المغرب يحرر مخطوطًا عراقيًّا نادرًا

360

29-9-2014-7-d

صفاء برهان .. أحيت همّة العالمين المغربيين الجليلين الدكتور أحمد شوقي بنبين، والدكتور محمد سعيد حنشي، مخطوطًا عراقيًّا فريدًا كان يعد من مفقودات التراث الإنساني الثمينة وهو (الدر الثمين في أسماء المصنفين)، لعالم بغداد الكبير تاج الدين أبي طالب علي بن أنجب بن عبدالله بن عمار البغدادي المعروف بابن أنجب الساعي وليد التربة البغدادية في سنة (593ه)، والمترعرع في عصر كثر فيه العلماء والفضلاء، والمتتلمذ لشيوخ كبار تجاوز عددهم 46 شيخا من أشهرهم؛ ياقوت الحموي (ت626ه)، وعمر السهروردي (ت632ه)، وضياء الدين ابن الأثير(ت637ه)، وابن النجّار البغدادي (ت643ه)، وجمال الدين ابن العاقولي (ت728ه)، وعماد الدين ابن النفيس العلوي الكوفي.
كان الرجل من أعيان عصره، وانماز بغزارة التأليف في ميادين العلوم المختلفة كالتأريخ والحديث والتفسير والفقه والأدب، فضلاً عن عمله خازنًا لكتب المدرسة النظامية والمدرسة المستنصرية حتى وفاته ببغداد (647ه). وقد أشار إلى ذلك بعض شعراء عصره قائلاً:
ما زال تاج الدين طول المدى
من عمره يعنق في السير
في طلب العلم ، وتدوينه
وفعله نفع بلا ضير
علا عليُّ بتصانيفه
وهذه خاتمة الخير(1)
منزلة الكتاب:
كتب على تراث العراق أن يعيش محن البلاد ونكباتها، إذ ضاع الكثير منه في أتون الصراعات، وتناثر قسم منه شذر مذر في بلاد الله العريضة، ليركن على رفوف النسيان في مكتبات عامة يتيسر الوصول إليه، على حين اختفى قسم آخر في فجاج المكتبات الخاصة، وبذا يتعسر الوصول إليه ودونه خرط القتاد وبذل العشير والأولاد.
ومن بين ذلك التراث الذي تغرب بعيدا عن بلده العراق (الدر الثمين في أسماء المصنفين)، الذي لو لم يتكلم عنه سوى الأستاذ شاكر مصطفى لكفاه في بيان علو منزلته وأهميته، إذ قال: (لو وصلنا كتاب الدر الثمين لكان ثروة للباحثين والعلماء فهو ثاني كتاب جامع يصدر في هذا الموضوع بعد كتاب الفهرست لابن النديم، وقد كان يغني عن الكثير من البحث)(2)
وهو ما أكده ضابطا الكتاب بقولهما: (من بين هذا التراث المكنوز كنوز ثمينة، ونفائس نادرة، طالما تطلعت إليها همم الباحثين، واشرأبت لها أعناق الدارسين، لكنها كانت تذكر بحسرة في مؤلفاتهم وأبحاثهم على أنها مصنفات مفقودة أو ضائعة، ومن أبرز هذه المؤلفات كتاب الدر الثمين في أسماء المصنفين لابن أنجب الساعي، الذي اشتهر بعنوان أخبار المصنفين، والذي يعد من أمهات مؤلفات هذا العالم الكبير)(3)
ومع أنهما لم يذكرا ظروف خروج هذا الكنز العراقي، ولكنهما سردا قصة العثور عليه هناك قائلين: (ذكر في أكثر من بحث أنه من الكتب المفقودة، وكنا نحن بدورنا نحسبه كذلك، على الرغم من علمنا أنه كان من الضنائن التي تفردت بحفظها خزانة العلامة محمد عبد الحي الكتاني رحمه الله. لكننا لم نقف له على ذكر في فهارس مخطوطات الخزانة الوطنية، قسم الخزانة الكتانية، وبعد الاطلاع على الدليل العام للمخطوطات المحفوظة بالقصر الملكي بمراكش، الذي أنجزه المرحوم محمد عبد الهادي المنوني، تحققت البغية وتيسر الطلب وكانت المفاجأة الكبرى، فقد عثرنا على الكتاب ضمن القسم الباقي من خزانة هذا العالم الجليل المحفوظ هناك)(4)
