تناقضات السلفية التكفيرية: ابن تيمية يعتبر”الأيزيديين” من أهل السنة والجماعة وتلامذته يستبيحون دماءهم ويسبون نساءهم
الحكمة (خاص): د. إبراهيم العاتي(*)
يشكل تراث ابن تيمية الحراني (ت 728هـ) المرجعية الفكرية والفقهية للتيارات السلفية التكفيرية منذ بدايتها في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ/ 1791م) وحتى ظهور الجماعات الاسلامية المسلحة كالتكفير والهجرة والسلفية الجهادية والقاعدة وداعش، منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وقد خالف ابن تيمية في أيامه جمهور المسلمين فاصطدم مع فقهاء الاحناف والشافعية والمالكية، بل والحنابلة أيضا، كما انتقد الاشاعرة –وهم المذهب الاعتقادي الأغلب لأهل السنة والجماعة- وهاجم المعتزلة والصوفية والشيعة بجميع فرقهم. كان الشيخ ابن تيمية يعتقد بالتجسيم والتشبيه، وينسب الى الله تعالى صفات الاجسام، كالوجود في جهة والاستواء على العرش حقيقة، والحركة والانتقال، وأن الوجه والأعين والارجل المذكورة في بعض الآيات والأحاديث إنما هي على الحقيقة دون المجاز، وقد أكد ذلك الرحالة ابن بطوطة فيما رواه عنه مشاهدة أن ابن تيمية كان يقول على منبر جامع دمشق: إن الله تعالى ينزل الى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر! (1)
وكانت القضية الاخرى التي اصطدم فيها مع جمهور المسلمين هي موقفه السلبي من زيارة النبي المصطفى (ص) والتوسل به، وتكذيبه للأحاديث الصحيحة التي أجمع عليها أهل العلم والحفاظ المشهود لهم بالتضلع في السنة النبوية المطهرة. وقد وسع ابن تيمية الشقاق في هذه المسألة، (وأكثر من جداله فيها، حتى رمى جميع من لا يرى رأيه بالشرك، والمشابهة باليهود والنصارى، والغلو وعبادة القبور، ولم يسلم حتى اصحابه من نيل هذه الألقاب والقذف بها) (2).
ولما كان ثابتا في السنن الصحيحة قول رسول الله (ص): ((من زار قبري وجبت له شفاعتي))، وأحاديث مشابهة اخرى كثيرة، فضلا عما درج عليه المسلمون منذ عصر الصحابة بزيارة القبر الشريف دون ان ينبزهم أحد بعبادة القبور او الشرك، فقد تصدى لهذه الفتنة أحد كبار فقهاء الشافعية في عصره وهو الإمام الشيخ تقي الدين السبكي (ت 756هـ) ورد على مشعلها ابن تيمية في كتاب سماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) اعتبر فيها ان التشكيك في زيارة سيد المرسلين (ص) (مما القى الشيطان على لسان بعض المخذولين، التشكيك في ذلك في قلوب الموحدين، وإنما هي نزعة من مخذول، لا يرجع وبالها الا عليه، ولا يترتب عليها إلا ما ألقى بيده اليه) (3).
وبسبب مواقف ابن تيمية تلك، ثارت عليه ثائرة علماء المذاهب السنية الاربعة، وردوا عليه، واتهموه بمخالفة مذهب اهل السنة في التوحيد والتنزيه. ورغم حماية سلطان المماليك له لفتاواه التي تدعو الى طاعة السلطان حتى وان كان فاجراً او ظالماً، فان سخط العلماء كان شديدا، فوضعه في سجن بقلعة دمشق، ولكن في قاعة حسنة، غير انه مرض مرضا شديداً ادى الى وفاته (4).
كان التكفير اسهل كلمة يتفوه بها ابن تيمية ويحكم بها على مخالفيه، كما هو حاله مع المتصوفة عموماً، ومع الشيخ محي الدين بن عربي خصوصا. والناظر لما نقله ابن تيمية عن ابن عربي يجد أنه لم يرد على لسانه او في كتبه، بل هو تحريف واضح لأقواله حتى يسهل تكفيره واخراجه من الملة!! والشيء نفسه فعله مع الفرق الأخرى.
ولكن ابن تيمية حينما يصل الى فرقة (الآيزيدية) أو (اليزيدية) نراه ناعما جداً ويلتمس لهم الأعذار، بل ويعتبر زعيمهم من أهل السنة والجماعة!!رغم الشبهات التي تحوط عقائد هذه الجماعة ومخالفتها لمباديء الإسلام، كغلوهم في يزيد بن معاوية وتقديسهم لإبليس وغير ذلك من العقائد التي تخرجهم من الدين -حسب ثوابت ابن تيمية- لو كان عشرها موجوداً عند فرق أخرى.
وقد كتب لهم رسالة مطولة سميت (الوصية الكبرى) يبدو فيها ناصحاً وصديقا محباً، فيقول: ( من أحمد بن تيمية إلى من يصل اليه هذا الكتاب من المسلمين المنتسبين الى أهل السنة والجماعة، والمنتمين الى جماعة الشيخ العارف القدوة أبي البركات عديّ بن مسافر الأموي –رحمه الله- ومن نحا نحوهم، وفقهم الله لسلوك سبيله، وأعانهم على طاعته وطاعة رسوله –ص- وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين لصراط الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،…)(5).
