهرت اهتماماً كبيراً أيام مرض الإمام(ع) وخرج كبار رجالات البلاط العبّاسي مشيعين…، ولكن مثل هذه الاُمور لا يمكن أن تنطلي على شيعة الإمام ومواليه، وهكذا غالبية المسلمين الذين عاصروا ما جرى للإمام(ع)من قبل السلطة من سجن وتضييق.
أولاد الإمام الحسن العسكري(ع)
إنّ المشهور بين الشيعة الإمامية، أن الإمام العسكري(ع) لم يكن له من الولد سوى الإمام محمّد المهدي (عج) ويدل عليه ما أشار إليه الشيخ المفيد إذ قال: ولم يخلف أبوه ولداً غيره ظاهراً ولا باطناً.
كما ذهب إلی ذلك ابن شهر آشوب حيث قال: وولده القائم لا غيره.
وأصحاب المصادر التاريخية، کابن الأثير والمسعودي وابن خلكان وغيرهم لم يشيروا إلی غير الإمام المنتظر (عج) وهو الذي ولد في النصف من شعبان عام (255هـ).
نفحات من تراث الإمام العسكري(ع)
من تراثه المعرفي
1 ـ عن أبي منصور الطبرسي مسنداً قال: حدثنا أبو محمّد الحسن بن عليّ العسكري(ص)، قال: “حدثني أبي عن آبائه (ع) عن رسول الله(ص) أنّه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع من اُمّه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا ، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرّفيق الأعلى”.
2 ـ وعنه(ع) بالإسناد المتقدم قال : قال موسى بن جعفر(ع): “فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد، لأنّ العابد همّه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة”.