الرشوة .. الإخطبوط الذي مدَّ اذرعه فـي معظم مؤسسات الدولة
كانت كلمة (مرتش) حين تقترن بشخص ما فهي كافية لتضعه أسفل سلم التوصيف الأخلاقي في المجتمع، ويذكر البعض منا أن الاختلاس أو سرقة المال العام كان يلقى ردعاً يصل لحد الفصل من الوظيفة فضلا عن التغريم والسجن أحيانا كثيرة.
بل أن تهمة الرشوة او الاختلاس كانت تعد جريمة مخلة بالشرف ضمن مقاسات المجتمع وأخلاقياته.
اليوم اصبح غير المرتشي يعد جاهلاً ولايدرك أهمية الفرصة التي أتيحت له، فأصبحت الرشوة سهلة والفساد الإداري والمالي يجد من يبرره.
بعض الموظفين يتصرفون في ممتلكات الدولة كما لو كانت ممتلكاتهم الشخصية.. يمنحون فلانا ويحجبون كل شيء عن الاخرين.. يمنحون المال والأراضي والامتيازات لمن يحبون….اختفت الفوارق بين الخاص والعام ولم تعد تعرف حدود المال العام من المال الخاص.. ولو أن واحدا من المرتشين وأصحاب قضايا الفساد المالي يعيش في دولة غير العراق لتحفّظ عليه القضاء.. يستجوبونه ويتحفظون على أوراقه ومستنداته وتعاملاته المصرفية في محاولة لاستعادة الأموال التي سرقت وصرفت من دون وجه حق.
من حُسن الحظ أننا نعيش في العراق، حيث ترفع الحكومة شعار “المسامح كريم”.. و”عفا الله عما سلف” هي القاعدة.. و(مشّي) هي القانون.
موظفون رفعوا شعار المصلحة الشخصية والتي أصبحت أهم ألف مرة من المصلحة العامة.
هؤلاء ينتشرون في كثير من الأماكن والمواقع، ويديرون الأمور بمنطق (نفعني وأنفعك)، لا يتراجعون ويزدادون قوة وإصراراً.
انظر حولك، ستجدهم ينتشرون ويتغلغلون ويفرضون سطوتهم وقوانينهم، ويخلقون عالماً جديداً، يعتمد نظرية (الشطارة)، في أسوأ صورها. بعض الموظفين صاروا أكثـر جشعاً واستغلالاً للنفوذ والمحسوبية، وصاروا أكثـر استعداداً للخداع والرشوة وسرقة المال العام، وتلك هي أمراض النخبة السياسية التي انتقلت للآخرين..
إيجاد قوانين وتعليمات واضحة وشفافة
المواطن أبو نجمة يروي لـ( المدى ) : لقد اشتريت سيارة حمل من احد الأشخاص من محافظة الكوت وبعد صدور القرارات الخاصة بتحويل لوحات المركبات تقدمت بطلب لغرض التحويل وطلب مني جلب براءة ذمة من قبل صاحب المركبة الأصلي والمشترى. وحصلت على براءة الذمة من دائرة ضريبة الأعظمية بدون إن ادفع إي مبلغ . أبو نجمة أوضح : عندما راجعت ضريبة الكوت لغرض الحصول علي براءة الذمة طُلب مني مبلغ 100 إلف دينار لغرض انجاز المعاملة الخاصة لصاحب المركبة الأصلي وفي حال الرفض فممكن الحصول على براءة الذمة عن طريق البريد ، وأُجبرت على الدفع وحصلت على براءة الذمة . أبو نجمة دعا إلى إيجاد قوانين وتعليمات شفافة وواضحة أمام أنظار الموظف أولاً والموطن ثانياً للحد من ظاهرة الابتزاز.
في حين يشير المواطن سجاد عباس لـ( المدى ) وهو صاحب محل مواد غذائية في بغداد رفض الكشف عن تحديد المنطقة : يزورني موظف الأمانة بين فترة وأخرى لغرض الحصول على جباية المحل والخاصة برسوم المهنة والإعلان وحين أتعذر وأنا صادق بقولي بعدم الدفع الفوري في الوقت الحاضر بسبب عدم وجود القدرة المالية أدخل في دوامة تنفيذ القوانين مما يضطرني إلى الاتفاق على موعد آخر يدفع مبلغ محدد له( شخصياً ) والآخر يسجل في الوصل الرسمي . سجاد يتساءل كم يجني موظف الجباية من أموال يومياً وكيف يتم الحصول على هذا المنصب وهو له القدرة على الاتفاق مع معظم أصحاب المحال.
عدم وجود وعي ضريبي
المحامي احمد علي هو وكيل عدد من أصحاب العقارات يوضح لـ( المدى) : إن قضية ابتزاز الموظف في دوائر الضريبة وحرص الإدارة العامة على مكافحة الفساد كما يعلنها مديرها العام ومن خلال وضع العديد من المنشورات الإعلانية للبلاغ عن أية حالة فساد لا تكفي . بسبب عدم وجود وعي ضريبي لدى المواطن حيث يعتبر أن دفع الضريبة هي حالة من حالات (الإتاوة الحكومية ) في حين انها تعد من أهم واردات الدولة المالية لكن هذه هي قناعة الفرد العراقي في الوقت الحاضر.
