عليٌّ (عليه السلام) الزاهد والجواد الكريم

570

كان أمير المؤمنين  (عليه السلام)  سيّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدّ الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً قال (عليه السلام): لقد رقعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من رُقعها – أو: من راقعها – .    قال الإمام الباقر (عليه السلام) في زهد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إنّه ولّي – أيام خلافته – خمس سنين، وما وضع آجرة، ولا لبنة على لبنة، ولا قطع قطيعاً، ولا ورّث بيضاء ولا صفراء.

   وترصّد غذاءه عمرو بن حريث، فأتت فضَّة بجراب مختوم، فأخرج منه خبزاً متغيّراً خشناً، فقال عمرو: يا فضّة، لو نخلت هذا الدقيق وطيبتيه.

   قالت: كنت أفعل فنهاني، وكنت أصنع في جرابه طعاماً طيباً فختم جرابه.

   ثمَّ إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فتَّهُ في قصعة، وصبَّ عليه الماء، ثمَّ ذرَّ عليه الملح، وحسر عن ذراعه، فلمّا فرغ (عليه السلام) قال: يا عمرو، لقد حانت هذه – ومدّ يده إلى محاسنه – وخسرت هذه واشار الى بطنه أن أُدخلها النار من أجل الطعام، وهذا يجزيني.

   ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح، فقال: إنّي لا أرى لك يا أمير المؤمنين لتظل نهارك طاوياً مجاهداً، وبالليل ساهراً مكابداً، ثمَّ يكون هذا فطورك! فقال (عليه السلام):

   علل النفس بالقنوع وإلاّ * * * طلبت منك فوق ما يكفيها

   وقال الإمام الباقر (عليه السلام): إنَّ عليّاً أتى البَزازين فقال لرجل: بعني ثوبين، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، عندي حاجتك: فلمّا عرفه مضى عنه، فوقف على غلام، فأخذ منه ثوبين أحدهما بثلاثة دراهم، والآخر بدرهمين، فقال: يا قنبر، خذ الذي بثلاث دراهم.

   فقال: أنت أولى به، تصعد المنبر، وتخطب الناس.

   فقال: أنت شاب، ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربّي أن أتفضّل عليك ; سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون.

   فلمّا لبس عليٌّ القميص مدّ كُم القميص، فأمر بقطعه واتخاذه قلانس للفقراء، فقال الغلام: هلم أكفه. قال: دعه كما هو، فإنّ الأمر أسرع من ذلك.

   فجاء أبو الغلام – أي صاحب الدكان – وقال: إنَّ ابني لم يعرفك، وهذان درهمان ربحهما.

   فقال (عليه السلام): ما كنت لأفعل، قد ماكست وماكسني، واتفقنا على رضا.

   وروى ابن عبد البر المالكي في الاستيعاب بسنده وغيره أنَّ معاوية قال لضرار بن ضمرة: صف لي علياً.

   قال: اعفني.

   قال: لتصفنَّه.

   قال: أمّا إذا كان لابد من وصفه فإنّه كان (والله) بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.

   كان غزير الدمعة طويل الفكرة يقلّب كفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

   وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، يبكي بكاء الحزين، وهو يقول:

   يا دنيا، غرّي غيري، أبي تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ هيهات هيهات، قد بنتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق.

   فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك ; فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

   قال: حزن من ذُبِحَ وُلدها بحجرها، فهي لا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها.

   وفي المناقب: ثمَّ قام وخرج باكياً فقال معاوية: أما إنّكم لو فقدتموني لما كان فيكم مَن يثني عليَّ هذا الثناء. فقال بعض مَن حضر: الصاحب على قدر صاحبه.

   وأما كتابه إلى عثمان ابن حنيف الأنصاري عامله على البصرة اذكر منها محل الحاجة.

   ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمِه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسَداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي طمرا.