موضوعات الكتاب:
تكمن أهمية (الدر الثمين في أسماء المصنفين) في قسم كبير من موضوعات السير التي عرضها، فتجلى بذلك (من أهم مصادر التراث العربي التي استقصت أخبار المصنفين وما صنفوه، ويضم أربعمئة وعشرين سيرة من سير المصنفين وأسماء مصنفاتهم، ونتفا من أشعارهم، وطرائف أخبارهم، وقد صدره مؤلفه بمقدمة ضاع قسم كبير منها، وافتتحه بتراجم المحمدين، فبدأ بترجمة محمد بن إدريس الشافعي بوصفه (أول من صنف الفقه ودونه) ثم اتبعه بتراجم من سمي ابراهيم، فالذي يليه حسب ترتيب حروف المعجم)(5)
ومن أهم ما يمكن أن نقف عليه من مزايا الكتاب، هو ذكره لمجموعة مهمة من سير شيوخه الذين ذكروا في درّه وعقمت ما سواه من المصادر عن ذكرها أمثال؛ ابن فضلان (ت631ه)، ومسند العراق ابن الخير الأزجي (ت 648ه)، وأبو الفضائل القرشي (ت 650ه)، وأبو أيمن الكندي (ت613ه)، وأبو المرجى المنجب (611ه)، وابن سكينة الصوفي (ت607ه)(6)، التي غدت عمدة من أعقبه من المصنفين في سير الأعيان، فضلا عن ذلك فقد ضم طائفة مهمة من الأخبار التأريخية، وأخبار بعض المدارس ورباطات العلم وتأريخ افتتاحها، ونبذة غاية في الأهمية عن الشيوخ الذين درّسوا بها، وما سواها من الفوائد التي لا غنى للباحثين في تلك المرحلة التأريخية عنها. والملاحظ على منهج ابن أنجب الساعي أنه لم يتقيد في عرض سير المصنفين، إذ هناك تراجم طويلة شاملة لحياة المصنف، في الوقت الذي توجد سير قصيرة. ويشار الى أن أغلب السير التي وردت في الكتاب كانت لأعيان الشافعية، وربما هذا السبب الذي جعل الشافعي مفتتحا لكتابه.
ولعل الجانب اللطيف والمهم في الكتاب، هو ما يخص أخبار ابن أنجب نفسه، التي لما تزال مفقودة، فقد ذكر فيه لنفسه كتبا نفيسة لا يوجد لها ذكر في غيرها نحو؛ (أخبار أهل البيت)، و(الاقتفاء لطبقات الخلفاء)، و(بغية الألباء في معجم الأدباء)، و(البري من عقيدة المعري)، و(جهد الاستطاعة في شرح نهج البلاغة)، و(الجواهر السنية في المدائح العلائية)، و(حصول المراد من أخبار ابن عباد)، و(الشهود والحكام في مدينة السلام)، و(لطائف المعاني في ذكر شعراء زماني)(7)
كذلك ذكر أخبار غاية في الأهمية عن عدد من المؤلفات التي قرأها، أو تملكها في خزانته الخاصة، أو وقف عليها في خزانتة المدرسة النظامية ببغداد، إلى كثير من أخبار المصنفات وأصحابها التي اتحفنا بها. والخلاصة؛ ف(الدر الثمين في أسماء المصنفين) أثر تأريخي أدبي ووثيقة مهمة تكشف كثيرا عن طبيعة الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية العراقية بخاصة أيام المصنف. بحسب ما أورده معتمدا على مجموعة مهمة من مصادر التراث، وما طالعه في كتب معاصريه، فضلا عن ما سمعه من شيوخه، وما شاهده بعينه ببغداد في القرن السابع الهجري.
عمل الضابطين:
اعتمد الأستاذان في ضبط الكتاب على نسخة فريدة بخزانة القصر الملكي بمراكش تحت رقم 80، وهي من مقتنيات الشيخ محمد عبد الحي الكتاني _ وعليها تملكه_ ابتاعها من تونس عام 1921، ولم تعرف كيفية وصولها هناك، وهي مكتوبة بحبر أسود وخص اللون الأحمر لكتابة أسماء المصنفين، ولم يرد فيها ذكر لأسماء ناسخيها ولا لتاريخ نسخها كما بينته مقدمتهما القيمة.
