الإمام الهادي (ع) في ذمّة الخلود .. استشهاد الإمام الهادي (ع)
397
شارك
ظلّ الإمام الهادي عليه السلام يعاني من ظلم الحكّام وجورهم حتّى دُسّ إليه السمّ كما حدث لآبائه الطّاهرين، وقد قال الإمام الحسن عليه السلام: ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم 1.
قال الطبرسي وابن الصباغ المالكي: في آخر ملكه (أي المعتز)، استشهد وليّ الله علي بن محمد عليهما السلام2 .
وقال ابن بابويه: واسمّه المعتمد3.
وقال المسعودي: وقيل إنّه مات مسموماً4، ويؤيد ذلك ما جاء في الدّعاء الوارد في شهر رمضان: وضاعف العذاب على من شرك في دمه5.
وقال سراج الدين الرفاعي في صحاح الأخبار: “وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العباسي…”.
وقال محمد عبد الغفار الحنفي في كتابه ائمة الهدى: فلما ذاعت شهرته عليه السلام استدعاه الملك المتوكل من المدينة المنوّرة حيث خاف على ملكه وزوال دولته.. وأخيراً دسّ إليه السمّ…”6.
والصحيح أن المعتز هو الذي دسّ إليه السمّ وقتله به.
ويظهر أنّه اعتلّ من أثر السمّ الذي سُقي كما جاء فى رواية محمّد بن الفرج عن أبي دعامة، حيث قال: أتيت عليّ بن محمد عليه السلام عائداً في علّته التي كانت وفاته منها، فلمّا هممت بالانصراف قال لي: يا أبا دعامة قد وجب عليّ حقّك، ألا اُحدّثك بحديث تسرّ به؟ قال: فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك ياابن رسول الله.
قال حدّثني أبي محمد بن عليّ، قال: حدثّني أبي عليّ بن موسى، قال: حدثّني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ، قال: حدّثني أبي علي ابن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عليّ اكتب: فقلت: وما أكتب؟ فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم الإيمان ما وقرته القلوب وصدّقته الأعمال، و الإسلام ما جرى على اللّسان، وحلّت به المناكحة.
قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله، والله ما أدري أيّهما أحسن؟ الحديث أم الإسناد! فقال: إنّها لصحيفة بخطّ علي بن أبي طالب عليه السلام وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله نتوارثها صاغراً عن كابر7.
قال المسعودي: واعتلّ أبو الحسن عليه السلام علّته التي مضى فيها فأحضر أبا محمّد ابنه عليه السلام فسلّم إليه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسّلاح8.
ونصّ عليه وأوصى إليه بمشهد من ثقات أصحابه ومضى(عليه السلام) وله أربعون سنة9.
تجهيزه وحضور الخاصّة والعامّة لتشييعه
ولما قضى نحبه تولّى تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ولده الإمام أبو محمّد الحسن العسكري عليه السلام وذلك لأنّ الإمام لا يتولّى أمره إلاّ الإمام.
وما انتشر خبر رحيله إلى الرفيق الأعلى حتّى هرعت الجماهير من العامّة والخاصّة إلى دار الإمام عليه السلام وخيّم على سامراء جو من الحزن والحداد.
قال المسعودي: وحدّثنا جماعة كل واحد منهم يحكي أنّه دخل الدار وقد اجتمع فيها جملة بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين (والقوّاد وغيرهم)، واجتمع خلق من الشّيعة، ولم يكن ظهر عندهم أمر أبي محمد عليه السلام ولا عرف خبرهم، إلا الثّقاه الذين نصّ أبو الحسن عليه السلام (عندهم) عليه، فحكوا أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم فصاح بخادم آخر يارياش خذ هذه الرقعة وامض بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان، وقل له: هذه رقعة الحسن بن علي. فاستشرف النّاس لذلك. ثم فتح من صدر الرّواق باب وخرج خادم أسود، ثم خرج بعده أبو محمد عليه السلام حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب وعليه مبطنة (ملحمة) بيضاء.
وكان عليه السلام وجهه وجه أبيه عليه السلام لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدّار أولاد المتوكّل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلاّ قام على رجله ووثب إليه أبو أحمد الموفّق، فقصده أبو محمّد عليه السلام فعانقه، ثم قال له: مرحباً بابن العمّ وجلس بين بابي الرّواق، والناس كلهم بين يديه، وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث، فلما خرج عليه السلام وجلس أمسك الناس، فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن عليه السلام، فقال أبو محمد: ما هاهنا من يكفينا مؤونة هذه الجاهلة، فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار.
ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمّد فنهض عليه السلام، واُخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى اُخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا، وقد كان أبو محمد عليه السلام صلّى عليه قبل أن يخرج إلى النّاس، وصلّى عليه لمّا اُخرج المعتمد.
قال المسعودي: وسمعت في جنازته جارية سوداء وهي تقول: ماذا لقينا في يوم الاثنين (قديماً وحديثاً)10. ودفن في داره بسرّ من رأى، وكان مقامه عليه السلام (بسرّ مَن رأى) إلى أن توفّي عشرين سنة وأشهراً11.
قال المسعودي: واشتدّ الحرّ على أبي محمد(عليه السلام) وضغطه النّاس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فسار في طريقه إلى دكّان لبقّال رآه مرشوشاً فسلّم واستأذنه في الجلوس فأذن له، وجلس ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حسن الوجه نظيف الكسوة على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض قد نزل عنه، فسأله أن يركبه فركب حتّى أتى الدار ونزل، وخرج في تلك العشيّة إلى الناس ماكان يخرج عن أبي الحسن عليه السلام حتّى لم يفقدوا منه إلاّ الشّخص12.
لماذا دفن الإمام عليه السلام في بيته؟
لقد جرت العادة عند العامة والخاصة أنّه إذا توفي أحدٌ أن يدفن في المكان المعدّ للموتى المسمّى ـ بالمقبرة أو الجبّانة ـ كما هو المتعارف في هذا العصر أيضاً، ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة لأي شخص مهما كان له من المكانة والمنزلة، فقد كان ولا يزال في المدينة المحل المُعدّ للدّفن البقيع حيث أنّه مثوى لأئمة أهل البيت عليهم السلام، وزوجات النبي صلى الله عليه وآله، وأولاده، وكبار الصحابة والتابعين وغيرهم، كما وأن مدفن الإمامين الجوادين عليهما السلام في مقابر قريش.
وأما السبب في دفن الإمام الهادي عليه السلام داخل بيته، يعود إلى حصول ردود الفعل من الشيعة يوم استشهاده (عليه السلام) وذلك عندما اجتمعوا لتشييعه مظهرين البكاء والسخط على السلطة والذي كان بمثابة توجيه أصابع الاتهام إلى الخليفة لضلوعه في قتله.
وللشارع الذي اُخرجت جنازة الإمام عليه السلام إليه الأثر الكبير، حيث كان محلاً لتواجد معظم الموالين لآل البيت عليهم السلام إذ ورد في وصفه: الشارع الثّاني يعرف بأبي أحمد.. أول هذا الشارع من المشرق دار بختيشوع المتطبّب التي بناها المتوكل، ثم قطائع قواد خراسان وأسبابهم من العرب، ومن أهل قم، وإصبهان، وقزوين، والجبل، وآذربيجان، يمنة في الجنوب ممّا يلي القبلة13.
ويشير إلى تواجد أتباع مدرسة أهل البيت في سامراء المظفري في تاريخه إذ يقول: فكم كان بين الجند، والقواد، والاُمراء، والكتّاب، من يحمل بين حنايا ضلوعه ولاء أهل البيت عليهم السلام 14.
كلّ هذا أدّى إلى اتّخاذ السلطة القرار بدفنه (عليه السلام) في بيته، وإن لم تظهر تلك الصورة في التاريخ بوضوح، إلا أنه يفهم ممّا تطرق إليه اليعقوبي في تاريخه عند ذكره حوادث عام (254 هـ ) ووفاة الإمام الهادي (عليه السلام) حيث يقول: وبعث المعتز بأخيه أحمد بن المتوكّل فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد، فلمّا كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجّتهم، فردّ النعش إلى داره، فدفن فيها15.
وتمكّنوا بذلك من إخماد لهيب الانتفاضة والقضاء على نقمة الجماهير الغاضبة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على وجود التحرّك الشيعي رغم الظروف القاسية التي كان يعاني منها أئمة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من سلطة الخلافة الغاشمة.
