بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية…أكاديميون وأدباء: العربية هي التي شكلت وعينا وثقافتنا
هل كان تحديد الجاحظ لبداية نشأة اللغة العربية صحيحاً؟ وهل لم يُتحدث بهذه اللغة قبل التاريخ الذي حدده، وهو 150 إلى 200 سنة قبل الإسلام، فعلاً؟ ربما هناك أسئلة كثيرة حول نشأة اللغة العربية وكيفية تطورها، من اللغات اليمنية القديمة والآرامية وغيرها من اللغات التي كانت معروفة في الجزيرة العربية قبل المسيحية والإسلام… غير أن بعض الكتب التاريخية تشير إلى أن إسماعيل كان عربياً ويتحدث بلغة عربية فصيحة، وبعض الكتب أوصلتها لآدم، لكن لا يوجد سند تاريخي لهذا، وما دليل الجاحظ على التاريخ الذي حدده إلا قصائد شعراء ما قبل الإسلام وأوائل النصوص التي وصلته.. وبعيداً عن تاريخ لغتنا العربية، إلا أنها كانت المنبع الرئيس لديانات كثيرة، من أهمها الإسلام الذي اعتمدها كمقدس من خلال القرآن، وكونها لغة أهل الجنة حسبما هو مسند في الكتب الدينية، وهو ما أعطاها انتشاراً واسعاً، والعربية من اللغات السبع المستخدمة على شبكة الإنترنت وتأتي بعدها اللغة الفرنسية والروسية. هذا الانتشار هو ما دفع الأمم المتحدة إلى اعتمادها لغة رسمية داخل الجمعية، وفي عام 2012 قررت اليونسكو الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول من كل عام، أسوة باللغات الحية التي تحتفل بها. لكن كيف أسهمت وتسهم اللغة العربية في بناء الوعي والثقافة لدى مجتمعاتنا؟ وما الذي تضيفه هذه اللغة إلى تطور الإنسان والمجتمع وكيفية المحافظة عليها؟
عنصر أساسي
يرى حسن سرحان، الناقد والمترجم وأستاذ اللغة الفرنسية في كلية اللغات، أن التلازم والتداخل وثيق بين اللغة بوصفها، بالأساس، فعلاً تواصلياً، والثقافة من حيث كونها تجلياً ومادةً، والوعي بصفته معرفة ومقصَداً ورقيباً. هذا التلازم وذلك التوافق وثيقان إلى الحد الذي لم يعد فيه مقبولاً اليوم نفيُ تأثير اللغة في مسارات ثقافة الشعوب وتشكيل شخصيتها ووعيها، إلاّ إذا شئنا العودة بالزمن إلى ما قبل انثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس، ذلك أن اللغة هي، في الوقت نفسه، عنصر أساسي يكوّن ثقافة المجتمعات وأداة يحرر بها الفرد نظرته إلى العالم. ويضيف سرحان: في الحقيقة أن خلف كل ممارسة لغوية يوجد بعد ثقافي يحتمي ويلوذ، على مستوى الموضوع كما على مستوى الرمز والإحالة، بالأفراد الذين يتشاركون تلك اللغة ويتقاسمون الثقافة التي تنتجها ويستمدون منها ذريعةً لوجودهم وسبباً لبقائهم وديموتهم ومقاومتهم للفناء والاندثار. «اللغة إذاً ليست واقعةً خارجية تحيا باستقلالية عن الوعي الفردي والجمعي للمجتمعات، بل هي تجسيد مادي ملموس لذلك الوعي وواحد من أهم تمظهراته وتجلياته. لا تملك اللغة أي وجود فعلي لها خارج الوعي الذي تشكله ويشكلها وتؤثر فيه وتتأثر بخصائصه وسماته». مبيناً أنه ضمن هذا المنظور لا تعود اللغة مجرد وسيط يتم من خلاله التواصل والتحاور، بل هي، بحسب نظريات سوسير، تاريخٌ ناقل لوعي وكاشف عن هوية ومعبّر عن انتماء وحامل لموقف ومجسّد لفكر. لا ينتظم الوعي البشري ولا تجدد الثقافةُ اختراعَ نفسها إلا داخل اللغة وبواسطتها.