فأول ما نلاحظه في مقدمة رسالته هو اعتباره اليزيديين مسلمين ينتسبون لأهل السنة والجماعة، وأن شيخهم عدي بن مسافر (الأموي) (ت 557هـ) هو العارف والقدوة!! وتبحث عن الشيخ عدي فيما قدمه محققا هذا الكتاب فتلاحظ ثناء واطراء على شخصه ورفعه الى درجات عليا من قبل ابن تيمية وتلامذته.
يقول ابن تيمية: (الشيخ عدي، قدس الله روحه، كان من أفاضل عباد الله الصالحين، وأكابر المشايخ المتبعين، وله من الأحوال الزكية والمناقب العلية، ما يعرفه أهل المعرفة بذلك، وله في الأمة صيت مشهور، ولسان صدق مذكور) (6).
وقال عنه الذهبي: الشيخ الامام الصالح القدوة، زاهد وقته، ووصفه ايضاً بأنه شيخ العارفين (السابق، ص 27). بل ان ابن تغري بردي صاحب (النجوم الزاهرة) ينقل عن احد الأقطاب قوله عن الشيخ عدي: لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة لنالها الشيخ عدي بن مسافر!! (7).
ويخلص محققا الكتاب الى أن (عقيدته- الشيخ عدي- المحفوظة عنه لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدمه من المشايخ الذين سلك سبيلهم … وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة)(8).
والسؤال الموجه لابن تيمية وأتباعه: هل يوجد في مذهب اهل السنة والجماعة ما يشير الى تقديس عدي بن مسافر وجعل قبره في لاليش قرب الموصل قبلة لأتباعه، واستحقاقه مرتبة الألوهية؟ وهل عندهم ما يسمى طاووس الملك عظيم الملائكة الذي يعتبر هو (ابليس أو الشيطان) في الأدبيات الإسلامية، والذي لا يجوز النيل منه أو لعنه؟ وهل عند أهل السنة كتاب سماوي يسمى (الجلوة) و(مصحف رش) أو (المصحف الأسود)؟.. والأسئلة كثيرة في هذا المقام، ولا اعتقد أن عندهم إجابة علمية او موضوعية حينما يحاصرون من اهل العلم بالحجة والبرهان، سوى الهبوط الى مستوى متدنٍ من الحوار، فيلجأون الى الافتراء والشتم والتكفير، وهذا ديدنهم منذ عصر ابن تيمية وحتى يومنا هذا!
والسؤال الأكبر لأتباع ابن تيمية سواء منهم من افتى بحلية سبي النساء اليزيديات أمثال الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار (العلماء) في السعودية، أو من نفذ هذه الفتوى كمجرمي داعش الذين اختطفوا مئات النساء اليزيديات وصاروا يبيعوهن في سوق النخاسة، هو: هل اطلعوا على رأي منظّرهم الأكبر -أو شيخ الاسلام كما يسمونه- ابن تيمية وتأملوا في موقفه الايجابي من اليزيديين ام انهم غفلوا عن ذلك؟
وسؤال اخير لمشايخ الوهابية: توجد في المملكة السعودية ودول الخليج العربية الأخرى جاليات كبيرة العدد، منها الوثني كالسيخ والهندوس والبوذيين، ومنها الكتابي كالمسيحيين واليهود … فهل تسري فتاواهم على أمثال هؤلاء، أو هل يمتلكون الجرأة أصلاً على القول بشمول فتاواهم لأمثال هذه الجاليات؟ لاشك عندنا بأنهم لا يفكرون بذلك ولو في الأحلام!..لا بل انهم اقاموا كنائس في بعض دولهم لكي يؤدي فيها المسيحيون صلواتهم، واكثر من ذلك فإن دولة مثل البحرين ترسم السعودية سياستها، وترابط فيها قواتها العسكرية، عينت سيدة يهودية بحرينية سفيرة لها في عاصمة دولة كبرى هي اميركا، رغم ان عدد اليهود في البحرين لا يتجاوز العشرات..كل ذلك إرضاء للوبي الصهيوني المهيمن على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، حتى تغض الطرف عن جرائمها بحق الشعب البحريني وثورته السلمية المطالبة بالإصلاح السياسي!!
فلماذا إذن يتظاهرون بالشجاعة والتمسك الديني على الاقليات الدينية في العراق وسوريا وغيرهما من البلدان العربية، رغم أن هؤلاء مواطنون يضربون بجذورهم في اعماق التاريخ، وعمرهم من عمر الحضارات التي نشأت في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، والتي وضعت فيها اولى القوانين والمعارف العلمية والحضارية والرسالات الدينية، ولكن أنّى لأصحاب (الفقه البدوي) – كما عبّر عنه الشيخ محمد الغزالي- ان يرتقوا لمعرفة الفقه الحضاري؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1- رحلة ابن بطوطة، ج1، ص43.
2- حسين محمد علي شكري: مقدمة كتاب شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، ص6، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009.
3- تقي الدين السبكي: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، ص85.
4- صائب عبد الحميد: ابن تيمية – حياته وعقائده، ص67، ص84، الغدير للدراسات والنشر، بيروت.
5- ابن تيمية: الوصية الكبرى، ص37، تحقيق: محمد النمر وعثمان جمعة ضميرية، مكتبة الصديق، ط1، الطائف، السعودية، 1987.
6- المصدر نفسه، ص27.
7- م. ن: ص28.
م. ن: ص30.
(*)أكاديمي وباحث إسلامي