القمح يبذر بذور الاستياء في أراضي العراق المدنّسة بإرهاب داعش

352

21-1-2014-S-29

    بينما كان موسم زراعة القمح يسدل ستائره في العراق مطلع الشهر الماضي، كان القلق ينمو بين الزراع في المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش الارهابي.

وقال قرابة 25 مزارعا أنهم لم يزرعوا كمية البذور المعتادة إما لتعذر وجودهم في أرضهم وإما لافتقارهم للسماد اللازم أو الوقود الكافي أو لأنهم لا يضمنون أن تشتري داعش محاصيلهم كما تفعل بغداد في العادة.

والآن يخشى المزارعون والمسؤولون العراقيون ومسؤولو الأمم المتحدة أن يكون المحصول هزيلا بشدة هذا الربيع. فهذا من شأنه أن يتمخض عن مئات الآلاف من الجوعى. لكن الخاسر الأكبر سيكون هو تنظيم داعش الذي يسيطر على أراض تنتج عادة ما يصل إلى 40 في المئة من محصول القمح العراقي.

فالتنظيم الذي انشق عن القاعدة وأعلن خلافة إسلامية في أجزاء من سوريا والعراق الصيف الماضي قتل الآلاف ودفع مئات الألوف للنزوح عن ديارهم وكان يأمل في إنتاج محصول قمح وفير يبرهن أنه أقدر على الحكم من الحكومات العربية التي يصمها بالكفر. وكان قد نشر كتيبات تحوي صورا لحقول قمح ذهبية ومقاتلين يوزعون الطعام.

وقد لا يتسبب ضعف المحصول في فقدان التنظيم أراضي من التي يسيطر عليها لكنه سيؤثر بقوة على حملته التي يسعى خلالها لأن يظهر بمظهر الحكومة البديلة ويضر بمصداقيته بين أهل السنة الذين ينتمي إليهم.

ولطالما شكا الزراع العراقيون من إهمال بغداد لهم وسوء إدارة قطاع الزراعة الذي ازداد تضرره جراء العقوبات الدولية والغزو الأمريكي. لكن كثيرا من المزارعين يقولون إن هذا الموسم هو الأضعف على الإطلاق.

وعبر الحدود في سوريا حيث تسيطر داعش على مدينة الرقة منذ مايو أيار 2013 انخفض محصول القمح العام الماضي بما يقرب من 70 في المئة عنه قبل الحرب الأهلية حسبما تفيد أرقام منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو).

  ويقول المزارعون السوريون في المناطق التي تسيطر عليها داعش إن الإنتاج تضرر من الصراع وقلة الأمطار ونقص الوقود. وباح كثيرون لرويترز بأن داعش لا تساعد الزراع ولا تشتري محصولهم كما كانت الحكومة السورية تفعل. ويقول المزارعون إنهم مجبرون الآن على السعي وراء مشترين جدد وغالبا ما يسقطون في براثن وسطاء جشعين.

 ولا يتمكن مسؤولو الأمم المتحدة والحكومة العراقية من الوصول لمعظم أنحاء العراق لذا لا يستطيعون إعطاء توقعات دقيقة لمحصول القمح في البلاد لعام 2015. وسيبدأ المزارعون الحصاد في نيسان وسيتحدد مستوى الإنتاج وفقا لأحوال المناخ التي تقول وزارة الزراعة الأمريكية إنها مواتية جدا حتى الآن كما سيعتمد على مدى تمكن الزراع من الوصول لحقولهم.

والزراعة متوقفة أيضا في قطاعات واسعة من الحزام الريفي المحيط ببغداد أو لأن الزراع يخشون  القنابل والعبوات التي خلقتها داعش.

لكن القلق الأكبر في شمال العراق. ويستدل من اللقاءات مع مزارعين بقوا في أراضيهم أو غادروها إلى كردستان أن قلة قليلة من المزارعين في مناطق القمح بالأجزاء الخاضعة لسيطرة داعش هم الذين يمكنهم الزراعة على النحو المعتاد.

تؤكد هذا صور التقطتها إدارة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) ووزارة الزراعة الأمريكية بالأقمار الصناعية في الآونة الأخيرة. ويظهر من خلال الصور المتاحة من خلال المشروع العالمي للزراعة بجامعة ماريلاند أن المحاصيل في الأجزاء الواقعة تحت سيطرة داعش في محافظتي نينوى وصلاح الدين أضعف بكثير منها في مناطق الأكراد.