فرادةُ العربيةِ وعلامتُها الفارقة
حسب رأي أستاذ اللغة العربية في جامعة البصرة علي مجيد البديري، فإن اللغة تؤدي دوراً فاعلاً ومؤثراً في بناء الوعي الإنساني وتشكيله، وهذا أمر جسدته اللغة العربية بشكلٍ واضحٍ جداً في المجتمع العربي في مختلف مراحله التاريخية، عبر ارتباطها الوثيق بالحياة، بوصفها حاضنةَ همومِه وتطلعاته، وأداةَ تواصلهِ الفريدةَ مع الآخر. مشيراً إلى أن قدرةُ العربية على صيانة نفسها كانت من أبرز مزاياها التي انفردتْ بها عن بقية اللغات العالمية، على الرغم من ظهور لهجاتٍ مختلفةٍ ضمن حدودها الجغرافية الواحدة، نتيجة تفاعل العرب ثقافياً مع الأمم الأخرى، والتأثر بآدابها. ويوضح البديري أنه لم يمنع تمتع العربية بمزاياها النوعية هذه من أن تكتسب حضورَها الدائم في الحياة، مواكبةً لما يستجد فيها، فلم تقع في عزلةٍ قاتلةٍ كما حدث في لغات أخرى، ولعل من أجلى صور هذا الانفتاح على الحياة، ما يتمظهرُ في النصوص الإبداعية شعراً ونثراً، قديماً وحديثاً، في مختلف الأجناس الأدبية، المعروفة منها والتي في طور التشكّل والنشأة، وكان وراء كل ذلك هذه السعة والرحابة في مفرداتها وأساليبها وبلاغتها، إذ مارستْ فعلاً تحريضياً للمبدع على التعامل معها بطريقة ترفض الركون إلى الجمود، وترتقي بوعي المبدع ومداركه وقدراته إلى مستوى الرؤية المتجددة/ المتحركة. ويفرض هذا الأمر على المبدع أن يعنى بالإفادة من تجارب الآخرين المتراكمة عبر تعاقبها الزمني في تعاملهم مع اللغة، بمعنى أن تمتلك رؤيتُه وقراءتُه امتداداً مفتوحاً على أزمنة التجارب السابقة المتحققة أو المحتملة في المستقبل. ولا أظن أنَّ هذا الفهم كان بعيداً عن ذهن أحد المستشرقين وهو يسجل خصوصية اللغة العربية بقوله عنها، إنها بدأت فجأة في غاية الكمال، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر فليس لها طفولة ولا شيخوخة.
لغة تراكمية
يسعى الروائي خضير فليح الزيدي في حديثه مع صحيفتنا لتقسيم اللغة إلى تقنياتها، فيبين أنه غالباً ما توصف اللغة بأنها خطاب.. فيما الكلام يوصف بكونه علما بأقسام.. هناك في عالم اليوم من اللغات الحية المعاصرة التي تكون فعالة في تعاطيها مع تدفق محفزات الوعي بإيجابية وانسجام ظاهري أو غير ظاهري، إذا كان شكل التعاطي مع تنمية وتحريك هيكلية اللغة بكل منجزاتها وخزينها المفرداتي في إسقاط وعزل ما هو متخفي أو متجمد ﻻ ينفع في دفع عجلة تطور المحتوى اللغوي المكون لخطابها للتناسق واﻻنسجام، مع اندفاع قدرة الوعي للانسجام مع الفضاء المحرك لدينامية المعاصرة في لغات أخرى شبه معطلة لدينامية اﻻنسجام مع وعي العالم المتجدد مع حركة الزمن، «لكن تبقى قدرة الوعي العالي للاكتشاف والتحليل واﻻستنباط في كل اللغات الحية والميتة أو المتعطلة، هذه اللازمة بين الوعي واللغة تكون منتجة إذا كانت اللغة ذات أفق حي يتعامل بايجابية مع معطيات الحضارات المجاورة.. وقدرتها على التجدد ومواكبة تطورات العصر ومعطياته العلمية». ويعطي الزيدي مثالاً على ذلك بقوله إن اللغة الإنكليزية؛ مثلاً تُسقط سنوياً من معاجمها ما يقرب من (500) مفردة ميتة.. العربية (لغة الضاد) توصف باللغة التراكمية التي يمكن للناطق العاشق لها التغزل بكل مفرداتها من دون خوف من ضعف أو موت بعض مفرداتها. ويضيف: ﻻ يمكن أن أحكم على موت أو حياة لغة ما ينطق فيها ويستخدمها هذا الكم الكبير من البشر.. لكن تبقى إشكالية الثقافة ولغة العرب مستندة إلى القدرة في قراءة التراث اللغوي للعربية بمنهجية معاصرة، وذات معطيات مؤثرة في تجديد روح الخطاب، لوعى يتجانس في قراءة العالم بمعزل عن فكرة التقديس المجحفة واﻻنضباطية المقيتة في إحياء المنتج المتفاعل بعيداً عن الفكرة القديمة للبلاغة اللغوية، واﻻنتقال إلى فكرة بلاغة الصورة الكلية للخطاب اللغوي ومعقوليته ووعيه للتراسل بين مستخدمي تلك اللغة.
