أسطر موجزة عن الإمام علي النقي الهادي عليه السلام بمناسبة شهادته الذي يصادف يوم الثالث من رجب لسنة مائتين وأربعة وخمسين من الهجرة النبوية الشريفة، بعد أن عاش أربعين سنة أفاض فيها على هذا الخلق الكثير من علمه وأخلاقه رغم المضايقات الشديدة عليه، فكانت سنين قصار ولكنها طوال من حيث ما أفاد به الإنسانية المحرومة ومن حيث المعاناة التي تعرض لها من قبل الحكام الظالمين وأتباعهم، وقد كان عمره الشريف على مرحلتين:
الأولـى: الفترة التي قضّاها مع والده الإمام عليه السلام والتي بدأت من سنة مائتين واثني عشر حيث كانت ولادته الشريفة فيها في شهر ذي الحجة، واستمرت إلى سنة مائتين وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة حيث في أواخر ذي القعدة منها رحل الإمام الجواد عليه السلام عن هذه الدنيا مسموماً عن عمر لا يناهز الخمس وعشرين سنة، فلم يعيش مع والده إلا ثمانية سنين وقيل: أقل من ذلك كما نقل ذلك العلامة المجلسي(قده) في البحار ج50 عن جمع من الأعلام من أنه عاش مع أبيه ست سنين وخمسة أشهر.
الثانيـة: وهي فترة إمامته والتي بدأت من سنة 220هـ وكان عمره ثمانية سنين أو أقل كما ذكرنا واستمرت إلى الثالث من رجب لسنة 245 هـ أي ما يقرب من ثلاثة وثلاثين سنة وأشهر، عاصر فيها مجموعة من الخلفاء العباسيين كالمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز وفي أواخر ملك المعتمد استشهد مسموماً، وقد تعرض في هذه المدة لصنوف الضغوط والإيذاء من قبلهم كما سنشير إليه، وبأيديهم كل شيء من سلاح وأموال وسجون وغير ذلك وهو لوحده ومع ذلك تمكّن من الوصول إلى الذين يعيشون في قصورهم من أطباء وحجاب فأثّر فيهم وهداهم إلى طريق الحق، وفي حياة الإمام الهادي عليه السلام تتجلى حقيقة ضعف الظالمين بشكل واضح وأنهم كانوا يسعون لإخماد نوره وإطفاء مصباح فضله وإذا بهم من نفس ذلك العمل الذي يعملونه ينتشر فضله ويشع نوره ويصل حتى لمن كان لا يعلم به، وما جلبه من المدينة المنورة إلى سامراء إلا شاهد واحد على ما أقول.
فقد تعرّف عليه من لا يعرفه ومن لم يسمع به، وتعلّق به من كان يتقرب إلى الله ببغضه لما رأى من جميل أخلاقه وكثير معاجزه وبراهينه، وبالتالي يكون الحكام العباسيون قد حفروا قبورهم بأيديهم بل كما قال القرآن:
وسأذكر تحت هذه الأسطر حادثة حصلت في أيام إمامته عليه السلام وبالخصوص أيام المتوكل لنعرف منها بعض الظروف التي أحيطت به والسلاح الذي كانوا يحاربون به وانتصروا به عليهم السلام، الحادثة ينقلها العلامة المجلسي في البحار عن كتاب امالي الشيخ الطوسي بسنده عن المنصوري عن عم أبيه قال:
(قصدت الإمام عليه السلام يوماً فقلت له: يا سيدي أن هذا الرجل قد أطرحني وقطع رزقي ومللني وما أتهم في ذلك إلا علمه بملازمتي لك وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك فينبغي أن تتفضل عليّ بمسألته فقال عليه السلام: تكفى إن شاء الله. فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولا فجئت والفتح بن خاقان على الباب قائم فقال : يا رجل ما تأوي إلى منزلك بالليل، كدّني هذا الرجل مما يطلبك، فدخلت وإذا المتوكل جالس على فراشه فقال: يا أبا موسى نشغل عنك وتنسينا نفسك أيّ شيء لك عندي؟ فقلت : الصلة الفلانية والرزق الفلاني وذكرت أشياء فأمر لي بها وبضعفها، فقلت للفتح: وافى علي بن محمد إلى هنا؟ فقال: لا، فقلت : كتب رقعة؟ فقال: لا، فوليت منصرفاً، فتبعني فقال لي : لست أشك أنك سألته دعاءً لك فالتمس لي منه الدعاء، فلما دخلت إليه عليه السلام قال لي: يا أبا موسى هذا وجه الرضا، فقلت: ببركتك يا سيدي ولكن قالوا لي: إنك ما مضيت إليه ولا سألته فقال عليه السلام: إن الله تعالى علم منا إنا لا نلجأ في المهمات إلا إليه ولا نتوكل في الملمات إلا عليه وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ونخاف أن نعدل فيعدل بنا.