انتشار خبر استشهاد الإمام الهادي عليه السلام في البلاد روى الحسين بن حمدان الخصيبي في كتاب الهداية في الفضائل: عن أحمد ابن داود القميّ، ومحمّد بن عبد الله الطلحي قالا: حملنا مالاً اجتمع من خُمس ونذور من بين ورق وجوهر وحُليّ وثياب من بلاد قم ومايليها، وخرجنا نريد سيّدنا أبا الحسن علي بن محمد عليهما السلام بها، فلما صرنا إلى دسكرة الملك16 تلقّانا رجل راكب على جمل، ونحن في قافلة عظيمة، فقصَدَنا ونحن سائرون في جملة الناس وهو يعارضنا بجمله حتى وصل الينا، فقال: يا أحمد ابن داود ومحمّد بن عبدالله الطلحي معي رسالة إليكم، فأقبلنا إليه فقلنا له: ممّن يرحمك الله فقال: من سيّدكما أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما السلام يقول لكما:أنا راحل إلى الله في هذه الليلة، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر ابني أبي محمد الحسن، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وأخفينا ذلك، ولم نظهره، ونزلنا بدسكرة الملك واستأجرنا منزلاً وأحرزنا ما حملناه فيه، وأصبحنا والخبر شائع في الدّسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن عليه السلام، فقلنا: لا إله إلاّ الله أترى الرّسول الذي جاء برسالته أشاع الخبر في الناس؟ فلمّا أن تعإلى النّهار رأينا قوماً من الشّيعة على أشدّ قلق ممّا نحن فيه، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره17.
تاريخ استشهاده عليه السلام
اختلف المؤرّخون في يوم استشهاده عليه السلام، كما اختلفوا في مَن دسّ إليه السمّ.
والتحقيق أنّه عليه السلام استشهد في أواخر ملك المعتزّ كما نصّ عليه غير واحد من المؤرّخين، وبما أنّ أمره كان يهمّ حاكم الوقت، وهو الذي يتولّى تدبير هذه الاُمور كما هو الشأن، فإنّ المعتزّ أمر بذلك، ويمكن أنّه استعان بالمعتمد في دسّ السمّ إليه.
وأمّا يوم شهادته عليه السلام فقد قال ابن طلحة في مطالب السؤول: أنه مات في جمادى الآخرة لخمس ليال بقين منه ووافقه ابن خشّاب18، وقال الكليني في الكافي: مضى صلوات الله عليه لأربع بقين من جمادى الآخرة19، ووافقه المسعودي20.
وأما المفيد في الإرشاد، والإربلي في كشف الغمّة، والطبرسي في إعلام الورى، فقالوا: قبض عليه السلام في رجب، ولم يحدّدوا يومه21.
وقال أبو جعفر الطوسي في مصابيحه، وابن عيّاش، وصاحب الدّروس: إنّه قبض بسرّ من رأى يوم الاثنين ثالث رجب22، ووافقهم الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين حيث قال: توفّي عليه السلام بـ (سرّ من رأى) لثلاث ليال خلون نصف النّهار من رجب23، وللزرندي قول: بأنّه توفي يوم الاثنين الثالث عشر من رجب24.
ولكن الكلّ متّفقون على أنّه استشهد في سنة أربع وخمسين ومائتين للهجرة25.
وعن الحضيني أنه قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن بلال وجماعة من إخواننا أنّه لما كان اليوم الرابع من وفاة سيّدنا أبي الحسن عليه السلام أمر المعتزّ بأن ينفذ إلى أبي محمد عليه السلام من يستركبه إليه ليعزّيه ويسأله، فركب أبو محمد عليه السلام إلى المعتزّ فلمّا دخل عليه رحّب به وقرّبه وعزّاه وأمر أن يُثبت في مرتبة أبيه عليهما السلام. وأثبت له رزقه وأن يدفعه فكان الذي يراه لا يشكّ أنه في صورة أبيه عليهما السلام.
واجتمعت الشيعة كلّها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه إلاّ أصحاب فارس بن حاتم بن ماهويه فإنّهم قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن أبي الحسن صاحب العسكر26.
إن ما صدر من المعتزّ هذا كان من باب التمويه والخداع لكي يغطّي على جريمته التي ارتكبها بحق أبيه، وهذا كان ديدن من تقدّمه من الطواغيت تجاه أئمة أهل البيت عليهم السلام.