جون بن حوي.. العبد الحر

467

الشمس تعرف وجهي أكثر من المرايا..,
نسبي أديم العشق,
الريح ترفع خصلات رمال الربذة, فتمطرني بصوت العشق من سيدي.
سيدي (أبو ذر) الذي استوعب قلبه العشق فأفاضه بقلبي.
كانت العصافير تظللّه بأجنحتها, والنبع يغسل جروح قدميه الحافيتين, والريح تحمل ندى الصباح لتتلألأ على شفتيه وهو يلقنني هذا العشق.
كانت عيناه تسرّان نوراً حتى أسرى.
كل شئ موجود في هذا العشق, قال لي ذلك, فتملّكته وتملّكني
إنه الصوت الذي انطلق مدافعاً عن عشقه في كربلاء:
كيف يرى الفجّارُ ضربَ الأسودِ *** بالمشرفيِّ القاطعِ المهندِ
أحمي الخيارَ من بني محمدِ *** أذبُّ عنهم باللسانِ واليدِ
أرجو بذاك الفوزَ يوم الموردِ *** من الإلهِ الواحدِ الموحَّدِ
إنه صوت جون بن حوي مولى أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليهما) العبد الأسود, النفس الحرة, الضمير الحي, العرق النابض بحب الحسين الذي تيقّن معنى الحرية الحقيقي ورآه متجسداً في قول سيده الحسين: (إني لا أرى الموت إلّا سعادة , والحياة مع الظالمين إلّا برماً).
أجل لقد استوعب جون هذا المعنى العظيم , والهدف السامي, فأطلق صوته بهذه الأبيات أمام من أحنوا رقابهم وقبعوا في زاوية الذل والخنوع والانحناء لبني أمية , خاطب (عبيد الدنيا) كما وصفهم الإمام الحسين(عليه السلام) بهذه الأبيات معلناً عن نفسه الحرة الأبية ,وكاشفاً عن حريتهم المزيفة التي تقبع أمام أصنام بني أمية.
ذلك هو: (جون بن حوي بن قتادة بن الأعور بن ساعدة بن عوف بن كعب بن حوي النوبي) السائر على نهج سيده أبي ذر في التمسك بالثقلين.
اشتراه أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفضل بن العباس بن عبد المطلب بمائة وخمسين ديناراً, ووهبه لأبي ذر لا ليخدمه فقط, بل ليتربى على يديه ويكون تلميذاً لذلك الصحابي المجاهد فيتعلم منه معنى الإسلام الحقيقي الذي جاء به نبي الإسلام.
لقد توسم أمير المؤمنين في جون روحه الصافية الخالصة وفطرته السليمة فاختار له كنف هذا الصحابي العظيم. كنف الزهد ,والتقوى, والإيمان والجهاد.
رافق جون أبا ذر مراحل حياته المليئة بالجهاد, والمشاق, والمتاعب وهو يقارع الظلم والاضطهاد, فتجرّع المآسي معه فكان خير رفيق لخير صحابي جليل. حتى انطوت صفحة الجهاد لذلك الصحابي العظيم في (الربذة) وحيداً, غريباً.
بكى جون سيده بدموع حارة, بكاه سيداً, وبكاه مجاهداً, وبكاه مؤمناً, صابراً, محتسباً, لم يداهن الظالمين على حساب مبادئه ودينه, وبكاه أيضاً لأنه لقّنه أسمى مبادئ الإسلام وهو ولاية أمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين(عليهم السلام).
فلم يتوان جون حين بلغه نبأ مسير الحسين(عليه السلام) لمناهضة الباطل عن الإلتحاق بركب سيد الشهداء(عليه السلام) فخرج معه من مكة للاستشهاد بين يديه وليختم حياته الجهادية بأكرم خاتمة وهي الشهادة بعد أن سجل أروع صفحات الإباء والشمم والإيمان بالمبدأ والعقيدة.
إنه تلميذ أبي ذر الثائر المجاهد الذي سار على هدى سيده فسجل له التاريخ بحق كلمات خالدة بحقه وحق أصحابه الشهداء الكرام(رضوان الله عليهم) من فم سيد الشهداء(عليه السلام) بخيرة الصحبة وأفضلها بقوله:
(أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أفضل ولا خير من أصحابي, ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي, فجزاكم الله عني جميعاً خيراً).
كما شهد له التاريخ كلمات جسّدت أروع معاني الوفاء, والتضحية, والنبل حينما أذن الإمام الحسين(عليه السلام) لأصحابه بالإنصراف. فقد خطب فيهم ليلة العاشر من محرم قائلا:
(ألا وأني أظن أن يومنا من هؤلاء غداً, ألا وإني قد أذنت لكم, فانطلقوا جميعاً في حل مني ليس عليكم مني ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً).
