كيف تؤثر الشائعات والدعايات المدبلجة على الاستعداد النفسي للعسكريين
إذا كانت العلوم قد حققت تقدماً هائلاً في مجالات الحياة المختلفة, فإن علم النفس أيضاً, استطاع أن يأخذ مكانه بين العلوم, منذ دخوله ميدان التجربة ليصبح عالماً مستقلاً بحد ذاته, له مكانة واسعة بين العلوم الأخرى, وله موضوعاته ونظرياته.. نحن نعرف أن لكل علم خصائص ومميزات وسمات أساسية تعبّر عن الدوافع التي تلعب دوراً أساسياً في مجاله, وعلم النفس العسكري الناشط تطرّق في اجتهاداته إلى دراسة أهم العوامل التي تشكّل أزمة حقيقية ضمن المؤسسات العسكرية, التي تعتبر العمود الفقري للدولة, والقاعدة الأساس التي تنهض بكامل أجهزتها. وبما أن الجيش يأخذ موقع السويداء في قلب السلطة, أي إنه في النقطة الحساسة ¬ الحرجة التي تلتقي حولها مؤسسات الدولة, فهو الذي يصون وحدة الأجهزة العامة والخاصة, ويحدد نمط الاتجاهات الوطنية والاجتماعية, بما فيها من سياسة وطنية وسياسة إدارية عامة, وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية, ويسهر على سلامة العلاقات, التي تربطها بعضها بالبعض الآخر.. ومن هذا الموضع رأى علماء النفس, أن مؤسسة بهذا الحجم من المسؤولية تتطلب مزيداً من الاهتمام بشؤونها الداخلية, وتحتاج إلى رصد الخبرات لصونها من التيارات التي تسيء إلى توازنها وتماسكها, على أقل تقدير, كونها تشكل صمام الأمان الأساسي للوطن… ومن هذه الرؤية, عمد علماء النفس إلى استعراض أبرز العوامل التي لعبت دوراً خطيراً في الميدان العسكري واستنفدت الإمكانات والثروات الوطنية وانتهت بتطلعات الشعوب وآمالها إلى الخيبة. وقد استند علماء النفس في سلسلة اجتهاداتهم إلى معلومات ومرتكزات وتجارب مشهود لها في هذا المجال, وانتهوا إلى أنّ الحرب النفسية Psychological War For)) , هي أخطر سلاح حربي استخدم منذ أقدم العصور, لفرض إثارة الصراعات والفتن بين صفوف العسكريين, وشق وحدة الصف الوطني. والملاحظة الجديرة بالاهتمام, أن الحرب النفسية قد برزت بأساليب مختلفة وتسللت إلى غرفة العمليات العسكرية وتركت بصماتها بوضوح, وكانت دائماً ترتبط بالمعارك الحربية بصورة أولية, وأشيرَ إليها كعامل أساسي في نجاح أو فشل المعارك. باختـصار, إن الحـرب النفسية هي فنّ حربي, يُنشر عن طريـق الدعاية وبث الشائعات المسمومة, أو, عن طريق إرسال الجواسـيس بهدف جمع المعلومـات عن الجهة التي توجّه إليها الحرب النفسية, بقصد التوصـل إلى تدبيـر مخطـط يستـهدف قاعدة القيادة.. وقد سـجّل علم النـفس موقفاً صريحاً من سياسة الحرب النفسية وأهدافها, وتوسّع في تحلـيل المصـادر والبصـمات التي تتـركها في المجال العسكري.
