في ذكرى وفاته .. جُندَب بن جُنادة – أبو ذر الغفاري
392
شارك
أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) اسمه ونسبه: جُندَب بن جُنادة، ونسبه المعلوم إلى عدنان يعضد انتماءه إلى قبيلة بني غِفار. ولادته: لم يقدِّم لنا المؤرّخون معلومات عن تاريخ ولادته، لكنهم لمَّا ذكروا أنه توفّي وهو شيخ كبير، فلا بد أنه كان قد عَمَّر طويلاً قبل الإسلام. إسلامه: ذهب المؤرّخون إلى أنه كان في ثُلَّة الأوائل الذين آمنوا بالإسلام، وعدُّوه رابعَ أو خامس من أسلم. موقف شجاع: كان أبو ذر من الإخلاص والجرأة بحيث وقف في الكعبة، وأعداء الرسالة كانوا فيها، ونادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وبهذه الصورة افتتح تحدِّيه للأصنام، وتحدِّيه للحكّام الجائرين المتكبرين في مكة، وأعلن رفضه التام الصريح لهم، وما كان للمسلمين – يومذاك – مثل هذه الجرأة من التحدي لقريش. فركض الجميع، وبدأوا بضرب أبي ذر، وبدأوا بالشتم والطعن والسب، وبدأ الناس بالتكاثر، فلقد كانت وليمة دسمة للارتفاع عند السادة المتكبرين. وبدأت الإمدادات بالوصول لتوِّها لضرب البطل أبي ذر، وبقي ثابتًا صامدًا رغم قسوة الظروف، وكثرة الهراوات واللكمات التي تسقط على جسمه، كان صوته يرتفع: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. بقي صامدًا رغم الضربات القاسية، فالإرادة والعزيمة والتصميم كانت قوية عنده، وحينما سقط بأيدي الجهة الطاغية، استخلصه أحد القوّاد من بين براثن الجهلة المضللين، قائلاً: أتقتلون الرجل، وطريقكم على غفار، تمرُّون عليها بقوافلكم كل يوم؟!! فتركوه كارهين، وهم ينظرون إليه نظرات تشفٍّ وحقد، والكل يعد ويمنِّي نفسه، إذا ما وجده بمفرده فلسوف يحرقه بالنار سبعين مرة. سحب أبو ذر نفسه إلى أن وصل إلى زمزم، والدماء تسيل من جميع جوارحه، فغسل جميع جراحاته، ونظَّف جسمه من الدم، وكأنه يقول: مرحبًا بدماء الحرية، لقد وجدت هويتي في هذه الدماء، هذه وثيقة إرادتي الحرة، وضريبة العقيدة التي لا تلين أمام زيف الباطل، رغم قوته. ثم اتَّجه نحو المنبع الفكري، اتجه إلى الرسول (ص)، ليستزيد منه علمًا وتجربة، وليأخذ منه التعاليم والدروس الحركية. إن أبا ذر سيكرر المشهد ثانية، لكن سيعيدها بزخم أكبر وأشد قوة، بعد أن استزاد من توجيهات الرسول (ص)، قوة فوق قوة، وصلابة فوق صلابة. فقد قال (ص): (قل الحق وإن كان مُرًّا). وقال (ص): (لا تَخَف في الله لَومَة لائم). وإن الطغاة يحسون أبا ذر ثقيلاً عليهم، فهو صعب الاستمالة، وكرر التجربة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. سحبوه وضربوه حتى كاد أن يموت، وأثخنوه بجراحات كبيرة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يثنوه عن عزمه، لو كانوا يفعلون بالجبل ما فعلوه بأبي ذر، لكان قد أصبح قاعًا صفصفًا، لكنه بقي صامدًا. فالمؤمن أشدُّ من الجبل، لأن الجبل يستقلّ منه المعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء. جهاده في زمن النبي (ص): قَدِم أبو ذر إلى المدينة المنورة سنة (6 هـ)، فأسكنه النبي (ص) في المسجد، مع عِدَّةٍ من المسلمين الفقراء، وهؤلاء هم المشهورون بأصحاب (الصُّفَّة). وقد شهد أبو ذر عددًا من الغزوات مثل غزوة الغابة، كما شهد سَرِيَّة قرب المدينة. وخَلَفَ النبيَّ (ص) على المدينة في غزوة بني المصطلق، وعُمرة النبي (ص) سنة (7 هـ) فاضطلع بأعمالها، ورفع لواء بني غفار، وهم ثلاثمِائة في فتح مكة، ومرَّ به على أبي سفيان. منزلته: يتمتع هذا الصحابي الجليل بمنزلة رفيعة مرموقة خاصة بين الإمامية، ويسمُّونه والثلاثة الآخرين معه (سلمان والمقداد وعمّار) الذين ثبتوا على ولائهم للإمام أمير المؤمنين (ع)، بعد النبي (ص) بـ(الأركان الأربعة). وتدل الروايات المأثورة عن الأئمة المعصومين (ع) في أبي ذر على أنهم كانوا ينظرون إليه كرجلٍ زاهد كامل، وقوله وعمله أسوة للشيعة، وكانوا (ع) يحدثون شيعتهم دائمًا بسيرته ومواعظه. وحريٌّ بالذكر أن نص النبي (ص) على صدقه في الحديث المتواتر المشهور: (مَا أظلَّت الخضراء ومَا أقَلَّت الغبراء أصدَق لهجةً من أبي ذرٍّ). دفع علماء الشيعة والسنة إلى الثناء عليه و تمجيده. موقفه من بيعة أبي بكر: عندما انتقل النبي (ص) إلى جوار ربه، واستُخلف أبو بكر سنة (11 هـ)، كان أبو ذر في الصفوة التي أقبلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، رافضًا بيعة أبي بكر، ثم بايعه مُكْرَهًا. وبلغ في القُرب من أمير المؤمنين (ع) درجةً أنه كان معه في الخاصة من أصحابه عند تشييع السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ودفنها. موقفه من عثمان: ساء أبو ذر ما رأى من ممارسات عثمان في المدينة، وعامله معاوية في دمشق مِن مثل محاباته قُرباه بالأعمال المهمة. ودفعه الأموال الطائلة، وكنز الثروات، والتبذير والإسراف، وانتهاك السُّنّة النبوية، فامتعض منهما وغضب عليهما. فأراد عثمان إبعاده عن المدينة (عاصمة الخلافة)، فأتفق مع معاوية على إبعاده إلى الشام، ولما وصل إلى الشام بقي هناك على نهجه في التصدي إلى مظاهر الإسراف والتبذير لأموال المسلمين، وظل صامدًا بالرغم من محاولات معاوية في ترغيبه في الدنيا وتطميعه.