   هذا غيض مِن فيض زهده وخلاصة ما ذكره رواة أعلام القوم من حفّاظ ومحدثين في كتبهم ومسانيدهم. راجع كتاب إحقاق الحق ج 4 ص 425 و ج 8 ص 272 – 274 و 598 – 600 وج 15 ص 638 إلى 644. فقد أحصى فيها أحاديث كثيرة عن مصادر معتبرة وغزيرة، وفي كتاب علي من المهد إلى اللحد للسيد القزويني ص 240.

شذرات من زهده  (عليه السلام)

(و مِنْ كِتَاب لَهُ (عليه السلام) إلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْف الانْصَارِي وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةِ قَوْم مِنْ أَهْلِهَا فَمَضَى إلَيْهَا).

أَمَّا بَعْدُ يَا بْنَ حُنَيْف فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدَبَة فَأَسْرَعْتَ إلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الاَلْوَانُ وَتُنْقَلُ إلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إلَى طَعَامِ قَوْم عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ. وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إلَى ما تَقْضَمُهُ مِنْ هذَا الْمُقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.

أَلاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَأْمُوم إمَاماً يَقْتَدي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ علَى ذلِكَ وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد، وَعِفَّة وَسَدَاد. فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبَيَّ طِمْراً.

بَلى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْم وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ. وَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ. وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَأَوْسَعَتْ يَدَآ حَافِرِهَا لاضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وَإنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الاَكْبَر، وتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ. وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إلَى مُصَفَّى هذا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أن يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقَودَني جَشَعِي إلَى تَخَيُّرِ الاَطْعَمَةِ. وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشَّبْعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادُ حَرَّى؟ أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة * * * وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أُشَارِكَهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ. فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ المُرْسَلَةِ شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِها وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا. أَوْ أُتْرَكَ سَدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلالَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ…. إلى أن قال:

إِلَيْكِ عَنِّي يَادُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ، وَأفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ، وَاجْتَنَبْتُ الذِّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ. أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ أَيْنَ الاُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِك. هَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَمَضَامِينُ اللُّحُودِ. اعْزُبِي عَنِّي. فَوَ اللهِ لاَ أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّيني، وَلاَ أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي. وَايْمَ اللهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ لاَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهَشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إَذَآ قَدَرَتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، وَلاَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاء نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعُهَا. أَتَمْتَلىءُ السَّائِمَةُ مِنْ رَعْيِهَا فَتَبْرُكَ، وَتَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ وَيَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إذاً عَيْنُهُ إذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ.

طُوبَى لِنَفْس أَدَّتْ إلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَعَرَكَتْ بَجَنْبِهَا بُؤْسَهَا. وَهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا وَتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا فِي مَعْشَر أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفَ مَعَادِهِمْ، وَتَجافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ. وَهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شَفَاهُهُمْ، وتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ (أُوْلئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

فَاتَّقِ اللهَ يَا ابْنَ حُنَيْف وَلْتَكْفِكَ أَقْرَاصُكَ لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلاصُكَ. إلى آخر كتابه.

أمّا زهده فكان يضرب به المثل ; وكان ممّا اشتهر به (عليه السلام)، من ورعه، وزهده، وعبادته التي قد أطبق عليه الخافقان، من علماء الأمصار ومحققيهم، جيلاً بعد جيل، وذكره في سيرهم وتواريخهم، وإليك نموذجاً منها:

1 – هو الذي طلّق الدنيا ثلاثاً طلاق مباين لا رجعة له فيها.

2 – وهو الذي عندما كان يفرق بيت المال على المستحقين ويقول: يا صفراء غرّي غيري، يا بيضاء غري غيري، ثم يتمثل بهذا البيت:

هذا جناي وخياره فيه * * * إذ كل جان يده إلى فيه

وقد يأمر بكنس بيت المال ويُصلّي فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة، انظر إلى عمله هذا في المال.

أمّا في ملبسه فقد خرج (عليه السلام) يوماً وعليه إزار مرقوع فعُوتِبَ عليه، فقال: يخشع القلب بلبسه ويقتدي بي المؤمن إذا رآه عليّ.