سياسة الحربة النفسية
من المعلوم أن الحرب تقوم على صراع الإرادات؛ إنها صراع إرادتي خصمين يحاول كلاهما أن يجبر خصمه على الرضوخ لإرادته, فالهدف الأساسي لأي حرب, هو كسر إرادة الصمود لدى العدو وبالدرجة الأولى قيادته, وإجباره على الاستسلام الكامل غير المشروط, أي, تجريده من الإمكانات والقوى المادية والمعنوية, وجعله لا إرادياً يتراجع في كل موقع حاملاً معه خسائره الكبيرة… ولا ريب أن أخطر أسلحة الحرب فتكاً هي التي تستهدف تمزيق الروح المعنوية وتساعد الخصم على تحقيق سياسة دولته وأهدافها. لهذا نجد جميع الجيوش في العالم تستخدم أساليب الحرب النفسية لتحجيم قوة الخصم, ومحاولة التأثير على معنوياته والقضاء عليها من جهة, ورفع معنويات قطعها العسكرية وتحريكها باتجاه إيجابي للصمود أمام الأزمات في أوقات الشدة والخطر من جهة ثانية… من هنا, لنا أن نتصوّر خطورة الدور الذي تلعبه الحرب النفسية, خاصة في المجال العسكري, فالجيش هو نواة السلطة, وأي نقد أو تشهير أو فشل يطاله, هذا معناه بالتأكيد, بأن الدولة نفسها قد سُلّط عليها الضوء, وطالها النقد, وحاصرها الفشل. فإذا قيل مثلاً, أن سياسة الدولة ليست متزنة, أو أن وضعها الداخلي مرتبك أو أن اقتصادها ليس مستقراً, أو إذا أثيرت حولها الشائعات والتصوّرات التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة, لتشويه صورتها والانتقاص من قوتها ودفاعاتها الهادفة إلى تحقيق النمو الشامل, هنا, تستطيع الدولة أن تأخذ موقف الدفاع وترد على مثل هذه المواقف من دون أن تشعر بإحراج كبير, فبيان أو تصريح من المسؤول المعني بالأمر المشار إليه, قد يُطمئن من يهمهم الأمر, أو يجنبهم القلق على أقل تقدير, ويصحح ما أشارت إليه الشائعات عن أن النشاط الذي تقوم به ليس مجدياً. أما حين تتسرّب شائعة تنطوي على أبعاد وخلفيات تؤثر مباشرة على معنويات الجيش وتشكّل استغلالا للمشاعر الوطنية, هنا تصبح المشكلة أكبر وأخطر, ذلك أن بوادر القلق وعدم الارتياح والرضى تولّد في النفوس أعراض الانفعال والاضطراب من الوضع السائد, وبالتالي ينمّ عنها عجز وإرتباك في صفوف الجيش ينتقص من قدرة العسكريين ويمنعهم عن الاستجابة والمشاركة الفعّالة ويقودهم إلى تجاوز المسؤولية. وهذه الحالة شغلت اهتمام علم النفس نسبة لخطورتها, ووجد أنه لا بد من اتباع طرق لإثارة انتباه الجنود إلى فعالية القيادة وأهدافها, بحيث يتمكن القادة من عزل الحرب النفسية التي يشنها الخصم ضد قضيته.. لأن الجندي عليه أن يؤمن بالهدف, ويكون متأكداً من أن النظام الذي يسود قيادته سليم, وأن يكون مقتنعاً من أنه يقاسي ويعيش المحن لأسباب ودوافع وطنية مقدسة ونبيلة وليس جزافاً, وهنا يأتي دور التوجيه السياسي والعسكري, ودور التوعية التي تعزز إيمان الجندي بوطنه وقيادته وتجعله أكثر قدرة وتعاطفاً, ولديه مقومات الاستمرار والتواصل والنضال, فلا تغريه شائعة أو تجعل منه هدفاً سهل المنال.