احمد أشار إلى أن المخمنين للعقارات يحصلون على إيرادات شهرية تفوق ما يتقاضاه اي موظف في الدولة وان العمل الضريبي غير شفاف وتعوزه القوانين التي تنظم العملية والمطلوب من القائمين على هيئة الضريبة الاستفادة من قوانين الأنظمة الضريبية لبعض البلدان المتقدمة لدراستها والاستفادة منها في استحداث قانون ضريبي يعالج كل المشكلات الضريبية . احمد دعا إلى متابعة أوضاع الموظفين قبل وبعد إن يتم تعيينهم في هذه المواقع ونقارن المكاسب التي حصل عليها وان يكون ذلك من خلال لجان الكشف ( من أين لك هذا ) وعلى الحكومة الجديدة والبرلمان بالإسراع في تشريع مثل هذه قوانين.
خلل كبير في النظام الضريبي
و تفشي الفساد في المؤسسات الضريبية يعود الى وجود خلل كبير في النظام الضريبي العراقي ولاسيما بمجال العقارات لأن الأمر موكل إلى المخمنين الذين يدفع لهم من صاحب العقار أو المستفيد من العملية ليتم تقدير العقارات بأقل سعر، وان بعض المخمنين يبقون في أماكنهم لمدة طويلة جداً لأنهم يدفعون الى من يبقيهم في هذه الأماكن.
تسجيل المركبات والقرارات المفاجئة
المواطن سيف طلال هو الآخر يروي لـ( المدى) عن قضية امتدت إلى أربع سنوات حينما اشترى سيارة من شخص ودفع ثمنها وقام بالإجراءات الخاصة بالمكاتبة المرورية المعروفة أصلا وعلى غرارها يسمح له بالتجوال في عموم محافظات البلاد . سيف يقول أن صاحب المركبة الأصلي غير موجود في داره فقد غادر البلد ولا امتلك أية معلومات عنه داعياً دائرة المرور إلى إيجاد حلول ضرورية لحل مثل هذه الإشكالات من خلال القضاء أو إعادة تشكيل محكمة المرور التي كانت تعالج مثل هذه الأمور سابقاً وان لا نبقي تحت الابتزاز والصرف المتواصل من أجل حل لهذه القضايا.
التعامل بشكل معلن في إنجاز المعاملة
في حين يشير خلدون قاسم 34 عاماً لـ ( المدى ) أن أي مواطن ومن لديه معاملة تضطره إلى مراجعة أية دائرة حكومية وخصوصاً الدوائر التي يكون تماسها مباشر مع المواطن كالضريبة والمرور والجوازات ومراكز الشرطة و المستشفيات وغيرها من الدوائر تنتشر فيها ظواهر الفساد الإداري والمالي. خلدون أشار إلى استغرابه من عدم الخوف والتعامل بشكل معلن في انجاز المعاملة وهذا شيء مخيف ومرعب وان بعض الموظفين ليست لديهم أية رحمة في تعاملاتهم مع الناس ويستخدمون مختلف الطرق والأساليب الملتوية التي من شأنها عرقلة أي معاملة حتى يكون مضطرا لدفع الرشوة. خلدون يروي أنه زار لبنان مؤخراً ولغرض الحصول على تأشيرة دخول يجب على أي مسافر أن يشترى طابعا بريديا بقيمة 37 دولارا ويسلم إلى ضابط الجوازات ويوضع على الجواز ( اى يعنى هناك إيراد للدولة ) .
إيقاف القوانين والتعليمات التي تسهل عملية الابتزاز
المهندسة سناء محمد 52 عاماً رفضت الكشف عن مكان عملها أوضحت للمدى انه يجب ان يتعاون الجميع للحد من ظاهرة الرشوة المتفشية في المجتمع، وليس عيبا إن نتحدث وننتقد هذه الحالة الملموسة في اغلب الدوائر الحكومية بهدف معالجتها والقضاء عليها، فالبيروقراطية والروتين الزائد الذي تتعامل بها الدوائر والموظفون يسبب إرباكا للمواطن ويضعه في دوامة المراجعات التي قد تستمر أسابيع أو فترة زمنية طويلة والعمل الجاد على إيقاف القوانين والتعليمات التي تسهل للموظف الحكومي عملية الابتزاز . وملاحقة من يتعاملون وبشكل علني في متابعة قضايا المواطنين في دوائر التسجيل العقاري والضريبة والمعروفين (المعقبين) الأمر الذي يجعل أصحاب المعاملات يبحثون عن المعقبين والمرتشين المتواجدين في أبواب الدوائر الحكومية من اجل اختصار الوقت وتجنب المراجعات المتكررة.
