الحكمة – متابعة: لم يكن غراهام بيل، مخترع الهاتف، من هواة الانشغال بمهام متعددة في آن واحد، وكان يرى أن الإبداع الحقيقي لا يتأتى إلا بالتركيز الشديد على المهمة التي بين أيدينا وعدم الالتفات إلى ما عداها، لأن مشتتات الانتباه، على اختلاف أنواعها، ستحول بينك وبين تحقيق هدفك.
وذكر غراهام بيل ذات مرة لأوريسون سويت ماردين، مؤلف كتاب “كيف صعدوا سلم النجاح” الذي نشر في مطلع القرن العشرين”ركز كل تفكيرك في العمل الذي تعكف على تنفيذه، فإن أشعة الشمس لا تحرق إلا إذا تجمعت في بؤرة واحدة”.
وحتى وقت قريب كانت الدراسات التي أجريت في مجال علم النفس تتفق مع رأي غراهام بيل، إذ أوضحت أننا نكون أكثر كفاءة في تنفيذ جميع المهام، ولا سيما التي تتطلب دقة وعناية، طالما استطعنا السيطرة على انتباهنا والتركيز على المهمة التي نحن بصدد تنفيذها.
إلا أن دراستين جديدتين لافتتين وضعتا رأي غراهام بيل على المحك، على الأقل فيما يتعلق بالمهام الإبداعية المقربة إلى قلبه. إذ خلصت الدراستان إلى أن التركيز الشديد على مهمة بعينها قد يؤثر سلبا على طاقتك الإبداعية، وربما يعزز الالتفات إلى مثيرات أخرى من فرصك في ابتكار حلول جديدة لمشاكلك.
وتشير هاتان الدراستان إلى أن بعض الأفكار تعلق في ذهننا وتشغلنا عما سواها، وهذا يعني أن الأفكار الأولى التي تطرأ على بالنا تستحوذ على عقولنا لفترة طويلة وقد تمنعنا من ابتكار حلول خلاقة.
وهذه الظاهرة تعرف باسم “ثبات الانتباه” التي تؤثر على العمليات المعرفية. ويرى الكثير من علماء النفس الآن أن التركيز على موضوع واحد هو العائق الرئيسي أمام الإبداع.
وقد أجرى جاكسون لو وفريق بكلية إدارة الأعمال بجامعة كولومبيا دراسة للكشف عن مزايا القيام بمهام متعددة في آن واحد، واستعانوا فيها باختبار معملي شائع لقياس القدرة على الإبداع. وطُلب من المشاركين التفكير في أكبر عدد ممكن من الاستخدامات لبعض الأشياء المعروفة، كالوعاء العميق، أو السلطانية، في وقت محدد. واقترح أحدهم، على سبيل المثال، أن يستخدمها كغطاء للرأس للوقاية من المطر.
ثم طُلب من المشاركين في المرة الثانية التفكير في استخدامات بديلة للطوب وأعواد تنظيف الأسنان، ولكن هذه المرة كانوا يفكرون في مجموعات، إذ تُركز إحدى المجموعات انتباهها على أعواد تنظيف الأسنان بعد الانتهاء من إيجاد استخدامات للطوب، بينما تفكر المجموعة الأخرى في أغراض الإثنين بالتناوب.
وخلص الفريق إلى نتائج ربما تتعارض مع رأي بيل عن الاستغراق في التفكير في مهمة واحدة، وكتبوا في نهاية البحث: “في الواقع، لولا التوقف من آن لأخر لتحويل الانتباه من مهمة إلى أخرى، لكانوا أحرزوا تقدما محدودا”.
وبقياس عدد الأفكار التي تفتقت عنها أذهان المشاركين في المجموعتين ومدى ابتكاريتها، بحسب تقدير حكام مستقلين، كان أداء مجموعة المشاركين الذين نفذوا مهاما متعددة في آن واحد أفضل من أداء المجموعة الأخرى.
ولتأكيد النتائج، أجرى الفريق اختبارا آخر لقياس قدرة المشاركين على إيجاد روابط بين مفاهيم لا تمت لبعضها بصلة بالاستعانة بطريقة التفكير التقاربي، وهذا يعني أن الفريق كان يبحث عن إجابة واحدة تسطع في ذهن المشاركين في جزء من الثانية.
وقسّم الفريق المشاركين إلى مجموعين، بحيث تدرس إحداهما المشكلتين معا، بتحويل الانتباه بالتناوب بين الاثنين، بينما تبحث الأخرى عن حلول لكل مشكلة على حدة.