دور التوجيه المعنوي
شدد علم النفس العسكري على أهمية دور التوجيه في إعداد المقاتلين ورفد استعدادهم للمضي قدماً بثبات من دون الوقوع في ثغرات التراجع, وعلى ضوء معطيات الظروف القائمة, مهما كانت الدوافع والمبررات التي تقف لهم بالمرصاد, إذ يُفترض بكل مقاتل أن يتمتع بإرادة صلبة ويظل مؤمناً بمواقف قيادته, فالخطر كل الخطر, أن تستدرجه إحدى أساليب الحرب النفسية إلى الإحباط, فما الجندي من جندي إذا بدا منهكاً, مستسلماً, فاقد القدرة على الاستجابة لنداءات واجباته العسكرية؟ أما الجانب الأكثر أهمية الذي أشيرَ إليه في مجال مواجهة الحرب النفسية, فهو اعتماد برنامج توجيهي واضح يستند إلى مبررات تساعد المقاتل على تقبّل الهدف الذي أعد من أجله, ويتضمن فقرات مهيأة ومعدة بصورة منظمة ترفد استعداد الجنود وتعطيهم الحوافز التي تحصّن دفاعاتهم النفسية, وترقى بمعنوياتهم إلى أعلى مستوى من التكامل.. وقد حدّد علم النفس اتجاهات الحرب النفسية في شقين أساسيين, وهما: حماية المقاتل من الانجراف وراء التيّارات الهدّامة, وتوجيه نشاط مكثّف من أجل الحدّ من قوة الخصم ومنعه من الاستمرار في شنّ حملاته الهجومية ضدّ مصالحه, وهذا يشترط بالتأكيد وجوداً فعّالاً ونشيطاً داخل المؤسسات العسكرية يأخذ على عاتقه إنجاز هذه المهمة التي تتطلب الدقة والذكاء وشخصية موثوقاً بها. وتعتبر الحرب النفسية من أهم موضوعات الساعة, ويمكن أن نطلق عليها تسمية “مرض التحدي”, لأنها تتحدى المعنويات وتستخدم أسلحة حادة تطعن الشخصية وينتج عنها تلوث فكري وسلوكي, وهذا شيء خطير توقف عنده علم النفس واعتبره محوراً أساسياً في نضاله مع أزمة الحرب النفسية التي أصرّ على أنها حرب باردة, هي حرب أعصاب؛ قد تكون حرباً بلا مدافع وبلا سلاح موجّه, ولكنها أشد خطراً لأنها تعتمد على أساليب خبيثة تصيب الإنسان في إنسانيته وتعطيه شعوراً بالخيبة يقلل من قابليته على التحسس بمسؤولياته الوطنية, ويجعله عاجزاً عن تفهم الظروف ومجابهتها بالأساليب الواقعية والعملية.
وسائل الحرب النفسية
يرى “لينبارجر” Linebarger)) وهو أول من قدّم تعريفاً للحرب النفسية ¬ بأنها أضمن سلاح استخدم في المعارك لتحقيق المصالح التي يجري الصراع من أجلها ¬ بأن الحرب النفسية عمدت في سياستها إلى استخدام الوسائل التي تحدث شرخاً عميقاً في خصال الشخصية ومظاهر السلوك وفي طبيعة الأداء والآراء والمعتقدات والقيم المعنوية والروحية للفرد… ونذكر منها: -¬ استخدام أساليب الابتزاز غير المشروع لتهديد أمن وسلام الدول ودفع قواتها المسلحة إلى الاستسلام. -¬ ضرب الموارد الأساسية وافتعال الأزمات السياسية والاقتصادية للتأثير على الرأي العام. -¬ تعميق الشعور العام بفقدان العدالة للتشكيك بسلامة النظام الداخلي, وإرساء حالة من الترقب والاحتجاج والتمرد على الأمر الواقع والأوضاع السائدة. -¬ إثارة النعرات الطائفية ليسود التباغض بين أبناء الشعب الواحد ويعيش الأفراد عمق مرارة الوضع المشحون بالتشوش والقلق, وهذا يفتح خندقاً عميقاً بين أبناء الشعب المنقسم, وتقع البلاد في مأزق حرج؛ وحدّة الصراع هذه بالتأكيد تخدم الخصم. -¬ بثّ الشائعات بهدف إلهاء العسكريين عن الاندفاع وعن الوقوف صفاً واحداً للدفاع عن قضيتهم وأهدافها. -¬ اعتماد أساليب الدعاية التي رأى فيها علم النفس توأماً للشائعة, لها نفس الخطورة كمصدر مؤثر على الرأي العام لسعة انتشارها إلى درجة لا يضاهيها أي مرض آخر…