الخوف الذي يواكب المسؤول
سناء أوضحت إن غياب سلطة الرقيب والمسؤول والخوف في محاسبة المفسدين لغرض إحالة لمرتشين إلى الأجهزة القضائية، تعد من الأسباب الأساسية التي ساهمت في تفشي هذه الآفة الخطيرة .. مقترحة استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في انجاز معاملات المواطنين والابتعاد عن الأساليب البالية التي مازالت تستخدم في العراق منذ عشرات السنين، إضافة إلى حث الموظفين وتوعيتهم من خلال دورات تثقيفية وتطويرية على أهمية النزاهة والشعور بالمسؤولية الوطنية التي تحتم مراعاة مصالح الناس والدولة.
خيرا في المرحلة القادمة للقضاء عل هذه الظواهر الشاذة
الدكتور الاختصاص نجم عبد الكريم يوضح أن أسباب تفشي ظاهرة الفساد والرشوة هي انتشار الوسطاء في الدوائر الحكومية لترويج معاملات المواطنين مقابل أجور مادية تستوفى دون وجه حق. عبد الكريم أشار إلى أن هذا الأمر أصبح معتادا وكأنه إجراء أصولي بعد اعتماد الدوائر الحكومية على آليات وطرق عمل قديمة أصبحت تثير امتعاض المراجعين بسبب بطء الانجاز وازدحام المراجعين لهذه الدوائر . موضحا إن حلقات الفساد والمرتشين توسعت لتصل إلى المناصب العالية في بعض المؤسسات الحكومية كما رافقت إجراءات تسهيل المعاملات عمليات التزوير التي طالت مصالح المواطنين والمؤسسات الحكومية . موضحاً : أنى أتأمل خيرا في المرحلة القادمة للقضاء عل هذه الظواهر الشاذة لاسيما أن هناك عملا جادا لكشف جميع حالات الخلل ومعالجتها .
بنايات غير مؤهلة لاستقبال المراجعين
مدرس اللغة العربية احمد كيطان في إعدادية السويس يروى للمدى : عندما طلب مني الحضور إلى دائرة التسجيل العقاري لغرض تنظيم عقد الشراء استغربت من البناية الغريبة التي لاتتسع لعشر المراجعين وهي عبارة عن عمارة سكنية مما يثير الكثير من التساؤلات وهي دوائر الضريبة والتسجيل العقاري وكتاب العدول حيث أن معظم هذه البنايات وغيرها من الدوائر الحكومية غير مؤهلة لاستقبال المراجعين الذين ينتظرون ساعات وهم يتزاحمون على شباك صغير يجلس خلفه الموظف الحكومي الذي يفتقر إلى ثقافة التعامل مع المراجع وينظر إليه بدونية كما تشيع العلاقات الشخصية والوساطة بين الموظفين على حساب طوابير المنتظرين دون رقابة او محاسبة تمنع ظواهر الرشوة لذا أطالب جميع الدوائر التي لها علاقة مباشرة مع المواطنين بإيجاد مواقع مناسبة تليق بهم .
إنجاز المعاملة متروك لحجم الهدية
لطيف محمود 61 عاماً ، معقب للعديد من الدوائر ومنها الضريبة والتسجيل العقاري يبين لـ ( المدى ) أن الكثير من التفاصيل الإدارية إضافة إلى علاقاتي السابقة ببعض زملائي من الموظفين ، فقد كنت موظفا وتخصصت بهذا المجال، ولا اخفي عليكم أنها مهنة صعبة ومتعبة لكني مضطر للقيام بها كوني بحاجة إلى المال إضافة إلى إني املك وقت فراغ يمكنني إن استغله للحصول على المال . لطيف يقول :أنا لا اجبر المواطن ولكن هناك العديد منهم لايرغب بمراجعة الدوائر فانا أتولي مهمة أنجاز المعاملة مقابل ثمن يتفق عليه واما عن قضية تسهيل والتسريع في انجاز المعاملة فهذا متروك وحجم الهدية المقدمة للموظف.
المحامي أوس أركان وهو متواجد في محكمة الأعظمية يوضح لـ( المدى ) انه لا يوجد في قانون الخدمة الوظيفية ما يشير إلى وظيفة تدعى “معقب” وأنهم ينافسوننا في عملنا، فتعقيب المعاملات ومتابعتها هي مهمة المحامين الذين يجب إن يحصلوا على وكالة قانونية من صاحب القضية أو المعاملة مصدقة من كاتب العدل، لذا فالمعقبون ليست لديهم صفة قانونية بل هم يمتهنون مهنة اقرب ماتكون إلى “الدلالة” كونهم يعرضون خدماتهم وفق أجور مختلفة وسياقات مختلفة . أوس طالب بتشريع فقرة في القانون العراقي تمنع ممارسة التعقيب كمهنة كونها تشجع على الفساد الإداري واستغلال المواطن حيث تصل أسعار بعض المعاملات في التعقيب إلى الملايين وبعضهم يخدع المواطن بالوعود الكاذبة .
المدى