“الإحراج الاجتماعي” يدفع بعض العوائل للمساومة بمستقبل أبنائها
305
شارك
الحكمة – متابعة: بمجرد أن يسمع “ن،م” الطفل الذي لم يتجاوز التسعة أعوام، النشيد الوطني، يندفع بحركات مضطربة منفعلة وسط ساحة المدرسة يتمتم بكلمات غير مفهومة، يظل على هذا الحال بضع ثوان أو دقائق معدودة إلى أن يخبئ نفسه تحت دهشة العيون التي تربكها الأسئلة، كيف وصل به الحال إلى التسجيل في هذه المدرسة وهو يعاني من التوحد؟! هذا الموقف لم يكن لحظة عابرة في حياة معلمة الاجتماعيات التي رفضت الإشارة إلى اسمها، فـ”ن،م” يعاني من اضطرابات نفسية حادة لا يمكن السيطرة عليها، وغالبا ما يلوذ بالصمت ليطلق صرخة مدوية تفزع الطلاب من حوله، قد تدفع بها إلى إخراجه خارج الصف خوفا من أن يسمع الاشراف التربوي بتفاصيل هذه الحالة فيسارعون إلى الاستفسار عن الحالات المخبأة فيها، وتقول المعلمة بصوت مليء بالأسى:
” يمكن لأي شخص ملاحظة “ن،م” اثناء شرح الدرس، وهو يقلب بيديه ووجه نحو الحائط متجنبا الاتصال بالعين بصورة مباشرة، وكأنه يعيش في عالم مركب هو وحده يعيش فيه، بدت على وجهها علامات الحزن والاستياء، ثم واصلت:” مع الاسف ليست هذه الحالة الاولى التي يتم قبولها في المدارس الاعتيادية، ففي أغلب المدارس الحكومية أو الأهلية ستجد عددا لا يعد ولا يحصى من الأطفال الذين يعانون من صعوبات النطق والإفراط الحركي يتم استقبالهم دون تردد، فكلهم خليط من تفاصيل دقيقة تسعى إدارات بعض المدارس إلى إخفائها بعيدا عن أعين الاشراف التربوي الذي يصب اهتمامه على متابعة المعلمين والمنهج التعليمي والاختصاصات المتوفرة الى ان تحدث الكارثة غير المنتظرة التي تفسد جميع التقديرات التي تحسب لها حسابا، كالتي حدثت مع “ن،م” في الاصطفاف!.
ويقول مدير مركز متخصص بذوي الاحتياجات الخاصة حيدر باسم نصيف ان:” الاحراج الاجتماعي الذي يسببه الطفل التوحدي لعائلته يدفعهم بالمساومة بمستقبله، فبعض العوائل غالبا ما يبدون ردود افعال غير متوقعة حال علمهم باعاقة ابنائهم، فالاحساس بالصدمة وسلسلة المشاعر المحبطة التي يتعرضون لها يدفعهم الى اهمالهم بشكل متعمد، مما يسبب لهم عزلة اجتماعية تفاقم من حالتهم المرضية التي يمكن معالجتها اذا ما تم تشخيصها بوقت مبكر”.
لجان خاصة
ومن جانبه يقول مشرف التربية الخاصة اياد علوان حسين:”ان الطلاب الذين يتم تشخيصهم من قبل لجان طبية بأنهم يعانون من صعوبات في النطق والتعلم والتواصل يتم احالتهم الى صفوف التربية الخاصة التي تشمل ايضا من كان لديه معينات بصرية وسمعية ويكون لكل فرد منهم صف خاص لتعليمه، الا ان الواقع حال دون ذلك، فضعف الامكانيات المتوفرة وضعتهم في صف واحد ولكن بخطة تعليمية منفردة، لتواجهنا عقبة اخرى لا يمكن فعلا حلها مهما استنفذنا من جهود، والتي يقع ضحيتها الطالب الراسب او المسجل كطالب جديد في صف التربية الخاصة وذلك لعدم توفر معلمة بديلة، فمعلمة التربية الخاصة ترحل مع طلابها من المرحلة الاولى الى الثانية وهكذا الى ان تصل بهم الى المرحلة الرابعة والاخيرة لتبقى السنوات الثلاث ما بعدها مغيبة لذلك يفضل بعض العوائل ابقاء ابنائهم في الصفوف الاعتيادية على نقلهم من مدرسة الى اخرى وبحسب المراحل التي تتوفر فيها معلمة التربية الخاصة”.