إن يُتم مخطوط (الدر الثمين في أسماء المصنفين) لم يمنع الضابطين من القيام بإخراج هذا السفر الثمين إلى النور، مع ما واجهت الباحثين (أثناء هذا العمل عراقيل عدة، منها صعوبة قراءة المخطوط؛ لأن الرطوبة الشديدة الموجودة فيه تسببت في التصاق بعض أوراقه، وتداخل بعض أسطره، واندراس بعض كلماته، وانطماس بعض حروفه مما جعل تبين رسم بعضها يكاد يكون ضربا من المستحيل)(8)
وقد ركن الضابطان إلى مراسهما في مجال (ضبط المخطوطات)(9) علميا، فضلا عن الحدس في فك الرموز وحل المشكلات التي تعرضها العبارات التي لا تسعف في إيجاد حلول لها، وما شاب النسخة من تصحيف وتحريف وعلل أخرى، فنقلا النص بطريقة الهجاء الحديثة، وشكْل ما أشكل من أسماء الأعلام وغيرها، وتخريج وتوثيق وشرح ما كان بحاجة إلى تخريج أو توثيق، مع تفادي الإطالة والتكرار وإثقال الهوامش بما لا يفيد. وقد احتفظا بترتيب الأعلام حسب الترتيب الوارد في الكتاب رغم ما فيه من خلل واضطراب. وفي الختام ذيلا عملهما بفهارس عامة مفصلة وهي: فهرس الآيات القرآنية، وفهرس الأحاديث النبوية، وفهرس الأمثال، وفهرس الأشعار، وفهرس الكتب الواردة في المتن.
وختاما فإن ميدان ضبط المخطوطات ليثمن جهود هذين العالمين المتواصلة في إحياء التراث العربي، ومنها هذا المخطوط العراقي الذي نشرته الخزانة الحسنية بالقصر الملكي بالرباط مؤخرًا، وكذلك صنوه (المقابر والمشاهد بجانب مدينة السلام ومواضع قبور الخلفاء أئمة الإسلام) للمؤلف نفسه الذي يعكفان على ضبطه حاليا، في الوقت الذي نثمن تلك الجهود المغربية الكبيرة والمشكورة، نؤكد إن ذلك يجب أن يستنهض غيرة المسؤولين عن الثقافة العراقية نحو أمثالها، بوصفها جزءً أصيلًا من هوية العراق الحضارية والثقافية التي غرّبت عن التراب العراقي شرقا وغربا في أوقات وظروف معروفة كان آخرها بعد 2003 حيث بيعت فيه المخطوطة بأقل من ثمن علبة السكائر.
(1) يمكن تتبع أخبار ابن أنجب الساعي في: الحوادث الجامعة للفوطي: 422، وتاريخ الإسلام للذهبي: 13/ 278، والوافي بالوفيات للصفدي: 20/ 159، و البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي: 13/ 217، وأعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: 8/176،و طبقات أعلام الشيعة لآغا بزرك الطهراني: 3/101.
(2) التاريخ العربي والمؤرخون: 4/307.
(3) المقدمة: 5.
(4) المقدمة: 6.
(5) الدر الثمين في أخبار المصنفين: 5.
(6) ينظر المصدر نفسه: 236، 264، 292، 294.
(7) ينظر المصدر نفسه؛ 4، 6، 143، 190، 134، 289، 231، 38، 1.
(8) ينظر المصدر نفسه: 8.
(9) وهو المصطلح الصحيح الذي يجب أن يطلق على ما اشتهر خطأ بـ(تحقيق المخطوطات)؛ لأن التحقيق في اللغة هو التدقيق، وبذا فتحقيق المخطوطات هنا لا يعدو أن يكون (تصحيحًا) لها، بخلاف (الضبط) الذي هو جوهر عملية إخراج المخطوط للنور بإخضاعه للقواعد والأسس العلمية الحديثة الرصينة.

شبكة زاوية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*