لعل أحد الاسباب في اقتران بعض الأئمة (عليهم السلام) بنساء غير عربيات، بل من قوميات أخرى كالفارسية أو الرومية أو غيرهما؛ ليكون ذلك علامة بارزة على عالمية إمامتهم، وأن لكل من السلالات البشرية طرفا يوصلها بهذا الدين الإلهي العظيم، وتلك حكمة بالغة ولطف عام لكل البشر، أما ما يتعلق بأم الإمام المهدي (عليه السلام) فهي تنحدر من سلالة أحد أوصياء عيسى بن مريم (عليهما السلام) وربما في ذلك تمهيد لإنجاز مهمة الإمام (عليه السلام) في خضوع النصارى، وتسليمهم له نظرا إلى أن أجداده لأمه منهم، فيحرك في نفوسهم الجانب العاطفي للرحم القائمة بينه وبينهم، الأمر الذي يختصر عليه كثيرا من الأمور وينجزها في سهولة ويسر.
السيدة نرجس خيرة الإماء
هي السيدة الجليلة الطاهرة المباركة التي اختارها الله تعالى من بين نساء الأرض لتنال شرفا لا يضاهيه شرف، ولتكون الوعاء المبارك الذي يحمل خاتم الاوصياء، وآخر الحجج، وصفها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: (خيرة الإماء).
لقد عاشت السيدة نرجس توفيقا إلهيا عجيبا يشبه المعجزة لتصل في نهاية رحلتها إلى بيت الإمام علي الهادي (عليه السلام) كجارية مملوكة بعد ان دخلت سامراء مع سبي المسلمين.
الملاحظ في سير السيدة نرجس عليها السلام هو تعدد اسمائها؛ فبالإضافة إلى نرجس وهو اسمها المشهور، فهي تسمى مليكة، وسوسن، وصقيل، وريحانة وغيرها؛ وربما السبب في هذا التعدد إنها ستتعرض للمطاردة، والاضطهاد من قبل السلطات العباسية – كما سنعرف فيما بعد -؛ فهو نوع من التمويه لحفظها، وحفظ الإمام المنتظر عليه السلام؛ لأن السلطات ستعتقد إن هناك نساء عديدات بتعدد الاسماء، فيبحثون عن عدة شخصيات، ولا يعلمون إن تعدد الاسماء يعود لامرأة واحدة!.
كيف بدأت القصة؟
تقول الروايات إن الإمام الهادي عليه السلام بعث رجلا من ثقات شيعته ليشتري له جارية محددة، بيّن له أوصافها بدقة، فقد كانت متعففة بدرجة منقطعة النظير، تمتنع عن العرض، وتأبى اللمس والانقياد للمشتري، وحدد له المكان والزمان، ورسم له خطة كاملة لكيفية اجراء معاملة البيع، كما حدد له الثمن بدقة، وأخيرا زوّده برسالة خاصة باللغة الرومية كتبت بخط يده كدليل على شخصية المشتري، وفي الزمان والمكان المحددين ذهب النخاس وأتمَّ الصفقة حسب تعليمات الإمام عليه السلام وتوصياته.
إثناء رحلة العودة حكت السيدة نرجس للنخاس قصتها، وكيف وصلت إلى سوق الجواري، وأي تخطيط غيبي رسم لها خارطة الطريق.
قالت له إن نسبها يرجع إلى شمعون وصيِّ موسى، فهي أميرة من سلالة ملكية، جدّها هو ملك الروم، وقد كانت على وشك الزواج من أحد الأمراء من أقاربها، ولكن شيئا غريبا قد وقع اثناء مراسيم الزواج، إذ تهاوت الصلبان، وانهار العرش الذي أقيم في قاعة الزواج، وأخيرا سقط الرجل المرشّح للزواج مغشيا عليه؛ فتشاءم الجميع من هذا الحدث، واعتبروه إيذانا بسوط دولتهم، وانهيار دينهم، فقروا استبدال الزوج بأخيه، ولكن حصل للثاني ما حصل للأول فانفض الاجتماع وقيصر الروم يشعر بالغم والحزن الشديد لما حصل.