محنة مثقفين
الشاعر جواد غلوم يؤكد أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم والحوار فقط، بل هي جسر للوصول إلى الوعي الأرقى. اللغة تسمو بالإنسان إلى أن يكون قريباً من الكمال إذا أحسن استخدامها. وقديماً كانت اللغة العربية قناة للوصول إلى الحضارة الإنسانية بعد أن دخلت الأقوام المختلفة في خيمة الإسلام، فصارت تنطق بها ألسنة العلماء والأدباء الكبار.. «اللغة العربية طيعة ومرنة، وحبذا لو أحسن استخدامها وبعدت عن الوحشي من الكلمات والغريب والشذوذ في القواعد لنضعها في طبق جميل كمائدة لجيلنا الحالي ليتحسس مذاقها ويزيد معارفه منها ويتسع في وعيه، إننا الآن بأمس الحاجة إلى تربويين حاذقين لإعادة ترتيب دراسة القواعد العربية وتسهيل إيصالها لجيلنا الحالي كي يستسيغ حلاوتها ويأنس بها وبآدابها»… ويطالب غلوم بأن نطمر أساليب التعليم العسيرة الفهم ومآزق النحو السالفة والبلاغة التي تبعدنا عن السلاسة والتذوق السليم فلا يبنى وعي على قواعد متخشبة متآكلة قديمة، بل لابد من تحديث اللغة لتلبس حلّة المعاصرة. وكذا الحال في تصعيد وإنماء الثقافة التي أساسها اللغة. و«كم يحزنني وأنا أسمع بين الفينة والفينة أدباء ورعاة ثقافيين يمتد بهم الزلل فلا يعرفون البناء الإعرابي للكلمات، فكيف الحال بالإنسان البسيط الذي نريد زيادة وعيه الثقافي؟ ولا أغالي إذا قلت إننا في محنة حقاً ما دام من يسمون أنفسهم مثقفين وهم يجهلون أسرار لغتهم ولا يعرفون مسالكها الجميلة ومواطن البلاغة والارتقاء فيها. علينا أن نبحث عن رعاة ثقاة حقيقيين كي يمسكوا زمام الوعي لينشروا لغتنا ووعينا الثقافي بصورة سليمة».
تحديث العربية
في حين يرى الشاعر حمدان طاهر المالكي أن أي لغة تعبر عن ثقافة وتاريخ الأمة، واللغة العربية من اللغات الحية ذات المضامين والمفردات التي تحتوي على جوانب بلاغية وجمالية عالية، وربما هي أكثر اللغات العالمية التي تعرضت إلى محاولات للمحو والتشويه. وعلى مثقفي هذه اللغة والناطقين بها من المتعلمين، مهمة حضارية كبيرة في صياغة خطاب حضاري ثقافي فكري يسلك بها الطريق نحو تكوين علاقات إنسانية وثقافية. ويبين: «اللغة العربية بما تكتنزه من تراث ضخم قادرة على أن تكون في مقدمة اللغات شريطة توفر المقومات وهي وجود المثقف المفكر الذي يستطيع أن ينهي العلائق القديمة ما بين اللغة القديمة غير المتداولة إلى صياغة خطاب حداثوي يتواءم مع مستجدات العصر الحالي مع الحفاظ على ثوابت اللغة».
صفاء ذياب/القدس العربي