ديواني ينتحر بسبب فقره .. والحكومة تعوِّل على مشروع المطار لإنقاذ شبابها من البطالة
أضمر المواطن عباس مهدي (44 سنة)، في نفسه نية عند المساء، بعد أن دب اليأس في سرائره من حصوله على فرصة عمل تكفل له رؤية أطفاله الخمسة يلبسون جديد الثياب في مدارسهم أو الاعياد، فقرر الحصول على موعد من الموت، لينهي عذاباته في عجزه عن تأمين متطلبات أسرة أسكنها مضطراً في بيت من الصفيح، ليودع شهادته الجامعية ويتركها معلقة وسط شهادات ملايين الخريجين من أقرانه.
ويبدو أن ما بيّته واقع لا محال، فانتظر خروج أبنائه إلى مدارسهم، وطلب من زوجته الخروج من البيت لزيارة مرقد الإمام الحمزة الشرقي (يبعد 30 كم جنوبي مدينة الديوانية)، لكنه أخفق باقناع ابنته، لطيفة (11 سنة)، بتركه، لتكون أول شاهد عيان تروي ما حصل، فدخل الى غرفة كان يتخذها استقبالاً لضيوف لم ير أحداً منهم ذات يوم لفقره، جلس وسطها، وأخرج مسدساً صوتياً كان هدية من أحد زملاء دراسته يحتفظ به من سنين عدة كذكرى، لكنه كان كافياً ليقتل نفسه بدلاً من الفقر، ليفجع طفلة صغيرة لم تصدق حتى اللحظة هول ما شاهدت من منظر الدماء، ودماغ ابيها متناثر على جدران الغرفة، وأم اكتفت باحتضان صورته تلعن الفقر ومن تسبب به لشعب تنهب ثرواته في كل يوم، ومجهول سيواجه مهدي ابنه البكر في كفالة معيشة من بعدما اصبحوا ايتاماً بلا معيل.
وتقول الطفلة لطيفة عن احداث ذلك اليوم، في حديث الى (المدى برس)، إن “أبي كان ينظر في وجوهنا بشكل مختلف عن باقي الأيام، خرج اخوتي الى مدارسهم في الصباح، إلا انا كان دوامي ذلك اليوم ظهراً، فطلب من أمي أن تذهب لزيارة الامام الحمزة، لتدعوا الله ان يجعل لنا مخرجاً ويفتح لنا باب رزق، فاقتنعت والدتي وخرجت، فطلب مني الخروج الى بيت خالي، لكني لم اوافق، وبعد قليل دق ابن خالي الصغير بابنا، لكنه سرعان ما بدأ البكاء، فطلب مني اخذه الى بيت أهله”.
صمتت الفتاة لبرهة، والعبرة تخنق كلماتها، ودمعتها تخرج بغير موعد، ممزوجة بالحسرة والألم، وبغصة تمكنت من نطق كلمتين “أشتاق لأبي”.
وتوضح الفتاة أنني “أخذت الطفل الى بيته وعدت مسرعة، فشاهدت ابي يدخل الى غرفة الاستقبال ويسد بابها خلفه، وما هي إلا دقائق حتى سمعت صوت اطلاقة مسدس، فركضت الى الغرفة، فوجدته ملقياً على وجهه والدماء تسيل من رأسه، وأشياء بيضاء وحمراء متناثرة على الجدران، ناديته فلم يرد على ندائي، حاولت أن أوقظه من دون جدوى، فهرعت الى بيت خالي الذي كان في العمل، فاتصلت به زوجته وأخبرته بما حدث، فجاء مسرعاً بسيارة أجرة، لكن سرعته لم تكن كافية ليصل بأبي الى المستشفى حياً”.
من جانبه قال الابن البكر للفقيد مهدي،(14 سنة)، في حديث الى (المدى برس)، إن “أبي لم يترك باباً إلا وطرقه، بحثاً عن تعيين أو وظيفة حكومية، وعمل في جميع الأعمال ليؤمن لنا طعامنا، وكان يكد بجد قبل الأعياد أملاً في أن يلبسنا جديد الثياب كسائر الأطفال من دون جدوى، وكان يعتذر منا في صبيحة الأعياد لعدم قدرته على اعطائنا العيدية”.
ويتابع الفتى مهدي، أنني “كنت اخرج في كل يوم من المدرسة مسرعاً لأضع كتبي، واذهب الى سوق الجملة لأعمل حمالاً، أملاً في كسب الفين أو ثلاثة آلاف دينار لاساعده في تدبير أمورنا، وتأمين طعام اخوتي الصغار، على الرغم من ضحك كثير من التجار الذين اعمل لديهم عليّ بعدم اعطائهم اجرة التحميل بعد أن انتهي منها”.
وأعرب مهدي عن خشيته من “الأيام المقبلة، فقد تجبرني على أن اترك دراستي لاتمكن من إدارة شؤون المنزل وتوفير متطلبات وحاجات اخوتي”، مضيفاً “وصلت الى قناعة بأن الشهادة التي علقها أبي لم تقدم لنا شيئاً بمدينة يعد الفقر عنوانها، بل كانت السبب في أن نبقى على حالنا ونفقده من حياتنا ونحن بأمس الحاجة اليه”.