بعد هذه الحادثة رأت السيدة نرجس في عالم الرؤيا مجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين عليه السلام وكوكبة من أهل بيته، وفيهم الإمام الحسن العسكري عليه السلام وخطبوها من نبي الله عيسى عليه السلام.
وفي تخطيط دقيق من خلال عالم الرؤيا رسم الإمام العسكري عليه السلام لها طريق الوصول إلى سامراء؛ حيث تقع في الأسر في إحدى المعارك بين المسلمين والروم، وتستمر رحلتها انتهاء ببيت الإمام علي الهادي عليه السلام.
في بيت الإمام علي الهادي عليه السلام
عندما أوصلت يد العناية الإلهية السيدة نرجس إلى بيت الإمام علي الهادي عليه السلام قام باختبارها ليعرف مدى إيمانها واستعدادها لقيام بالدور التاريخي الذي سيناط بها، وما يكتنفه من مخاطر ويحتاجه من تضحيات حيث قال لها:
(فإني أحببت أن اكرمك، فما أحبُّ اليك عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك بشرف الأبد؟)، قالت: بشرى بولد لي، قال لها: (ابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً).
وأول من التقت به السيدة نرجس من عائلة الإمام الهادي هي السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام حيث استدعاها الإمام لتلتقي بها، فلما وصلت قال لها الإمام مبتهجا: (ها هي) وكأن الجميع كان بانتظار وصولها على أحر من الجمر، فاعتنقتها طويلا وهي تشعر بالسرور والفرح، ثم طلب الإمام من أخته أن تأخذها معها إلى بيتها لتعلّمها الفرائض والسنن وأحكام الدين.
بقيت السيدة نرجس في بيت السيدة حكيمة حتى انتقلت إلى بيت الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وكان ذلك قبيل وفاة أبيه، وقد ربطت بين السيدتين مودة؛ حتى صارت نرجس احبُّ جواري الإمام إلى قلبها، وكانت تعاملها باحترام فائق منذ أن علمت أنها ستكون أمّاً لخاتم الأوصياء والحجج، ومن معالم احترامها لها أنها كانت ترفض أن تقوم بخدمتها كما يفعل الجواري مع السادة، وكانت تكلّمها بما يليق بمستقبلها المشرق، ودورها الموعود، وعندما كانت تخاطبها بـ (يا سيدتي)، كانت تردُّ عليها: (بل أنت سيدتي وسيدة أهلي).
في الليلة الموعودة
في ليلة مباركة من شهر شعبان الأغرِّ، حين شاء الله ان تشرق شمس خليفته في أرضه، وحجته على عباده؛ دعا الإمام الحسن العسكري عليه السلام عمته السيدة حكيمة للإفطار في بيته، وبشّرها بالحدث السعيد، فسألته عن أمِّ هذا الوليد الميمون، فأخبرها بأنها نرجس، فغمرت الفرحة قلبها لما تكنّه من مودة خالصة لهذه السيدة المباركة منذ لحظة اللقاء الأولى لذا ردّت عليه قائلة: (يا سيدي ما في جواريك أحبُّ إليَّ منها ولا أخفُّ على قلبي).
ومع فرحة السيدة حكيمة بالنبأ السعيد لكن في الوقت نفسه أبدت دهشتها؛ لأنها لا ترى أثرا للحمل على نرجس فأكّد لها الإمام الخبر وهو يبتسم : (إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل لأنّ مثلها مثل أم موسى عليه السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها احدٌ إلى وقت ولادتها، لأنّ فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام، وهذا نظير موسى عليه السلام).
إنها قدرة الله التي تعطّل بعض القوانين الكونية، وتخرقها بالمعجزة إذا كان ذلك من أجل تحقيق هدف مهم، وأي هدف أهم من حفظ حجة الله، وخاتم اوصيائه؟
نقلت السيدة حكيمة البشارة إلى نرجس: (إنّ الله سيهب لك في هذه الليلة غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة وهو فرج المؤمنين)، وبقيت طوال الليل تراقب الحدث السعيد إلى أن حانت ساعته المباركة، ومع خيوط الفجر الأولى انتبهت السيدة نرجس من نومها فزعة، فأسرعت السيدة حكيمة إليها، واحتضنتها بحنان وإشفاق، وقالت لها: (اجمعي نفسك، واجمعي قلبك فهو ما قلت لك).