  أما المزارع أبو عمرو فيرثي  فإن مقاتلي داعش سرقوا محاصيله  ، وقال “عندما رأينا فوضى داعش  تمنينا لو يعود المالكي. كل شيء ذهب.. ماشيتي.. محصولي.. كل شيء.”

  وبحسب تقرير لخصته “المسلة” من رويترز،انتقل أبو عمرو إلى كركوك التي تسيطر عليها قوات البشمركة الكردية. وقال له جيرانه القدامى في اتصال تليفوني إنهم زرعوا حوالي ثلث أرضه البالغ مساحتها 61 فدانا باستخدام بذور كان قد خزنها في بيته. وقد أرسل مبلغا لشراء السماد اللازم لكنه لم يكف. قال “كنا نلوم المالكي على كل شيء. لكننا نصرخ الآن ونرجو لو تعود تلك الأيام… كان هناك نوع من الأمن .. نوع من الدولة على نحو لا يمكن مقارنته بالوضع الحالي”.

 وخلال حملتها العسكرية على بغداد استخدمت داعش القمح كرمز لسلطتها الجديدة. استولت على صوامع الحكومة وعلى مئات الآلاف من أطنان القمح من معارضيها وبخاصة من الأقليتين المسيحية واليزيدية.

وكما حدث في سوريا أبقت داعش على موظفي الحكومة العراقية والعاملين في الصوامع في أماكنهم للمساعدة في إدارة شؤون “الخلافة”. وحقق القرار نصرا دعائيا مبكرا عندما وزع المقاتلون أجولة الطحين المدموغة بشعار داعش في الموصل.. أكبر مدن الشمال.

لكن الضربات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة والضغط الذي تمارسه القوات العراقية والفصائل المتحالفة معها وقوات البشمركة الكردية جعلت من الصعب على داعش الدفاع عن الأرض ناهيك عن الحكم.

لم تفقد داعش أراضي وحسب بل وعجزت تحت وطأة انشغالها بالمجهود الحربي عن توفير البذور والسماد والوقود للمزارعين بأسعار مدعمة كما دأبت حكومة بغداد.

قال مزارع عربي  في قضاء الشرقاط على نهر دجلة إلى الشرق مباشرة من الطريق الذي يربط مدينتي تكريت والموصل الواقعتين تحت سيطرة المتشددين “لا توجد أي مساعدة. كنا نحصل في العادة على الإمدادات (اللازمة للزراعة) من الحكومة لكننا لم نحصل على شيء هذا العام”.

وإلى الشمال هجر المزارع اليزيدي سالم سليم حقوله ومزارع الزيتون حين زحف مقاتلو داعش على سهل نينوى الخصيب. وهو يقيم الآن مع أسرته في منزل مستأجر في دهوك بالمنطقة الكردية شبه المستقلة الآمنة نسبيا. ويقول إن لا الضربات الجوية ولا قوات البشمركة أخرجت داعش من بلدته بعشيقة وإنما حولت الأرض الزراعية إلى ساحة حرب.

قبل بضعة أسابيع صعد سليم جبل زردك الذي تسيطر عليه البشمركة بالقرب من بعشيقة لرؤية ما آل إليه حال أراضي اليزيديين. قال “رأيت بأم عيني أرضا جدباء”.

وفي المناطق التي استعادتها قوات البشمركة مؤخرا هناك دائما ما يذكرك بالمخاطر التي أبعدت كثيرا من المزارعين عن الفلاحة.

وفي منطقة مخمور جنوب شرقي الموصل تجمع عدد من المزارعين الأكراد عصر أحد أيام شهر   كانون الأول بعد هطول أمطار غزيرة. في موسم الزراعة العادي يعتبر المطر نعمة إلهية. لكن معظم الرجال كانوا من مناطق قريبة جدا من خط الجبهة على نحو يجعل في العودة لحقولهم مخاطرة كبيرة.

وبينما كانوا يتحدثون سمعوا عن بعد دوي انفجار قوي. نظروا لأعلى ظنا أن الصوت نجم عن ضربة جوية. ثم تلقى أحدهم اتصالا عرف من خلاله أن الانفجار كان بسبب لغم أرضي.

ويروي المزارع الكردي مشير عثمان حسن كيف أن جرارين اصطدما في الآونة الأخيرة بلغمين أرضيين. ومات سائق أحد الجرارين بينما فقد الآخر رجليه وإحدى عينيه.