قال هارون بن عنترة قال: حدثني أبي قائلاً: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالخورنق وعليه سمل قطيفة، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعم، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال: والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً وإن هذه لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها. هذا ما كان من لباسه.

أمّا طعامه، فإليك هذا النموذج الرائع، كان (عليه السلام) قد ولّى على عكبرة رجلاً من ثقيف قال: قال لي عليٌّ (عليه السلام): إذا صليت الظهر غداً فعد إليّ، فعدت إليه في الوقت المُعيّن، فلم أجد عنده حاجباً يحسبني دونه، فوجدته جالساً وعنده قدح وكوز ماء، فدعا بوعاء مشدود مختوم، فقلت في نفسي: قد أمنني حتى يخرج إليّ جوهراً فكسر الختم وحلّه، فإذا فيه سويق فأخرج منه قبضة في القدح وصب عليه ماءً فشرب وسقاني، فلم أصبر فقلت له: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا في العراق وطعامه كما ترى في كثرة؟ فقال: أما والله ما أختم عليه بخلاً، ولكني أبتاع قَدَر ما يكفيني، فأخاف أن ينقص فيوضع فيه غيره، وأنا أكره أن أدخل بطني إلاّ طيباً فلذلك أحترز عليه كما ترى، فإياك وتناول ما لا تعلم حلّه».

وعن سويد بن غفلة قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) القصر فوجدته جالساً وبين يديه صحيفةً فيها لبن (حازر) أجد ريحه من شدة حموضته وفي يده رغيف أجد قشر الشعير في وجهه، وهو يكسّر بيده أحياناً فإذا غلبه كسره بركبته وطرحه فيه، فقال: «ادن وأصب من طعامنا هذا، فقلت: إنّي صائم، فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من منعه الصوم من طعام يشتهيه كان حقاً على الله أن يطعمه من طعام الجنة، ويسقيه من شرابها، قال: فقلت لجاريته وهي قائمة بالقرب منه: ويحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟ فقالت: لقد تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعاماً. قال (عليه السلام): ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعاماً ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عزّ وجلّ، (أي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)). هذا ما كان من طعامه (عليه السلام)».

جود عليٍّ (عليه السلام) وكرمه

وكان (عليه السلام) غاية في الجود، وقد وردت آيات بينات كثيرة تشير إلى سخائه وإنفاقه وإيثاره وكرمه منها في سورة الإنسان (هل أتى).

كما وردت أحاديث مروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام)، والصحابة، أذكر هنا نزراً يسيراً منها:

1 – روى ابن شاذان القمّي في «المائة منقبة» حديث 12، بإسناده إلى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: كنت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال النبيّ: يا أبا هريرة، أتدري مَن هذا؟

قلت: نعم يا رسول الله، هذا علي بن أبي طالب.

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا البحر الزاخر، هذا الشمس الطالعة، أسخى من الفرات كفّاً، وأوسع من الدنيا قلباً، فمَن أبغضه فعليه لعنة الله.

2 – قال الحافظ أبو الفداء ابن كثير الدمشقي المتوفّى سنة 774 هـ، في «البداية والنهاية» ج 8/ 10: روى الحافظ ابن عساكر من طريق أبي زكريا الرملي: ثنا يزيد إبن هارون، عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن الاصبغ بن نباتة، عن علي أنّه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ لي إليك حاجة، فرفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإنْ أنتَ قضيتها حمدتُ الله وشكرتُك، وإنْ أنتَ لم تقضها حمدتُ الله وعذرتك.

فقال عليٌّ: اكتب حاجتك على الأرض، فإنّي أكره أن أرى ذلَّ السؤال في وجهك.

فكتب: إنّي محتاج.