تقول السيدة حكيمة في روايتها عن تلك اللحظات المباركة: (فأخذتني فترة وأخذتْها فترة، فانتبهت بحسّ سيدي فكشفت الثوب عنه، فاذا أنا به عليه السلام ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده، فضممته اليّ فاذا به نظيف متنظف).
من الواضح إن توقيت الولادة في هذا الوقت بالذات له دلالته وأهميته الخاصة لأن عيون السلطات – التي كانت تترقب ولادة الإمام – تكون عادة مستغرقة في النوم، كما يُستفاد من الروايات إن الإمام العسكري عليه السلام أحاط ولادة ولده بالسرية التامة، حيث لم يشهدها إلا السيدة حكيمة والتي كنت تجهل وجود الحمل اصلا، ولم تعلم به إلا في الليلة نفسها، وإن كانت رواية الشيخ الطوسي تذكر استدعاء قابلة عجوز من الجيران في جو من السرية والتكتم؛ وبهذا اصبح خفاء ولادة الإمام المهدي عجل الله فرجه من العلامات البارزة لشخصيته والتي اشارت إليها الروايات وبينت سببها والحكمة من ورائها.
السيدة نرجس بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام
تقول الروايات بعد وفاة الامام الحسن العسكري عليه السلام سنة 260، قبض المعتمد العباسي على السيدة نرجس، وطالبها بالمهدي فأنكرته، وادّعت أنها حامل لتموّه الأمر عليهم فلا يبحثوا عن طفل وليد، مما دعا بالخليفة العباسي إلى نقلها إلى داره، وأحاطها بمجموعة من الجواري والنساء، وبقيت السيدة نرجس تحت الإقامة الإجبارية وهم ينتظرون أن تضع جنينها، إلى أن حدثت اضطرابات خطيرة في الدولة وفتن متعددة شغلت السلطات عنها، فنسوا امرها، فاستطاعت الخلاص منهم، وتقول بعض المصادر إنها التجأت إلى دار أحد الشيعة الثقات وهو (الحسن بن جعفر النوبختي).
وبعد موت المعتمد ومجيء المعتضد سنة 279 – والذي كان متشددا على أهل البيت وشيعتهم كالمتوكل – علم بوجود السيدة نرجس في دار الحسن بن جعفر النوبختي، فألقى القبض عليها مرة أخرى، وحملها إلى قصره وحبست هناك حتى وافتها المنية في أيام المقتدر العباسي.
وهكذا عاشت السيدة نرجس المحن الشديدة، وتحمّلت الحبس في بيوت الظالمين، وقاست ألوان العذاب وهي صابرة في سبيل حماية ولدها من بطش العباسيين، ولم تتمكن ممارساتهم الوحشية، وطول حبسهم لها من حملها على الاعتراف بمكانه، او حتى بوجوده،، ولذا ورد في زيارتها:
(أَشْهَدُ أَنَّكِ أحْسَنْتِ الكَفالَةَ وَأَدَّيْتِ الاَمانَةَ وَاجْتَهَدْتِ فِي مَرْضاتِ الله وَصَبَرْتِ فِي ذاتِ الله وَحَفِظْتِ سِرَّ الله وَحَمَلْتِ وَلِيَّ الله وَبالَغْتِ فِي حِفْظِ حُجَّةِ الله وَرَغِبْتِ فِي وُصْلَةِ أَبْناءِ رَسُولِ الله عارِفَةً بِحَقِّهِمْ مُؤْمِنَةً بِصِدْقِهِمْ مُعْتَرِفَةً بِمَنْزِلَتِهِمْ مُسْتَبْصِرَةً بِأَمْرِهِمْ مُشْفِقَةً عَلَيْهِمْ مُؤْثِرَةً هَواهُمْ…).
ودفنت مع الإمامين العسكريين في المشهد المقدس نفسه، خلف ضريح الإمام العسكري عليه السلام.