قلت: إن الفتح قال لي كيت وكيت قال عليه السلام: إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه الدعاء لمن يدعو به، اذا أخلصت في طاعة الله واعترفت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبحقنا أهل البيت وسألت الله تبارك وتعالى شيئا لم يحرمك.
قلت: يا سيدي فتعلمني دعاء أختص به من الأدعية، قال عليه السلام: هذا الدعاء كثيراً أدعو الله به وقد سألت الله أنّ لا يخيب من دعا به في مشهدي بعدي وهو: ((يا عدتي عند العدد ويا رجائي والمعتمد ويا كهفي والسند ويا واحد يا أحد يا قلّ هو الله أحد وأسالك اللهم بحق من خلقته من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلهم أحدا أن تصلي عليهم وتفعل بي كيت وكيت)) (البحار ج50 ص27). هذه هي الحادثة التي نريد من خلالها أن نفهم بعض الشيء عن حياته الشريفة، حيث تشتمل على بعض النقاط المهمة، والتي تكشف كشفاً وإن لم يكن تاماً عن بعض المحاور في حياته الشريفة عليه السلام وهي ما يلي:
الأولـى: غربة الإمام عليه السلام ووحدته من حيث الأعداء ومن حيث الأصدقاء، وأن حياته مليئة بالظلامات ولم تقف عند حد المتوكل وأمثاله بل هي تصدر حتى ممن يعتقد بإمامته وملازم له.
أما المتوكل فبعد أن يأس من الأساليب التي اتبعها في اضطهاد الإمام عليه السلام والتي جاءت لإكمال المخطط من قبل العباسيين الذين أبعدوا الإمام عليه السلام عن المدينة المنورة إلى سامراء لعزله عن الناس ويعزل الناس عنه وجعله تحت رقابتهم وأن يكون قريباً منهم، جاء المتوكل المعروف بنصبه الشديد لأهل البيت عليهم السلام، وهو صاحب الكلمة المعروفة التي قالها لابن السكيت وكان معلماً لأولاده: أيهم أحبّ إليك هما أم الحسن والحسين؟
فأجابه: لنعل قنبر خادمهما أحب إلي منهما، ومن أبيهما فأمر بقطع لسانه.
ليكمل الشوط فاتبع أساليب متعددة :
منــها: محاولة تشويه سمعة الإمام عليه السلام وإشاعة نسبة شرب الخمر إليه.
حتى أن نفس الراوي لهذه الحادثة يروي أنه دخل يوماً على المتوكل وهو يشرب الخمر فدعاه إلى الشرب فقال له: ما شربته قط فقال : أنت تشرب مع علي بن محمد. (البحار ج50 ص124،125).
وهو الذي قال لأصحابه: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا وجهدت أن يشرب معي وينادمني فامتنع، وجهدت أن اَخذ فرصة في هذا المعنى فلم أجدها، فقالوا له: فإن لم تجد من ابن الرضا ما تريده في هذه الحالة فهذا أخوه موسى ـ وهو المبرقع ابن الإمام الجواد عليه السلام ـ قصّاف عزّاف يأكل ويشرب ويتعشق قال: ابعثوا إليه وجيئوا به حتى نموّه به على الناس ونقول ابن الرضا (البحار ج50 ص158، الكافي ج1 ص502).
وهو الذي بعث على الإمام عليه السلام في جوف الليل بتلك الحالة الفظيعة وطلب منه أن يشرب معه الخمر … وكيف رفض الإمام عليه السلام ثم طلب أن ينشده الشعر فأنشد الأبيات المعروفة التي بكى لها المتوكل:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القـلل
ومنهـا: فرض حصاراً اقتصادياً على الإمام عليه السلام حتى جعل عيونا ترصد الأموال التي تأتيه من قم، حتى هجم يوماً الجيش على داره ووجدوا فيها بدرة مختومة بختم أم المتوكل فحملوها معهم ليتحققوا من الأمر.
ومنـها: فرض الإقامة الجبرية على الأمام عليه السلام ومنعه من الالتقاء بالناس.
ومنـها: إيداعه في السجن.