فقال عليٌّ: عليَّ بحلة، فأتي بها، فأخذها الرجل فلبسها، ثمَّ أنشأ يقول:

كسوتَني حلةً تبلى محاسنُها * * * فسوفَ أكسوكَ من حسنِ الثنا حللا

إنْ نلتَ حسنَ ثنائي نلتَ مكرمةً * * * ولستُ أبغي بما قدْ قلتهُ بدلا

إنَ الثناءَ ليحيي ذكرَ صاحبهِ * * * كالغيثِ يحيي نداهُ السهلَ والجبلا

لا تزهدِ الدهرَ في خير تواقعُهُ * * * فكلُّ عبد سيجزى بالذي عملا

فقال علي: عليَّ بالدنانير. فأُتي بمائة دينار، فدفعها إليه.

قال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، حلّة ومائة دينار!

قال: نعم! سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أنزلوا الناس منازلهم» وهذه منزلة هذا الرجل عندي.

ورواه الشيخ الصدوق في «الأمالي» ص 335 ح 10 طـ الأعلمي – بيروت، وزاد فيه: ثمَّ قال عليّ (عليه السلام): إنّي لا عجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الأحرار بمعروفهم.

ورواه العلاّمة أبو الحسن القيرواني في «العمدة» ص 16.

3 – روى الشيخ الكليني في «الكافي» ج 4/ 34 ح4 بإسناده إلى الحارث الهمدانيّ، قال: سامرتُ أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: يا أمير المؤمنين، عرضت لي حاجة.

قال: فرأيتني لها أهلاً.

قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال: جزاك الله عنّي خيراً.

ثمّ قام إلى السراج فأغشاها وجلس، ثمّ قال: إنّما أغشيت السراج لئلاّ أرى ذلّ حاجتك في وجهك، فتكلّم، فإنّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

«الحوائج أمانة من الله في صدور العباد، فمَن كتمها كتب له عبادة، ومَن أفشاها كان حقّاً على مَن سمعها أن يعينه.

4 – عن أبي الطفيل، قال: رأيت عليّاً (عليه السلام) يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتّى قال بعض أصحابه: لوددت أنّي كنت يتيماً.

5 – عن محمّد بن الصمّة، عن أبي، عن عمّه قال: رأيت في المدينة رجلاً على ظهره قربة، وفي يده صحفة، يقول: اللّهمّ وليّ المؤمنين، وإله المؤمنين، وجار المؤمنين، إقبل قرباتي اللّيلة، فما أمسيتُ أملك سوى مافي صفحتي وغير ما يواريني، وإنّك تعلم أنّي منعته نفسي مع شدَّة سغبي أطلب القربة إليك غنماً، اللّهمَّ فلا تخلق وجهي ولا تردَّ دعوتي.

فأتيته حتّى عرفته، فإذا هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فأتى رجلاً فأطعمه.

رواهما ابن شهر آشوب في «المناقب» ج 2/ 75 و 76.

6 – وفيه في ص 80 قال: وفيه يضرب المثل في الصّدقات، يقال في الدّعاء: تقبّل الله منه كما تقبّل توبة آدم، وقربان إبراهيم، وحجّ المصطفى، وصدقة أمير المؤمنين.

وكان يأخذ من الغنائم لنفسه وفرسه، ومن سهم ذي القربى، وينفق جميع ذلك في سبيل الله.

7 – وفيه في ص 122 عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّه (عليه السلام)أعتق ألف نسمة من كدِّ يده، جماعة لا يحصون كثرةً. ووقف مالاً بخيبر وبوادي القرى.

ووقف مال أبي نيزر، والبغيبغة، وأرباحاً، وأرينة ورعْداً، ورزيناً، ورباحاً على المؤمنين، وأمر بذلك أكثر ولد فاطمة من ذوي الأمانة والصّلاح.

وأخرج مائة عين بينبع وجعلها للحجيج، وهو باق إلى يومنا هذا وحفر آباراً في طريق مكّة والكوفة.

وبنى مسجد الفتح في المدينة، وعند مقابل قبر حمزة، وفي الميقات، وفي الكوفة، وجامع البصرة، وفي عبادان وغير ذلك، وعمَّر طريق مكّة.

وقد ورد ذكر صدقات أخرى لامير المؤمنين (عليه السلام)، نقلها العلامة السيد المرعشي النجفي في كتابه «إحقاق الحق» ج 8/ 583 – 592 عن مصادر معتبرة كثيرة، أذكرها هنا على نحو الاجمال.

