توحيد القطاع الديني في مصر

251

imagesCAW9XAV3

    بالرغم من اللغط والإرباك على المدى القصير، قد تحصد مؤسسة الأزهر ثماراً جيدةً من سياق الأحداث الذي أعقب الثالث من تموز/ يوليو، ففي الأشهر التي أعقبت الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ثمة تطوران ملحوظان حصلا فيما يتعلق بمكانة المؤسسات الدينية في الحياة المصرية العامة، وهما: ظهور قيادةٍ أكثر توحداً في المؤسسات الدينية الحكومية الرئيسة، والوعد بمنح دورٍ أكبر لهذه المؤسسات في الحياة العامة. لم يحصل هذان التطوران بالدرجة الأساس داخل الأزهر، بل في هيكلية وزارة الأوقاف الدينية وأفرادها ونطاق عملها، غير أنهما يوفران دوراً قيادياً للأزهر في صياغة الحياة الدينية في مصر، فوزارة الأوقاف الدينية التي لطالما كانت تُعتبر لزمنٍ طويلٍ عدواً لسلطة الأزهر تعمل الآن مع الأزهر لتطبيق أنظمةٍ لتعيين الخطباء وجعل المساجد تابعةً للسلطة الإدارية للوزارة وتنظيم محتوى الخطب الدينية وإصدار الفتاوى، ففي الشهر الماضي، أعلن وزير الأوقاف، محمد مختار جمعه، أنّه لن يُسمح بإقامة الصلوات إلا في المساجد التي تخضع لسيطرة الوزارة وأنّ أئمة الأزهر المؤهلين فقط هُم من سيُسمح لهم بإلقاء الخطب في المساجد، كما قام الوزير أيضاً بتجريد آلاف الأئمة من رخصهم الخطابية وأغلق المساجد التي تقل مساحتها عن 80 متر مربع، والتي يديرها في الغالب أئمةٌ مستقلون، وحظر جمع التبرعات في المساجد التي “تذهب الى أولئك الذين لا يخافون الله”. والأكثر من هذا هو أنّ جمعه أمر بإصلاح المجالس والهيئات التي تُشرف على المساجد العائدة للدولة. وساق الرجل سبباً من وراء التحرك، وه هذا سوء استخدام المساجد خلال فترة حُكم مرسي والتحريض على العنف والرَّدة، إضافةً الى الصدامات الأخيرة التي وقعت داخل المساجد بسبب الوضع السياسي المُستَقطَب. علاوةً على ذلك، وحسب ما قال مصدرٌ داخل الوزارة، فإن الوزير الذي سبق جمعه كان قد عيّن أعضاء في تنظيم الإخوان المسلمين في مناصب رفيعة المستوى، فقام جمعة بإعفاء هؤلاء المُعيّنين من الإخوان، وبعدها طالب بعض المراقبين بإعفاء أفراد الكوادر في الدرجة الثانية والثالثة أيضاً على أساس عضويتهم في الإخوان وفي مجاميع إسلاميةٍ أخرى. هذه القرارات أثارت جدلاً بين الخطباء والمجاميع الدينية، حيث انتقد حزب النور السلفي تحرك الوزارة هذا، داعياً الى اختيار الخطباء على أساس “المعايير العلمية، وليس الولاء للسلطات أو الاعتبارات الأمنية”.