الدعاية وأهدافها
يرى علم النفس في “الدعاية” Propaganda)), محاولة للتأثير في اتجاهات الأفراد وآرائهم وأنماط سلوكهم, وهي عبارة عن ترويج معلومات منتخبة, وفق تخطيط معيّن, بقصد التأثير على جهة معينة, لغرض قد يكون اقتصاديا أو عسكرياً أو سياسياً, ويمكن التعريف عنها بأنها الأسلوب المخطط لنشر فكرة أو عقيدة أو خبر, وبث معلومات لغاية تهم مصدر الدعاية. إذاً, الدعاية هي لنشر معلومات مختلفة قد تكون حقائق, وقد تكون أنصاف حقائق, وقد تكون أكاذيب, ولكنها في واقع حالها هي محاولة منظّمة للتأثير على الرأي العام عبر استخدام وسائل الإعلام المختلفة؛ وهي تمثل أهم المصادر المؤثرة في ساحة المعركة.. والجدير ذكره, أن طرق الدعاية المكثّفة قد تحقق نجاحاً آنياً يعوّض عن الحالة الحقيقية للوضع السائد, ولكنه قد لا يستمر إلى حد بعيد, فالحقائق سرعان ما تظهر جلية واضحة. ولكن التضليل نفسه قد يكون مطلوباً في بعض المرات بسبب اضطرار القائمين على الدعاية إلى إبراز جانب واحد من الصورة وإخفاء الجوانب الأخرى للتستر على الهزائم, فشدة الصراخ تخفي وراءها عمق الهزيمة, ولكن حين تظهر في الأفق الإعلامي حماسة لا عقلانية تدبلجها الصحف وتبثها وسائل الإعلام المسموعة والمتلفزة بصورة مكررة وبقوالب مملة ومقلقة, فإن ذلك يعتبر بحد ذاته دليلاً على وجود ثغرات حول حقيقة المعلومات المبثوثة… ومما لا شك فيه, أن كل إنسان منّا لديه الفكر ولديه العقل ولديه الإمكانية ليعرف ما هو مطابق للعقل والمنطق, ويملك القدرة على اختبار ما هو صحيح وما ليس صحيحاً. فقد تكثّف الدعاية نشاطها لإثارة غبار كثيف يلفّ الموقف ويجعله قابلاً للشك, وتدعي من النجاحات ما ليس له وجود في حيّز الواقع, وتجعل المرء يعيش في محيط من المظاهر الخادعة, لأن هذا هو الهدف النهائي منها. إلا أن الحقيقة الثابتة هي أن الدعاية المؤثرة هي تلك التي تستند على الحقائق الملموسة وتدير ماكنتها لتعرض الصورة الحقيقية, خاصة حين تكون واثقة مما تشير إليه. أما في الحالات التي يقف فيها الجيش عاجزاً عن تحقيق نجاحات وإنجازات في ساحات القتال, فهنا لا بد للأجهزة الإعلامية الموضوعة في خدمة القيادة العسكرية أن تشتد فيها الدعاية لصالح معنويات العسكريين, ففي تلك اللحظات تكون الأعصاب مشدودة, بسبب غموض الموقف وعنف المفاجآت. هنا على الدعاية أن توجّه جهودها للتأثير على الأعصاب, وعلى النفس التي تكون في حالة توتر واضطراب وليس على العقل,لأن المطلوب منها أن تبدأ بتعزيز الشعور التدريجي بالاطمئنان, فذلك يُحدث استقرارا في نفسية المقاتل وهو أمر مهم جداً في المراحل العصيبة والحاسمة. ومن أبرز أهداف الدعاية وأهمها في المجال العسكري: ¬ المحافظة على الروح المعنوية للجيش وتوجيهه فكرياً ونفسياً لتقبل ظروف الحرب وما قد ينتج عنها. ¬ كسب تأييد الرأي العام من خلال شرح أبعاد القضية وخطورة الموقف. ¬ إحداث الفرقة بين صفوف العدو وإضعاف قدرته القتالية. ¬ كسب العدو فكرياً, وإظهار أن قضيته خاسرة ولا جدوى من نضاله وإطالة الحرب. ¬ نشر التخاذل وتثبيط المعنويات وإرهاق العدو, للوصول إلى تحطيم الدوافع والبواعث للقتال.