ـ عين البيحر.

ـ عين نولا، وهي التي يقال أنَّ عليّاً (عليه السلام) عمل فيها بيده، وفيها مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متوجه إلى ذي العشيرة.

ـ عين جبير.

ـ عين خيف الاراك.

ـ عين خيف ليلى.

ـ عين خيف بسطاس.

ـ بئر الملك، وهي من صدقاته بالمدينة.

ـ عيون بالمدينة وينبع وسويعة.

ـ وادي ترعة بناحية فدك بين لابتي حرّة.

ـ الفقران بالعالية.

ـ كلُّ مال له في ينبع.

ـ كلُّ مال له في وادي القرى.

ـ كلُّ مال له في الادنية.

ـ كلُّ مال له في رعيف.

8 – روى الحافظ أحمد بن حنبل في «المسند» ج 1/ 159 طـ الميمنية – مصر، بإسناده إلى محمّد بن كعب القرظي أنَّ عليّاً (عليه السلام) قال: لقد رأيتني مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وإنّي لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإنَّ صدقتي اليوم لأربعون ألفاً.

رواه:

1 – الزمخشري في «ربيع الأبرار» ص 209 مخطوط.

2 – ابن الأثير الجزري في «أسد الغابة» ج 4/ 23 طـ مصر.

3 – محب الدين الطبري في «الرياض النضرة» ج2/ 227 طـ مصر.

4 – الذهبي في «تاريخ الإسلام» ج 2/ 199 طـ مصر.

5 – الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» ج9/ 123 طـ القاهرة، وغيرهم.

قال ابن الأثير بعد نقله هذا الحديث: لم يرد بقوله: «أربعين ألفاً» زكاة ماله، وإنّما أراد الوقوف التي جعلها صدقة كان الحاصل من دخولها صدقة هذا العدد، فإنَّ أمير المؤمنين عليّاً رضي الله عنه لم يدّخر مالاً.

9 – روى أبو حامد الغزالي في «مكاشفة القلوب» ص 117 قال: وضع عليٌّ كرم الله وجهه درهماً على كفّه ثمَّ قال: أما إنّك مالم تخرج عنّي لا تنفعني.

10 – روى العلاّمة الزمخشري في «ربيع الأبرار» ص 210 عن محمّد بن الحنفية قال: كان أبي يدعو قنبراً بالليل فيحمّله دقيقاً وتمراً، فيمضي به إلى أبيات قد عرفها، ولا يطلع عليها أحداً، فقلت له: يا أبه، ما يمنعك أن تدفع إليه نهاراً؟

قال: يا بني، إنَّ صدقة السر تطفىء غضب الرب.

11 – قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» ج 1/ 21 و 22 ط عيسى الحلبي – القاهرة:

وأمّا السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة ; وكان يصوم ويَطْوي ويؤثر بزاده ; وفيه أنزل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتيماً وَأَسِيراً. إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً).

وروى المفسّرون أنّه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم ; فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية ; فأنزل فيه: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً).

وقال الشعبيّ وقد ذكر عليٍّ (عليه السلام): كان أسخَى الناس ; كان على الخُلُق الذي يحبّه الله: السخاء والجود، ما قال: «لا» لسائل قطّ.

وقال عدوّه ومُبْغضِه الذي يجتهد في وَصْمِه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لِمَحْفَن بن أبي محْفَن الضبيّ لمّا قال له: جئتك مِنْ عند أبخل الناس، فقال: ويحك! كيف تقول إنّه أبخل الناس، لو مَلَك بيتاً من تِبْر وبيتاً من تِبْن، لانفذ تِبْره قبل تِبْنِه.

وهو الذي كان يكنُس بيوت الأموال ويصلّي فيها.

وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غرّي غيري.

وهو الذي لم يخلِّفْ ميراثاً، وكانت الدنيا كلّها بيده، إلاّ ما كان من الشام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*