وفي غرفة خلت من كل شيء، جلست أم الضحية عباس، تندب فقيدها ومعالم الحزن واللوعة تخيم على مشاعرها، لتضيع منها الكلمات.
وتروي أم عباس، قصة ابنها في حديث الى (المدى برس)، أن “ولدي تخرج من كلية الآداب علم النفس، كان متميزاً ومتفوقاً، وكان يحلم بأن يكون لديه بيت وأسرة، قضى معظم أوقاته بالصلاة والعبادة، حتى نال منه الفقر واليأس، بعد أن سعى في كل اتجاه وطرق جميع الأبواب أملاً في الحصول على فرصة عمل أو وظيفة، من دون جدوى”.
وتضيف أم عباس، أن “اخوته كانوا يساعدوه بقدر ما يستطيعون على الرغم من أنهم ليسوا بأحسن حال منه، فكل منهم منشغل بمصيبته وفقره ومسؤولياته تجاه أسرته”.
وأوضحت أم عباس، أن “ابنها مهدي بنى لأسرته منزلاً من الصفيح، وسقفه بجذوع النخل وسعفه، حتى منّ عليه أحد الخيرين وبنى له غرفة، ووضع لبيته باباً وسياجاً”، متساءلة “كيف مات ولدي وكيف انتحر وهو يخشى الله ويخافه، لن أصدق أنه اقدم على قتل نفسه ليفجعنا ويخلف أرملة مريضة وأيتاماً لا يعرفون كيف سيمضون بدنيا لا رحمة فيها ولا شفقة”.
وفي زاوية تصفها الأسرة بالمطبخ، كشف صوت البكاء زوجة الفقيد، التي اتخذت لنفسها ستراً لحدادها على زوجها، مكتفية بما سمعته من روايات أسرتها لتعيد اليها الذكريات، ليروي أخوها عباس عيسى، أحداثاً عدة قد تكون مقدمات لانتحار عباس مهدي، وتأكيد على أنه ليس أول المنتحرين في القضاء جراء الفقر.
ويقول عيسى، في حديث الى (المدى برس)، إن “الفقيد يمتلك مسدساً صوتياً، كان هدية من أحد زملائه في الكلية، والمصيبة أن المسدس صوتي فقط، لكنه يبدو قد خطط لفعلته وحوّره ليكون سلاح انتحاره”، ويشير الى أنني “كنت أول الواصلين اليه وجدته ملقياً على وجهه غارقاً في دماء رأسه، ونبضه ضعيف جداً ويتنفس بصعوبة، فحملته الى سيارة أجرة وقبل أن نصل الى المستشفى فارق الحياة”.
ويستدرك عيسى، أن “تقرير الأدلة الجنائية وجد إطلاقة المسدس التي اخترقت رأسه لم تتجاوز الجدار”، مبيناً، أن “الفقيد لم يكن الأول في قضاء الحمزة، ومواطنيه شهود على حالات انتحار عدة سببها الفقر والعوز والحرمان لانعدام فرص العمل في عموم المحافظة”.
من جهته قال محافظ الديوانية، عمار المدني، في حديث الى (المدى برس)، إن “الديوانية تعاني الفقر والإهمال وغياب مصادر التمويل الاقتصادية والسياحية والاستثمارية، خاصة وأن المحافظة لا تمتلك سوى خصلتين للأسف لم نتمكن لغاية الآن من الاستفادة منهما، إنها محافظة زراعية وغياب دعم القطاع الزراعي سبب هجرة مخيفة من الأرياف الى المدن”.
وأوضح المدني، أن “الموقع الستراتيجي المتميز للديوانية في قلب الفرات الأوسط والخط الرابط بين محافظات الجنوب والشرق بالوسط وغرب العراق من خلال الطريق الدولية السريعة، الذي كنا قد اخترنا عليه عدة مشاريع استثمارية ستسهم في الحد من الفقر وغياب فرص العمل في المحافظة، ومنها مشروع مطار الديوانية التجاري للشحن الجوي، الذي سيناقش في مجلس الوزراء الثلاثاء المقبل”.
ويأمل المدني، أن “يكون المشروع بوابة لتغيير واقع الديوانية ومواطنيها، من خلال عدة مشاريع مصاحبة للمطار ومنها منطقة الإخراج الكمركي والمدينتين التجارية والصناعية”.
ويتابع المحافظ، أن “الحكومة المحلية تنتظر تصويت مجلس الوزراء على مشروع المطار التجاري في المحافظة بعد أن أبدى جميع الوزراء موافقتهم المبدئية للتصويت لصالح الديوانية”.
وأشار إلى أن “حكومة الديوانية أجرت خلال الايام الماضية جولة لقاءات بعدد من الوزراء ورؤساء الكتلة النيابية، على أمل اقناعهم بالتصويت على مشروع المطار الاستثماري، وخرجنا بنتائج طيبة ستسهم كثيراً في تحسين واقع الديوانية الاقتصادي”.
وكانت مصادر في الطب العدلي بمحافظة الديوانية، كشفت، عن أن زيادة حالات الانتحار في المحافظة ناجمة أغلبها عن الفقر وغياب فرص العمل، إضافة الى المشاكل الاجتماعية وتأثير ما تعرضه بعض الفضائيات من مسلسلات وأفلام تروّج الى الانتحار.
المصدر “المدى برس”