الشائعة.. وسيلة وهدف
تأخـذ الشائعة نفس طابـع الدعاية, فهي تهدف إلى تزييف الحقائق وتتحرك بالكلمة المنطوقة بين الأفراد, متعمدة بث الشقاق وتوسيع شقة الخلاف بين الخصم وحلفائه في الداخل والخارج, وإجباره على تغيير خططه وبرامجه, وهي دائماً تجد أذناً صاغية وميلاً قوياً لتقبلها كحقيقة ثابتة, رغم أنها قد لا تحمل دليلاً على صحتها وتتغيّر تفاصيلها من فرد لآخر. والشائعة كالدعاية تماماً, تشكل خطورة على واقع المدنيين والعسكريين على السواء, لأنها تبعث في النفس والروح دفعاً جديداً يحدد نشاط الأفـراد نمـواً صاعداً أو ضموراً, والشائعة عادةً تسري في ضعفاء النفوس والأعصاب كسريان النار في الهشيم. وتعتـبر الشائعة من الوسائل الأساسية للضغط التي تسبق مرحلة إعلان الحرب بين جيشين, إذ يرى فيها طرفا النزاع خير وسيط لإحباط خصمه ومحاصرته ليصبح عاجزاً عن التقدم وفي حالة خضوع تام. وأكثر, تتدخل الشائعة تدخلاً مباشراً في توجيه دفة سياسة الدولة, وتسدد طعناتها إلى صميم المؤسسات من دون استثناء. ومما لا شك فيه, أن الهدف الأساسي من الشائعة, هو هدف شخصي, نفعي وآني, ودائـماً يكون لمصلحة فريـق أو طبـقة معيـنة. ويرى “شارلز أتندال” أن الشائعـة تستـخدم كستار لإخفـاء حقيـقـة معينة وتكوين صورة بعيدة كل البعد عن الواقـع, ومن أهدافها, وضع الخـصم في حالـة نفسـية متدنية, والتأثير على نمـط العلاقات وتعكير الأجواء إلى درجة مخيفة.. وأيضـاً, السيطـرة علـى قدرات الخصـم لتسـديد الضـربة القاضيـة في اللحظـة الحاسمـة. كما تتعمد الشائعة ترويج الأخبار التي تشيع الرعب في نفوس المقاتلين وتعزز فيهم حالة التشاؤم, طمعاً من مروّجيها بمنع الخصم من تنفيذ خططه العسكرية وتحقيق الطموحات المقررة قيادياً.
