جماعات خارج التاريخ
د. إبراهيم العاتي(*) …
كخفافيش الظلام يتحركون، ومثلها يتنقلون… من كهوف (تورا بورا) في أفغانستان وحتى مغارات الداغستان والشيشان، ومن غابات اندونيسيا والفليبين إلى كثبان الصحراء الكبرى في الجزائر ومالي وغيرهما من البلدان. تحت شعارات الإسلام ينطلقون، ولكنهم لا يفقهون من الاسلام إلا السيف، ومعناه القتل والذبح من الوريد الى الوريد لمن خالفهم الرأي أياً كان دينه أو مذهبه او طائفته أو نحلته او جنسيته أو قوميته، مع اطلاق صيحات التكبير والتهليل، بل حتى لو كان من نفس مذهبهم، وقتالهم الضاري مؤخراً في سوريا ضد جيش النصرة وجيش الاسلام والمجاهدين وسواهم من التنظيمات التكفيرية دليل قاطع على ذلك.
جمعتهم إرادات الدول الغربية المساندة لإسرائيل في صراعها مع الاتحاد السوفياتي السابق الذي احتل أفغانستان عام 1978، فقادت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفا دولياً سياسياً وعسكرياً ضده، لتمسح عار هزيمتها المنكرة في فيتنام، وفكرت فيمن يقوم بهذه المهمة، فوجدت ضالتها في ( المجاهدين)، وهكذا بدأت حملة دؤوبة لجمعهم من مختلف أقطار العرب والمسلمين، وأنشأت لهم قواعد ومراكز تدريب في مصر (كامب ديفيد)، التي كان مهندسوها يهدفون إلى إشغال العالم بقضية جديدة غير قضية فلسطين، فوجدوا ضالتهم في الحرب الأفغانية، وفي اليمن التي أصبحت من مراكز القاعدة الرئيسة في العالم، وفي دول خليجية عديدة وعلى رأسها السعودية التي كانت مؤسستها الوهابية تقوم بحشو أذهان هؤلاء بالفكر التكفيري ليسهل عليهم بعد ذلك إلغاء الآخر أو قتله!
وفي باكستان بدأ تجميعهم من كل حدب وصوب في معسكرات بيشاور لينطلقوا منها لتنفيذ مهماتهم القتالية. وفي إحدى المرات خطب فيهم بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي خطبة عصماء عن الجهاد ملوحاً برشاش كان يحمله نحو كابل! والمعروف أن لبريجنسكي دور كبير في تأسيس تنظيم القاعدة.
ومنذ ذلك الحين بدأ يلمع نجم عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم ممن سمّوا (بالأفغان العرب)، بالإضافة إلى أمراء الحرب الأفغان الذين بدأوا بالجهاد ضد الروس ثم انتهوا بالجهاد ضد بعضهم بعضاً، الى أن جاءت حركة طالبان التي صنّعتها المخابرات الباكستانية والأمريكية، لتقضي على الجميع باستثناء أحمد شاه مسعود الذي اعتصم في وادي بانشير الحصين، لكنه قتل بشكل مريب قبل الغزو الأمريكي لأفغانستان بيومين!
لقد كانت لأمريكا أهداف متعددة في دعمها للمقاومة ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان، أهمها: أولا، الانتقام من الروس بسبب دعمهم للمقاومة الفيتنامية التي هزمت الجيش الأمريكي وأجبرته على الهروب من فيتنام، والثاني يتعلق (بالعرب الأفغان) والدور الذي سيقومون به في بلدانهم بعد رجوعهم إليها فيما لو انسحبت القوات الروسية. وبالفعل فقد حققت الهدف الأول حينما انسحبت قوات الجيش الأحمر من أفغانستان، وتحررت أمريكا، ولو نسبيا، من عقدة فيتنام، أما الهدف الثاني فقد تكفلت به أجهزة المخابرات الغربية والعربية المتعاونة معها، وبخاصة المخابرات السعودية التي كان يقودها في تلك الحقبة الأمير تركي الفيصل، حيث بدأت باستخدامهم في تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وكانت الجزائر هي المحطة الأشد إيلاماَ خلال ما سمي بالعشرية السوداء في التسعينيات من القرن الماضي، والتي أزهقت فيها عشرات الألوف من الأرواح البريئة، وكادت ان تودي بالدولة الجزائرية التي تشكلت بعد كبرى الثورات التحررية في القرن العشرين، وقل مثل ذلك في مصر واليمن والصومال وغيرها التي عشعش فيها الإرهاب المتبرقع بالإسلام السياسي حتى ينفر الناس من أي ارتباط بين الإسلام والسياسة!