فتكلم الأصحاب الأوفياء بكلمات خالدة معلنين رفضهم مفارقته, والتخلّي عنه حتى يموتوا دونه, كان جون ساكتاً, ويجن الليل وجون جالس ينتظر الصباح, وقد عاهد نفسه ألا يمس أحد إمامه الحسين بسوء وفيه عرق ينبض, وبينما هو جالس إذ يسمع صوت يهمس في أذنه:
(أنت في أذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية فلا تبتل بطريقنا)
يلتفت جون ليرى الإمام الحسين (عليه السلام) هو من يخاطبه .., فلا يتمالك جون نفسه, أيمكن أن يترك الحسين وقد أحاط به الأعداء من كل جانب وقد رباه سيده على حب الحسين وحب أبيه وأمه وأخيه وجده (صلوات الله عليهم) حتى تملكه هذا الحب؟ أيمكن أن يجحد اليد التي أحنت عليه والقلب الذي رق وعطف له؟ لا وألف لا ..,
وقع جون على قدمي سيد الشهداء(عليه السلام) يقبلهما وهو يبكي ويقول:
(يا ابن رسول الله أنا في الرخاء ألحس قصاعكم, وفي الشدة أخذلكم, والله إن ريحي لنتن, وإن حسبي للئيم, ولوني لأسود, فتنفس علي بالجنة, فتطيب ريحي, ويشرف حسبي ويبيض لوني, لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم أهل البيت)
إنه صوت الإيمان والوفاء نطق في هذه الروح الكبيرة. لقد رفض جون ترك الحسين(عليه السلام) ويتضح من خلال كلماته أن أهل البيت(عليهم السلام) كان لهم يد, وفضل عليه, وهو يعترف بنعمهم, وإطعامهم له, وهذا هو ديدن أهل البيت(عليهم السلام) في إطعام الفقراء والمحتاجين, حتى نزلت بحقهم في سورة الإنسان (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) ولكن جون لا ينسى الفضل الأكبر لأهل البيت(عليهم السلام) عليه وهو أن هداه الله للإسلام بجدهم النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) فيعلن ذلك في رجزه: (أحمي الخيار من بني محمد) قال ذلك أمام الجيش الأموي الذي جحد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وآذاه بقتله ريحانته وسبطه وكأنه يريد أن يقول لهم أنتم شر من اليهود عبدة العجل وقتلة الأنبياء الذين مسخوا قردة وخنازير بجحودكم فضل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليكم ومخالفتكم وصيته في أهل بيته وكفركم بالله وبكتابه الذي يقول (قل ما أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى) أفجزاء رسول الله أن تقتلوا أولاده؟
كانت بصيرة جون وعقيدته أسمى من هؤلاء الأجلاف الذين طبع الله على قلوبهم فأنساهم ذكر الله . لقد كان جون مصداقاً لهذه الآية الكريمة وأدى مودته وواجبه تجاه النبي وأهل بيته(عليهم السلام) على أكمل وجه إنه روح الإيمان يجعله الله لمن يشاء من عباده كما قال الإمام زين العابدين:
(إن الله يدخل الجنة من أطاعه ولو كان عبداً حبشياً , ويدخل النار من عصاه ولو كان سيداً قريشياً).
لقد كتب الله لهذا العبد الصالح أسمى مراتب الجنان التي خصها للشهداء والصالحين بموقفه يوم الطف فنال كرامة الدنيا والآخرة .
خرج جون يوم العاشر من محرم يستأذن الإمام الحسين للبراز فأذن له فبرز وهو يرتجز بأبياته وقاتل قتال الأبطال الأفذاذ فقتل خمسا وعشرين رجلاً فأصابته ضربة في عينه وكبا به جواده إلى الأرض فوقع على أم رأسه فأحاطوا به من كل جانب فقتلوه فماذا فعل الحسين؟
هل كان سيد الشهداء وأبو الأحرار(عليه السلام) ينسى طلب جون منه بالدعاء له؟ حاشى سيد شباب أهل الجنة من ذلك لقد أكرمه في الدنيا كرامة يغبطه عليها الأولياء والصالحين, لقد وقف الإمام الحسين(عليه السلام) على جسد جون الطاهر الذي بذله فداءً وإخلاصاً للإسلام وقال:
(اللهم بيض وجهه, وطيب ريحه, واحشره مع محمد, وعرف بينه وبين آل محمد)
لقد تشرّف هذا البطل المجاهد بهذا الدعاء وهذه الكرامة من الإمام الحسين(عليه السلام) باستجابة الدعاء من الله تعالى فكان كل من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك كما ورد عن الإمام الباقر:
(أن الناس كانوا يحضرون المعركة ليدفنون موتاهم فوجدوا جوناً تفوح منه رائحة المسك)
وهو جدير بهذه الكرامة لأن روحه العظيمة كانت أنقى من المسك هذه كرامة الدنيا أما كرامة الآخرة فهي التشرف بمرافقة محمد وآل محمد.
وإضافة إلى هاتين الكرامتين فقد تشرف جون بسلام شريف من الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) كما ورد في زيارة الناحية المقدسة بقوله:
(السلام على جون بن حوي مولى أبي ذر الغفاري) فهنيئاً لهذه الروح الكبيرة مرافقة محمد وآل محمد.
محمد طاهر الصفار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*