 وفي الوقت الذي تبدو فيه الخطوات التي أقدمت عليها وزارة الأوقاف الدينية محاولة لتجريد الإخوان المسلمين ومجاميع إسلاميةٍ أخرى من قوتها وإضعافها، إلا أنّ الوضع على أرض الواقع أكثر تعقيداً من هذا، فالأنظمة هذه في الواقع تشير الى خطةٍ لتأميم الممارسة الدينية في مصر. لكنّ الخطة قد لا تكون قابلةً للتنفيذ، فهذه هي بالكاد المرة الأولى التي تحاول الحكومة المصرية فيها توسيع إشرافها على مساجد البلاد. المحاولات السابقة كان مآلها الفشل لأنّ المهمة هائلة، إذ كيف للوزارة أن تتمكن من ضمان أن تتّبع المساجد الإرشادات الخطابية أو أنّ صلوات الجمعة لا تُقام إلا في المساجد التي تزيد مساحتها على 80 متر مربع؟ كيف للوزارة أن تتعامل مع الخطباء (الشعبيين) الذين لم يحصلوا على شهادةٍ من الأزهر؟ هل ستسعى الوزارة الى الحصول على المساعدة من الشرطة لتطبيق السياسات واعتقال المخالفين؟ وإشكاليةٌ أخرى هنا هي ردة الفعل التي من الممكن أن تثيرها هذه السياسات من مجاميع مضى عليها وقتٌ طويلٌ وهي تبني مساجد في جميع أنحاء مصر وتُدرس فيها وتُلقي الخُطب فيها، ففي مقابلةٍ أجريت مؤخراً مع مسؤولٍ في الأزهر، أقرّ هذا المسؤول بالتحديات التي تواجهها عملية تنفيذ السياسات هذه، فالمؤسسة تدعم التغييرات التي أدخلها الوزير الجديد بالكامل معتبرةً إياها إصلاحات مطلوبة منذ فترةٍ طويلةٍ وتأخر حصولها بسبب عدم اكتراث الحكومات السابقة والقيادة الدينية في الأزهر والوزارة. لكنّ الأزهر يُدرك في الوقت نفسه جسامة المهمة هذه.

ما يهدف إليه الأزهر ما يزال متواضعاً، فهو لا يسعى إلى السيطرة على المؤسسة الدينية، بل إلى تنظيم وتعزيز تفسيرها وقراءتها الوسطية للإسلام. وكخطوةٍ أولى لتحقيق ذلك، قررت الوزارة والأزهر أن يؤسسا مجلساً أعلى للخطابة يكون خاضعاً لقيادة شيخ الأزهر، ويكون مسؤولاً عن تدريب الأئمة والخطباء والإشراف على جميع الأمور المتعلقة بالخطابة. وكان جمعة، الذي كان عضواً في المكتب الفني لشيخ الأزهر حتى تم تعيينه، يقود جهوداً لإرسال الخطباء المتعلمين في الأزهر الى قرىً وتجمعاتٍ سكانيةٍ نائيةٍ، مثل مصر العليا وشمال سيناء، للتغلب على تأثير الرؤى المتطرفة الأخرى للإسلام. ومع ذلك فإنّ المنتدى الأبرز الذي يظهر فيه دور الأزهر الجديد هو لجنة الـ 50، التي تعمل على مراجعةٍ شاملةٍ لدستور مصر، فالأزهر له ثلاثة ممثلين في اللجنة هذه (المفتي واثنان آخران)، وهؤلاء الممثلون يحتلون مكانةً أقوى بكثير من تلك التي كان يحتلها سابقوهم في لجنة كتابة دستور 2012، ففي 2012، كانت مكانة الأزهر تتمثل بموقعٍ دفاعيٍ ارتكاسيٍ أكثر من أي شيء آخر، فكان يسعى الى الدفاع عن مصالح المؤسسة هذه وعن رؤيتها في الوقت الذي كان فيه أعضاء اللجنة تلك من غير الإسلاميين ومن السلفيين ومن الإخوان يتنازعون فيما بينهم على مواد دينيةٍ متنوعة.

وكانت النتيجة وثيقةً أعطت المؤسسة أكثر مما كانت تتمناه ربما، فمنحت إحدى المواد الأزهر دوراً استشارياً في القضايا التي تتعلق بمبادئ الشريعة الإسلامية، بينما تبنّت مادةٌ أخرى التعريف الذي أعطاه الأزهر لهذه المبادئ. مثل هذا الدور القوي يبدو رسمياً أكثر مما ترغب به القيادة العليا الحالية للمؤسسة، فهُم يسعون للحصول على سلطةٍ معنويةٍ عليا، وليست سلطةً سياسيةً مُحددةً بتعاريف وقوانين. وفي نسخة دستور 2013، من المحتمل أن تُخفف المواد الدستورية التي نحن بصددها أو تُحذف، وهذا بالكاد سيُقلل من تأثير الأزهر بل سيجعل الأمر أقل اعتماداً على النص الدستوري.