وبعد أن عجز عنه معاوية راسل عثمان في شأنه، فطلب عثمان من معاوية أن يُرجِع أبا ذر إلى المدينة بُعنف، فأركبه معاوية على جمل بلا غطاء ولا وطاء. ولمَّا دخل المدينة منهَكًا متعَبًا حاول عثمان أن يسترضيه بشيءٍ من المال، فرفض ذلك، وواصل انتقاده للنظام الحاكم والأسرة الأموية، فغضب عثمان وأمر بنفيه إلى الرَّبَذة، ليُبعده عن الناس. نفيه إلى الربذة: عند خروجه من المدينة متوجّهًا إلى منفاه (الرّبذة)، شايعه أمير المؤمنين (ع) وبعض مقرَّبيه، على الرغم من الحظر الذي فرضه عثمان. وتكلّم الإمام (ع) عند توديعه كلامًا بليغًا، أثنى فيه على أبي ذر، وذمَّ عثمان وأعوانه. وموقف الإمام (ع) هذا في مشايعة أبي ذرّ ودعمه أدّى إلى مواجهة شديدة بينه وبين عثمان. توجَّه أبو ذر إلى الربذة مع زوجته وابنته، وأقام هناك ومعه بعض الغلمان، وعدد من الأغنام والجمال إلى صحراء الربذة، حيث لا ماء ولا كلأ، وهو مشرد عن وطنه، وعن حرم رسول الله (ص) له. فحطَّ الرحال، ونصب الخيمة بمفرده، وأخذ يستعدُّ للمصير الذي أخبره به النبي (ص)، حيث قال فيه: (يَرحم الله أبا ذر، يَمشي وَحده، ويَمُوت وحده، ويُبعَث وحده، ويشهده عصابة من المؤمنين). وفاته: في المنفى (الربذة) اشتدَّ المرض بولده، بعد أن ماتت زوجته من فرط الجوع، فالتحق الولد بأمّه أيضًا، فدفنه ورجع إلى الخيمة ليستريح. لكنه (رضوان الله عليه) كان جائعًا قد ألمَّ به الطوى، فأصابه الذهول، وانهارت قواه، وهو شيخ طاعن في السن، فنظرت إليه ابنته، وإذا بعينيه قد انقلبتا، فبكت. فقال (رضوان الله عليه): ما يبكيك؟ قالت: كيف لا أبكي، وأنت تموت في فلاة من الأرض، وليس عندنا ثوب يسعنا كفنًا لي ولا لك، ولا بدَّ لي من القيام بجهازك. فقال (رضوان الله عليه): أبصري الطريق، لعلَّ هناك أحدًا من المؤمنين. فقالت يائسة: أنَّى، وقد ذهب الحاج، وتقطعت الطريق. لكن أباها قال لها: أبشري، فإن رسول الله (ص) قال: (إنَّ رجالاً من المؤمنين سيدخلونَ الجنة بِتَجهيزِك). فراحت ابنة الثائر العظيم، ترسل عينيها راجية باكية، وإذا بركب قادم من بعيد، أشارت إليهم، فأسعفوها، وقالوا: ما لكِ؟ قالت: أمرؤ من المسلمين، تُكفِّنُونَه، وتؤجَرون فيه. قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر الغفاري، صاحب رسول الله (ص). قالوا: بآبائنا وأمَّهاتِنا هو. فدخلوا على أبي ذر في خيمته المتواضعة، فبادرهم (رضوان الله عليه) قائلاً: والله ما كذبت، ولو كان عندي ثوب يسعني كفنًا لي ولابنتي، لم أكفن إلاَّ في ثوب هو لي ولها. وإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرًا، أو عريفًا، أو بريدًا، أو نقيبًا. فلم يُجِبه إلاَّ فتى من الأنصار، قائلاً له: إني أكفنك يا عم في ردائي هذا الذي اشتريته بمال كسبته بعملي، وفي ثوبين من غزل أمي، حاكتهما لكي أحرم فيهما. فقال (رضوان الله عليه): أنت تكفِّنُني، فثوبك هو الطاهر الحلال. فاستشهد، وبقي شاهدًا على مجتمعه وعلى التاريخ كله، وكأنه لم يمت. أغمض الثائر العظيم عينيه، وودَّع الدنيا شهيدًا، وكانت وفاته (رضوان الله عليه) سنة (31 هـ) أو (32 هـ).