ومنـها: محاولة حطّ الإمام في أعين الناس ـ وهذا غير تشويه السمعة ـ كجعله في خان الصعاليك، وقصة المشعبذي الهندي الذي كان يطير الخبز من أمام الإمام عليه السلام.
ومنـها: محاولات القتل المتعددة عن طريق الإلقاء في بركة السباع أو غيرها إلى غير ذلك من الأساليب التي اتبعها المتوكل في الضغط على الإمام عليه السلام وهنا توضح القصة أسلوب اَخر، فبعد أن عجزوا عن الإمام عليه السلام ووجدوا أن الإمام عليه السلام لا ينثني ولا يضعف ولا يمكن أن يحد بفعل من هذه الأفعال رجعوا إلى الناس ليضغطوا عليهم حتى لا يرتبطوا به ويمنعوهم من الالتقاء به، فيوضح المنصوري المعاناة التي واجهها بسبب ملازمة الإمام عليه السلام والاتصال به فيقطعوا رزقه من بيت المال، وهذا هو السلاح الذي اتبعه المنافقون مع
فإذا كانوا هكذا يتعاملون مع من جالسه ومن زاره فإذن ما هو الحقد الذي في قلوبهم عليه؟ وما هو الخوف الذي في صدورهم منه؟
ولكن المهم في القصة من جوانب غربة الإمام عليه السلام ووحدته هو ما صدر من هذا المحب الملازم له، والذي قد يخطأ القلم في تصويره، حيث إن هذا الرجل يعلم ويصرّح بأن محاربة المتوكل له وسبب قطعه لرزقه هو مجالسته وملازمته للإمام عليه السلام ثم يطلب من الإمام أن يكلمه، والمسألة الصعبة والتي لا يمكن تصورها هو كما لو جاء إنسان لأحد مراجع الدين وطلب منه أن يتوسط له عند إنسان مرتكب لكل المحرمات في قُمامة وقذارة ومجموعة من النفايات والأوساخ، فحال هذا كحال هذا مع الفارق الكبير فان مرجع الدين لا يصل إلى الإمام عليه السلام بل هو عبد من عبيده و مرتكب المحرمات لا يصل فيه حقارته ونذالته إلى المتوكل، وطلب المرجع من هذا ليس كطلب الإمام من المتوكل، فإلى أي مستوى وصل الأمر بهذا المحب الملازم له… وأنت تعرف حال غيره من حاله، فيريد أن يُذل الامام عليه السلام ـ حيث أن في السؤال مذلة كما جاء في الخبر الشريف :
((لو يعلم أحدكم ما في السؤال من مذلة لما طلب أحدكم سوطه من أخيه)).
ـ للمتوكل ولأجل مال حقير ورزق تافه يسير، مفوضاً عن أن يبذل ماله ودمه وعرضه وكل ما يملك ليذب عن ساحة قدس الإمام وحريمه، يأتي ليجعل الإمام وسيلة لحفظ ماله، فأي ظلامة هذه؟ وأي غربة كان يعيشها الإمام عليه السلام؟ ومن هنا نعرف سبب قعودهم حيث لم يجدوا رجالاً ينهضوا بهم كما قال إمامنا الباقر عليه السلام أو الصادق عليه السلام:
(( لو وجدت أنصاراً بعدد هذه الشياه لما وسعني القعود))
وكان معه سدير الصيرفي يقول: ذهبت فعددت تلك الشياه فوجدتها سبعة عشر شاة.
ثم لم يوكل الأمر إلى الإمام عليه السلام في حلّ مشكلته ولم يطلب منه أن يدعو الله تعالى أو يعطيه من عنده بل حدد له السبيل في حلّها وهو تكليم المتوكل، فكأنه هو الإمام، والإمام هو المأموم، وكأنه هو الآمر والإمام هو المأمور والممتثل، بل حتى أنه لم يستشيره في المعضلة وإنما هو الأعلم والأعرف بالسبل فجاء ليحدد ذلك للإمام عليه السلام.
والأغرب من ذلك أن حاجته لما قُضيت جاء إلى الإمام عليه السلام ليقوله له ولكنهم قالوا لي إنك تذهب إليه ولم تكتب برقعة له، أ هكذا يتعامل مع حجة الله، الذي علّمهم أوصافه في الزيارة الجامعة:
((طأطأ كل شريف لشرفكم ونجع كل متكبر لطاعتكم وخضع كل جبار لفضلكم وذلّ كل شيء لكم)).