سمات الشائعة
تنطلق الشائعة من واقع المجتمع الذي تبث فيه, وتأخذ حاجات الأفراد بعين الاعتبار عند بثها, وهي تتسم بطابع الغموض, كونها لا تنتسب إلى مصدر محدد, لأن الغموض يولّد الشك, وهذا مطلوب لنجاح مقاصدها.. والشائعة تُنسب من خبر لا أساس له من الصحة, أو دبلجة خبر فيه شيء من الصحة, وتكون دائماً موجزة لتسهيل نشرها… وقد أجمع علم النفس أن الشائعة هي عبارة عن تنفيس للمشاعر المكبوتة, ويرى فيها الفرد ما ليس موجوداً في غيرها؛ وهي تنجح دائماً في بثّ سمومها, لأن مروّجي الشائعات يقدّمون الشائعة بصورة برّاقة, فلا تخرج إلا بعد حبكة وصياغة واختيار جيّد للكلمات والزمن لتفرض نفسها بقوة على الرأي العام. إن عملية انتقال الشائعات تتعرّض أثناء حركتها إلى عملية تحوير, وهذا التحوير أو ما يسمى بالتطعيم يستفيد منه مروّجو الشائعات, لأن عملية التحوير تخدم الهدف الذي من أجله تمّ إطلاق الشائعة إلى النور… والشائعات تختلف باختلاف المواقف, فهنالك الشائعات السوداء, وهي تحمل طابع التشاؤم وتكون سريعة الانتشار والهدف منها إرباك الخصم.. أما الشائعات البيضاء, فهي تدعو إلى التفاؤل وتثبيت الثقة في النفوس وتقوية العزائم. وهنالك بعض الشائعات هي من القوة بحيث تزيد من الحالة الانفعالية للفرد, والمعروف أن الانفعال يزيد من الحساسية النفسية عند الأفراد ويخلق البلبلة في الرأي العام, وقد قيل فيها, أنها أفضل أسلوب مدمّر استخدم في الحروب, وسلاح مدمّر من أسلحة الحرب النفسية.. فلماذا نخضع الأعداء بالوسائل الحربية ما دام بوسعنا إخضاعهم بوسائل أبسط وأجدى؟ وتكـثر الشائعات في فترات الطوارئ, وعندما يرتاب الناس في سلامة الوضع السياسي والأمني, وتفرض نفسها حين يكون الناس في حالة من الترقب أو الخوف من حدوث أمر ما, فإذا ما ظهرت الشائعة لاقت قبولاً خاصةً إذا كان تمثل ذلك الموقف الغامض, ونذكّر بأن الغموض في الشائعة يساعد في انتشارها ويعطي للناس فرصة أكبر في تصديقها.. ولا يمكن الإستهانة مطلقاً بخطورة الخلفية التي تتركها الشائعة وراءها. وحتى نحجّم من أهمية الشائعة وخطرها على المجتمع المدني والعسكري, لا بد من التعاون الوثـيق بين المواطـن والسلـطة لمحاربتـها بإظـهار الحقيـقة والدوافـع التي كانت وراء اختلاقها للرأي العام, كما يجب عدم تلقي الشائعة بانفعال, ومناقشتها, وتحديد مصدرها, والإبلاغ عنها, لتنبيه المواطنين وتوضيح الدوافع, فهذا يحد من انتشارها. وهنا, لا بد من التنويه, بأن لأجهـزة الإعلام دوراً كبـيراً في تحجـيم الـشائعة أو العـكس, بيد أن الشائعة تؤدي إلى انعكـاسات سلبية لدى الرأي العام, ما لم تقترن بصـحة المـصدر والمـعلومات وتتـحدد دوافـعها, ونحـن اليوم أحوج ما نكون إلى صرف النظـر عن الشائـعات, حيـث أننا لم نزل ننفـض عنّا غبار الشائعات التـي كان لهـا دور كبـير في إشعال نار الفتنة التي دفع ثمنها الوطن والمواطن. وللقـضاء على الـشائعة, المطـلوب, عدم ترديدها, لأن عدم ترويجها يحد من سريانهـا وانتشارها, لتدفن في مهدها, فإذا كانت صحيحة المصدر وتحمـل إلى الـناس حقيقة ثابتة, لا بد أن تعود لتفرض نفسها وبقوة, لأن الحقائق كالشمس التي وإن غابت لا بدّ أن تشرق من جديد.