ويعود مدير المركز لاكمال حديثه مؤكد ان ” اعراض التوحد تظهر بشكل طفيف عند الاطفال في عمر السنتين والنصف كعدم قدرته على التواصل والتعلم والتفاعل الاجتماعي الذي يكون سببه خلل وظيفي في الجهاز العصبي المركزي (المخ)، ومع الاسف يمكن لادارات بعض المدارس ان تتلاعب بمشاعر العوائل وضمه الى صفوفها ما ان يتم السبع سنوات، واما المرضى الذين يعانون من متلازمة “داون” فيصعب على المدارس الاعتيادية استقبالهم او ضمهم بين صفوفها لانه مشخص طبيا وشكليا منذ الاشهر الاولى، لذلك ما ان تتدخل اللجنة لحسم قرار تشخيصهم اذا كانوا يعانون من التوحد او متلازمة “داون” او المكفوفين فيحالون الى معاهد لذوي الاحتياجات الخاصة لوضع خطة فردية لكل فرد تسهم بتعديل سلوكهم وتحت اشراف وزارة العمل والشؤون الاجتماعية “.
التقاطات حية
ما ان وقعت مديرة احدى المدارس كشاهد زور على امكانية مسايرة “عبدالله” لزملائه في الدراسة سقطت جميع الاجراءات المتعلقة بنجاحه! فبحسب قول والدته، وبناء على ملاحظتها فإن “عبدالله” يعاني من صعوبات في التعلم والقراءة، ولتخفف العبء عن قلبها المثقل بالذنوب اخبرت ادارة المدرسة بذلك، وتقول الام بعينين مغرورقتين بالدموع وهي تستعيد صورا من تلك المقابلة:
” كان هناك اهتمام واضح من قبل المدرسة الاهلية بمتابعة تعليم “عبد الله” بشكل خاص ، وذلك من خلال تقديم بعض البرامج الخاصة التي تساعده على التركيز والانتباه، ولانني ابحث عن الافضل لابني الوحيد قررت خوض غمار هذه التجربة وتسجيله فيها، ولكن ما ان مرت بضعة اسابيع على تسجيله………
وتقول مشرفة “التربية الخاصة” زينب عبد السلام عبد الرحمن: إن ” بعض اولياء الامور يفضل ان ينجح اولادهم بمنافذ معينة في الصفوف الاعتيادية على نقلهم الى صفوف التربية الخاصة فالوجاهة الاجتماعية تحكم اغلب العوائل، كما ان من شروط التربية الخاصة الحصول على موافقة الاهل لنقلهم الى غرفة المصادر، لذلك تقوم معلمة التربية الخاصة بمراقبة الطلاب في الصفوف الاعتيادية لمدة شهر بالتعاون مع معلمة الصف وادارة المدرسة والاشراف التربوي لتشخيص الطلاب الذين يعانون من صعوبة مواكبة زملائهم ما ان يثبت ان الطالب يعاني من صعوبة في التعلم والنطق يتم استشارة الاهل والحصول على موافقتهم لغرض نقلهم الى غرفة المصادر وواجهنا عدة صعوبات في استحصال موافقتهم وهناك من رفض الفكرة اساسا لذلك عملنا على استخدام الدمج التربوي ووضع 6 الى 8 طلاب ويعاد دمجهم في الصفوف الاعتيادية بعد توصيل الدرس لكل الحالات المستعصية وهناك من الطلاب من يعاني من الحالات الشديدة جدا ليبقى على مدار سنة بين الصف الاعتيادي وغرفة المصادر التي تكون بمثابة تقوية، لذلك فالسنة الوحيدة التي استطعنا تخطي كل العقبات 2013-2014 عندما استطعنا تخريج اول وجبة من طلبة التربية الخاصة من الصف السادس الابتدائي في مدرسة البخاري”.
جرائم منظمة
وتعود ام عبدالله بعد ان اخذت نفسا عميقا لتختتم حديثها:” حصل على درجة كاملة في الاملاء” قالت ذلك وفي صوتها بعض الشك: “في تلك اللحظة تضاعفت افكاري دون توقف كيف حدث هذا؟ وغالبا ما اجده عاجزا عن كتابة بعض الكلمات بصورة صحيحة في المنزل ، وهذا مازاد من شكوكي بصحة الدرجة التي حصل عليها الى ان استدرجته بالتحايل لتعليمي الطريقة التي يكتب فيها وكانت الصدمة، فقد كانت معلمة المادة تكتب المفردة امامه ويعيد نسخها بكتابات عسراء متعثرة مكونة من احرف ضخمة في دفتره حتى لاتتضح معالم الجريمة المنظمة التي تبتدعها بعض المعلمات من اجل ارضاء مديرة المدرسة ومن ثم العوائل، وهذا مادفعني الى نقله الى معهد خاص بصعوبات النطق والتعلم”.