فجاءت الزيارة الجامعة الكبيرة من قبل الإمام عليه السلام لمعالجة هذا النقص الكبير في تفكير الشيعة واعتقادهم حيث سلطت الضوء على بيان بعض ما يمكن لعقول الناس تحمله من مقامات المعصوم وليس تمام المقامات لأنه عليه السلام أوضح بعد ذلك:
((موالي لا أحصى ثناءكم ولا أبلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم)).
فان الراوي نسى أو غفل عن أهّم جانب من جوانب المعصوم عليه السلام وهو الارتباط الشديد الذي بينه وبين الله عّز وجّل وهو الذي يمثل جانب العزة والقوة فيه، كما أوضح الإمام عليه السلام بعد ذلك.
الثانيـة: مناقب الامام عليه السلام في هذه الحادثة سواء أخلاق أو معاجز والتي كانت سبباً في جلب الناس الى الحق.
فأما أعظم منقبة للإمام عليه السلام في هذه الحادثة، والتي تمثّل أكبر كرامة هي العبودية التي عاشوها لله عزّ وجّل والتوكل عليه والخوف منه والثقة به، فقد انقطعوا عن كل شيء ولم يلتجئوا إلى أحد، سواه إذ لا يرون لغيره وجود في قبال وجوده، فلا يخافوا من أحد إذ ليس له تأثير في قبال حكومته وسلطانه، فهم مشغولون به حباً له وخوفاً منه، فأوضح غناه عن الناس جميعاً أصدقاء وأعداءً، وبيّن حبّ الله لهم من خلال توكلهم عليه (إن الله يحب المتوكلين).
وبينّ حدود الحبّ بحيث ما من شيء يطلبونه منه ويسألونه إياه إلا ويعطيهم إياه، ثم جاءه بشاهد حيث يقول له بلسان حاله إنك إنسان ضعيف الاعتقاد جزعت من قطع المتوكل لحقوقك، وأردت أن تذلني للمتوكل فكيف أذللت لك المتوكل بطلب من الله تعالى أعطاك أضعاف حاجتك، فكيف بالذي لا يصل إلى اعتقاده حتى الأنبياء كما قال:
((وأسألك اللّهم بحق من خلقته من خلقك ولم تجعل في خلقك مثلهم أحدا أن تصلي عليهم…)). فالسلاح الذي انتصر به أهل البيت عليهم السلام، وبه خاف منهم الأعداء هو الخوف من الله والارتباط به ((ومن خاف الله أخاف الله منه كل شيء)).
وأما الجانب الأخلاقي في هذه الحادثة فتمثل:
(1) إن بابهم مفتوح للسائلين، فلم يطردوا قاصداً، ولم يحرموا سائلا أو يخيبوا اَملا، ولم يجعلوا بينهم وبين قاصديهم وسائل وحجب، فبيوتهم قد خيّم على أهلها التواضع، فيأتي من يطلب حاجة فلا يتكلف أكثر من أن يبوح بحاجته وقد لا يحتاج إلى ذلك في بعض الأحيان، وضغوط الظالمين عليهم، واشتغالهم بذكر الله، وكونهم معادن العلم، لم يمنعهم جميع ذلك من الاتصال بالناس وقضاء حوائجهم والسعي فيها.
(2) رأفتهم على الناس ورحمتهم بهم رغم ما يصدر منهم تجاههم من الأساءات، وقلة معرفة الناس بشأنهم لم تمنعهم من الإحسان إليهم، ولا يتعاملون من الناس كما يتعاملون معهم فهم يحسنون حتى لمن أساء إليهم وظلمهم، فلم تعرف رحمتهم حداً فهي تشمل وتعّم العارف بهم و الجاهل بمقامهم.
(3) لم يبخلوا على الناس في أمر من أمور الدنيا ولا في أمر من أمور الآخرة، فكما يعلمون الناس ما يقربهم لله ويرفع درجتهم عنده وفيه سعادة الآخرة كذلك يسعون لإسعاد الإنسان في الدنيا ويدفعون عنه أذاها بما يصلحه، وهذا من كرم نفوسهم، بل ما من قاصد قصدهم في أمر لدنياه إلا ورجع بأكثر من ذلك بان معه عطية تنفعه لآخرته إما دعاء يعلّمه له، أو قضية أخلاقية يغرسها في نفسه، أو كلمات حكمة يطرق بها مسامعه ويهزّ بها وجدانه ومشاعره وغير ذلك مما أطمع الناس في الوقوف على أبوابهم صلوات الله وسلامه عليهم.