وكانت النتائج مدهشة، إذ استطاع 51 في المئة من المشاركين في الفريق الذي جمع بين مهام متعددة في آن واحد أن يتوصلوا إلى حلول للمشكلتين، في حين لم يتوصل إلا 14 في المئة من الفريق الأخر إلى حلول لهما، أي كانوا أكثر منهم بثلاثة أضعاف.
ولعلنا قد كُلفنا جميعا في الاجتماعات بممارسة التفكير الجماعي أو العصف الذهني للخروج بحلول مبتكرة، ولكن هذه الجلسات لا تثمر في الغالب الكثير من الحلول الخلاقة.
وقد يعزى ذلك إلى أن فكرة شخص واحد كفيلة بتشتيت ذهن المجموعة بأكلمها وقد تشغلهم عن أفكار سائر أفراد المجموعة، ناهيك عن أن كل فرد ينصب تركيزه على نفس الفكرة ويكررها طيلة الاجتماع. والنتيجة أن الأفكار التي تخرج بها المجموعة في جلسات التفكير الجماعي تكون في الغالب أقل من الأفكار التي يتفتق عنها ذهن الفرد عندما يفكر بمفرده.
يقول أوت نا سيو، بجامعة التربية بهونغ كونغ: “انتهت دراسات عديدة إلى أن جلسات التفكير الجماعي لا تحقق الفائدة المرجوة منها في جميع الحالات. وربما لو أدخلنا عليها تعديلا طفيفا، لأصبحت أكثر فعالية وكفاءة”.
وأجرى سيو تجربتين مع زملائه من جامعة كارنيغي ميلون، وانتهى إلى أن إجبار الطلاب على تأدية مهام متعددة في آن واحد، بتحويل الانتباه بين مشكلتين، قد يساعدهم في التغلب على مشكلة الانشغال التام بأفكار بعينها على حساب غيرها، وبذلك سيتمكنوا من التوصل إلى حلول خلاقة للمشاكل التي يناقشونها.
ويبدو أن مزايا تحويل الانتباه بين مهام متعددة تزداد، كلما طالت مدة جلسة العصف الذهني التي يطرح من خلالها الطلاب حلولا إبداعية.
ويقول سيو: “في جلسات التفكير الجماعي، تستمع عادة إلى أفكار نمطية، وقد تركز عليها وتنشغل بها عما عداها. ولكن تحويل الانتباه من مشكلة لأخرى قد يساعدك في نسيان هذه الأفكار النمطية، فعندما تعود إلى المشكلة الأولى، قد تتمكن من الخروج بأفكار مبتكرة”.
وليس من الصعب الاستفادة من هذه النتائج في حياتك اليومية. فبدلا من أن تخصص وقتا محددا لتمعن التفكير في عنوان مبتكر لمشروعك أو اسم لمنتج جديد، على سبيل المثال، ربما يكون من الأفضل أن تضع دفتر مذكرات بجوار جهاز الكمبيوتر وتدون فيه بين الحين والأخر فكرة جديدة أو حلا جديدا لمشكلة ما، أثناء تأديتك لمهمة أخرى.
أما إذا كنت تريد أن تصبح روائيا ناجحا، فربما يجدر بك أن تنتقي فكرتين جديدتين وتبني عليهما روايتين في آن واحد، بدلا من أن تنكب على كتابة رواية واحدة فقط.
والأبسط من ذلك، قد تستغل نتائج هذا البحث لزيادة فترات الراحة أثناء العمل. ويقول لو: “عندما تعكف على تنفيذ مهام تتطلب تفكيرا إبداعيا، فإن فترات الراحة بين الحين والأخر ستساعدك على تناولها من منظور مختلف”.
لكن ما يثير الاستغراب أن أكثر الناس الذين سألهم السيد لو عن أفضل الطرق التي توقد لديهم شعلة الإبداع، أيدوا رأي بيل في أن التركيز هو روح الابتكار، وقالوا إنهم يحاولون عادة تركيز انتباههم بشدة على المهمة التي بين أيديهم إذا كانت تحتاج تفكيرا إبداعيا.
لكن بالنظر إلى قدرة الإنسان الفطرية على تأدية مهام متعددة في نفس الوقت، فلا مانع أن يشرد ذهننا لبعض الوقت أثناء التفكير في مشاكل عويصة.