أما أفغانستان، وما أدراك ما أفغانستان!.. فهذا البلد الشحيح الموارد، ذو التضاريس الجغرافية القاسية، والتركيبة القبلية والعرقية المغلقة، قدر له أن يكون حقلاً عالمياً للتجارب، ساهم في تكوينه المعسكر الشيوعي حتى انهياره المدوّي بعد سقوط جدار برلين، وتلقفه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وهو في قمة غروره وخيلائه إثر تفكك الاتحاد السوفييتي وتغيير الأنظمة في الدول الاشتراكية المرتبطة به، وانضمامها للاتحاد الأوروبي، حيث عبر (فوكوياما) أحد منظري الرأسمالية عن هذه المرحلة بأنها نهاية التاريخ!!
وبدلاً من أن تمد الولايات المتحدة والغرب والقوى الإقليمية النفطية المتحالفة معها يد العون لهذا الشعب المنكوب بالاحتلال وتبعاته التي أدت بالملايين من أبنائه إلى الهجرة والعيش في مخيمات اللاجئين في باكستان وإيران وبقية الدول المجاورة الأخرى، فإنها رسمت له مخططا جهنميا يقضي بأن يكون مركزا لتفريخ جماعات العنف الديني المسلح، مستفيدة من معلومات خبرائها المتضلعين في تاريخ الجماعات المتطرفة في مختلف عهود الإسلام، من الخوارج وحتى محمد بن عبد الوهاب!.. فدعمت حركة طالبان، وهي مزيج من التعصب القبلي والتزمت الديني الخارج عن التاريخ والمنفصل عن العصر، التي سيطرت على معظم أراضي أفغانستان، وكذلك أشرفت الولايات المتحدة على تأسيس تنظيم القاعدة الذي كان ومازال يهدف الى تمزيق المجتمعات العربية والإسلامية عن طريق بث الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وبين الشيعة والسنة، وبين السنة والاباضية، وبين السنة أنفسهم كالا شاعرة والصوفية واتباع الذاهب الفقهية الرئيسة كالأحناف والمالكية والشافعية، واعتبار ان المذهب الحق هو المذهب الحنبلي حسب تفسير ابن تيمية وابن القيم له، لا حسب ما كان يراه ابن حنبل نفسه!
لقد عملت الولايات المتحدة على إذكاء روح التطرف ومحاربة قوى الاعتدال في كل دين او مذهب، لأن المعتدلين دعاة تفاهم واستقرار وحل المشاكل بالحوار لا بالسلاح، بينما هدفها خلق حالة من الاحتراب الداخلي بين المكونات الدينية والمذهبية والاثنية للمجتمعات من اجل إضعافها، تطبيقا للمبدأ الاستعماري القديم (فرق تسد)!..وبالنسبة لشعوبنا العربية والإسلامية فإن خير من أدى ومازال يؤدي هذا الدور هم الجماعات المتطرفة ومن يقف وراءها من دول عالمية وإقليمية. فهذه الجماعات تعتقد انها لوحدها على صواب وغيرها –مهما بلغ من العلم- على خطأ، وليتها تقف عند هذا الحد ولكنها تتوسل لفرض رأيها بالعنف وقوة السلاح، فليس عندها اسهل من تكفير الأشخاص والمذاهب بل والمجتمعات باعتبارها مجتمعات جاهلية يجب قتالها!..
وهكذا فان معركتها الحقيقية تغدو مع مجتمعاتها وليس مع العدو الذي يغتصب الأرض ويهوّد القدس ويريد تدمير المسجد الاقصى لإقامة هيكل سليمان في مكانه، ويهدد اي دولة عربية او مسلمة تمتلك من اسباب القوة العلمية أو العسكرية او الاقتصادية ما يمكن ان يشكل خطرا عليها في الحاضر او في المستقبل.. فهل هنالك خدمة تقدم لإسرائيل وحلفائها اعظم من الخدمة التي يقدمها لها التكفيريون؟!
وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن العلاقة بين هذه الجماعات والدول والأجهزة الخفية التي هندستها ومولتها ومكنتها من التحكم في بعض المناطق والبلدان هي علاقة ملتبسة وتتميز بنوع من الازدواجية. فالجماعات الإرهابية المتطرفة التي تلبس لبوس الدين لا تجد مانعا شرعيا من التعاون مع أجهزة الاستخبارات الدولية والمحلية لتحقيق هدف مشترك حتى وإن بدا أنهما مختلفان ظاهريا. فالرئيس أنور السادات كانت عقدته في بداية حكمه هي القوى اليسارية والناصرية التي كانت سائدة في الجامعات والمنابر الثقافية والهياكل السياسية كالاتحاد الاشتراكي واتحادات العمال والطلبة وغيرها، وكانت تشوش على سياساته اليمينية التي تتجه غربا، والتي انكشفت على حقيقتها في رحلته المشؤومة إلى القدس، وإلقائه لخطابة الشهير في الكنيست تحت صورة هرتزل صاحب فكرة الدولة اليهودية، ولم تنفع كل وسائله الإعلامية في الحد من نفوذ هذه القوى وتحريكها للشارع في المظاهرات التي سبقت حرب أكتوبر 1973، ومظاهرات الخبز في يناير 1977 والتي اشتعلت فيها مصر بنار الثورة من الإسكندرية وحتى أسوان، وكادت ان تودي بنظامه لو كانت هناك قيادة معارضة قوية تستطيع تنظيم تلك الجموع المنتفضة وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
لذا فقد تفتق ذهنه عن خطة جديدة وهي ضرب النقيض بنقيضه، فكلف احد أعوانه وهو محمد عثمان إسماعيل الذي كان عضوا قياديا في الاتحاد الاشتراكي العربي ايام الرئيس عبد الناصر ولما توفي مال مع الريح فأصبح ساداتياً.. كلفه بتأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات ثم عينه محافظا لأسيوط ليقوم بتدريب وتسليح تلك الجماعات، مستغلا التعصب القبلي وعادة الثأر المتغلغلة في مجتمعات الصعيد بوجه عام، والوجود القبطي المكثف في الصعيد منذ قرون عديدة، فكان باكورة أعمال تلك الجماعات تفجير الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين، والتي حاول السادات تصفية جميع خصومه تحت ستارها، لكن المارد الذي اطلق من عقاله يصعب رده أو ترويضه فبدأ ينمو ويتكاثر وينشطر وينتقل للعالم الأوسع حتى انقلب على السادات نفسه، وتمكن من قتله في يوم عيده. لأن هذه الجماعات سلاح ذو حدين قد تقتل به وقد يقتلك، وهو ما حصل فعلا!
وهكذا يمكن تفسير علاقتهم بالرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، لأن المدققين في الشأن اليمني يرون أن نظام صالح – بالتعاون مع جارته الشمالية- هو من زرع بذور القاعدة في اليمن، وجعلها تتكاثر وتنتشر ليهدد بها خصومه في الداخل، ويستجدي دعم الدول الكبرى في الخارج بحجة محاربته للإرهاب، متهربا في الوقت نفسه من مطالبها له بإجراء إصلاحات سياسية!
وقد عبر وزير الخارجية الروسي لافروف عن هذه العلاقة المزدوجة للدول الغربية في التعامل مع الارهاب حينما حصلت ازمة مالي، فخاطب المسؤولين الفرنسيين قائلا: إنكم تحاربون الإرهاب في مالي وتدعمونه في سوريا!.. فالإرهاب إذن خط احمر حينما يهدد مصالحهم او يصل الى بلدانهم، ولكنهم يرحبون به ويشجعون عليه حينما يخدم مخططاتهم.
وما يجري في العراق من فظائع ترتكبها الجماعات التكفيرية ضد المدنيين الآمنين في المنازل والأسواق والجامعات ودور العبادة وغيرها، يثبت بما لا يقبل الشك أن هذه الجماعات لا تملك مشروعا للبناء لأن مشروعها عدمي هدفه الهدم فقط كمقدمة لإحلال الفوضى، حيث تلتقي في هذه الناحية مع نظرية الفوضى الخلاقة التي نادى بها المحافظون الجدد وسارت عليها الإدارة الأمريكية حتى يومنا هذا. وستثبت الأيام أن لا مستقبل لهذه الجماعات لأنها عزلت نفسها عن المجتمعات وتحالفت مع الشيطان، الذي سيلفظها ويودي بها في يوم من الأيام!
* أكاديمي وباحث