الأزهر والوضع الجديد

مهما كانت جهود الأزهر التي يبذلها تدريجيةً ومهما كانت رؤيته المُعلَنة متواضعةً فهو الآن يقود المؤسسة الدينية في مصر ليدخل بها إلى عهدٍ جديد، فالمؤسسات المنافسة التقليدية جيء بها الآن الى تنسيقٍ أوثق معه، وشيخ الأزهر وهيئة كبار علماء الأزهر يقفان على رأس الجهاز الذي أصبح أكثر توحداً الآن. والمفتي ووزارة الأوقاف الدينية يعملان الآن بشكلٍ أوثق من قبل مع الأزهر، وجميعهم يبدون معترفين مُقرّين بالسلطة المعنوية للمقاربة التي ينتهجها الأزهر في تعامله مع الإسلام.

أصوات المنشقين لم تُسكَت جميعها، فالمظاهرات التي يقوم بها طلاب الأزهر والتواجد المستمر للسلفيين في المناظرات العامة أدلةٌ جليةٌ على ذلك. لكنّ مكانة شيخ الأزهر ومؤسسة الأزهر تظل آمنةً، وأصوات المنشقين تفقد بعضاً من قوتها وتأثيرها بدون أن تتعرض للقمع والإسكات.

وربما يكون الشاهد الرمزي الأبرز على الوضع الجديد يوسف القرضاوي، أحد أبرز رجال الدين المسلمين الناشطين في يومنا هذا. وبالرغم من أنه مصريٌ وتلقى تعليمه في الأزهر، فهو يتخذ من قطر مقراً له. وكان القرضاوي يروج لمقاربته الوسطية الخاصة به في نظرته الى الإسلام لكنّه لا يُخفي مساندته للإخوان المسلمين. وكان القرضاوي، وبشكلٍ مفرطٍ يُميّزه على نحوٍ خاص، ناقداً بشكلٍ صريحٍ للإطاحة بمرسي، كما وسّع من نطاق انتقاده ليشمل المنصب الذي حصل عليه الطيب. لكنّ القرضاوي عضوٌ أيضاً في هيئة كبار علماء الأزهر. ورغم أنّ رد فعل الهيئة على تعليقاته كان غاضباً حتى أنه عقد اجتماعاً لمناقشة كيفية الرد عليها، إلا أنّ القرضاوي احتفظ بمقعده. وهو يُظهر بعض العلامات على تخفيف حِدة صوته لكنه يبقى معزولاً داخل الهيئة تلك.

الأزهر لم يكسب تماسكاً فقط؛ بل أصبح قادراً على تعزيز مكانته المتميزة ومركزيته. وربما يكون ظهور الطيب عند إعلان السيسي الذي ألقاه في الثالث من تموز/ يوليو قد بدا تحركاً ذا طبيعةً سياسيةٍ، لكنه عزز مكانة الأزهر على أنه ضمير الأمة المصرية.

بالنسبة للمصريين من مختلف ألوان الطيف الشعبي، يُمثل الأزهر الوجه الحقيقي والأفضل للإسلام كما يفهمه المصريون ويمارسونه. وقد التفّ أولئك المعارضون للحكم الإسلامي حول الأزهر كبديلٍ وكان رد فعلهم إيجابياً على تعزيز صوت الأزهر في مرحلة ما بعد الثالث من تموز/ يوليو في رفضٍ منهم للإخوان. والإخوان يحملون الكراهية الكبيرة للطيب، لكنهم ما يزالون يدّعون بأنهم يدعمون الأزهر كمؤسسة.

إنّ المرحلة الراهنة تُمثّل فرصةً هائلةً للأزهر، فالمؤسسة تبدو على وشك تحقيق المزيد من الاستقلال والتأثير أكثر مما كانت تحظى به أبداً في العصر الحديث.

*ترجمة (العالم) عن الموقع الإلكتروني لمؤسسة كارنيغي

أحمد مرسي وناثان براون /باحثان في مؤسسة كارنيغي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*