في قريته صرناج الكبرى التي تسيطر عليها داعش وتقع على مبعدة 15 كيلومترا قال حسن إنه عرف أن بعض جيرانه العرب كانوا يزرعون لكنهم أيضا أصيبوا في القتال.

قال “إنهم يزرعون فقط كمية تكفيهم. داعش لم تتدخل.” وقال إن جيرانه أبلغوه تليفونيا أن مقاتلين “زاروهم” وهم يزرعون لكن داعش “ليس لها وجود كبير بسبب الضربات الجوية”.

ومضى قائلا عن التنظيم “إنهم أناس يأخذون ولا يعطون.” ولم يتسن التحقق من مصدر مستقل من روايته وروايات أخرى عن الزراعة في المناطق التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية.

وفي منطقة جوير على الجانب الآخر من نهر الزاب الكبير قال مصطفى محمد المسؤول بوزارة الزراعة إنه لم تبذر هذا الموسم إلا أقل من نصف المنطقة التي كانت تزرع عادة بالقمح والشعير. وأضاف أن معظم المنطقة التي تغطي حوالي 50 ألف فدان مازالت غير آمنة.

أحدثت محاولات داعش مساعدة المزارعين أثرا معاكسا. فقد قال معظم الفلاحين الذين جرى الاتصال بهم تليفونيا في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم إنهم رفضوا البذور المدعمة التي عرضها عليهم. وقال سعد الله فتحي وهو مزارع من صرناج الكبرى إلى الجنوب الشرقي من الموصل “لا نريد منهم أي مساعدة”.

وقال آخرون إن البذور جاءت من قمح استولى عليه المتشددون واعتبروها “حراما”.

ورغم أن الزراع العراقيين ظلوا يشتكون طويلا من إهمال بغداد وسوء إدارتها قال مزارع سني عبر خط هاتفي متقطع من الشرقاط إن الحياة في ظل حكم المتشددين والحياة تحت حكم الحكومة “كالفرق بين الليل والنهار”. فالكهرباء لا تأتي إلا لبضع ساعات في اليوم وهو يضطر لشراء سماد من السوق السوداء بأسعار باهظة.

ويشعر كثير من المزارعين أنهم محاصرون وسط صراع قد يمتد لسنوات. وقال المزارع شيرزيد سادرادين وهو كردي يعيش الآن بمنزل في أربيل “لا يمكننا العودة للديار والشعور بالأمان على الأرض ولا يمكنني أن أقنع أقاربي بالعودة.” وأضاف “في قريتنا.. يزرع شخص واحد فقط (من 19 مزارعا).. مجرد محاولة بائسة. من قبل وفي أسوأ أيام صدام كان بمقدورنا أن نزرع بنسبة 10 في المئة. أما الآن فقد انخفضت العشرة في المئة إلى واحد في المئة.”

والفلاحون الذين تمكنوا من الزراعة قلقون ألا تقدم لهم الدولة الإسلامية السعر الذي كانت تقدمه الحكومة حين يحين وقت الحصاد. وتدفع بغداد عادة للزراع ما يصل إلى 750 ألف دينار (650 دولارا) للطن حسب نوعية القمح وهو ما يزيد عن مثلي السعر الذي تدفعه للقمح المستورد.

قال براء محمد صالح وهو مستشار زراعي لمحافظ صلاح الدين -أكبر محافظة منتجة للقمح بالعراق في السنوات الأخيرة- إن بغداد قررت ألا تقدم بذورا ولا سمادا ولا وقودا مدعما للزراع في الأجزاء الواقعة تحت سيطرتها في نينوى وصلاح الدين هذا العام خشية أن يصب الأمر في النهاية في مصلحة المتشددين.

ووزعت الفاو بذورا وسمادا على صغار المزارعين في الشمال لكنها أيضا تخشى أن يصب هذا في صالح داعش.

قال ألفريدو إيمبيجليا كبير منسقي الطوارئ لعمليات الفاو في العراق “تجنبنا المناطق التي لن تكون آمنة خلال موسم الزراعة.”

  وأضاف “نحاول ألا نخدم داعش”.

ويقول إن من المستحيل قياس معدل الزراعة في مناطق داعش مضيفا “تضاءلت الزراعة بالقطع… لكن لا نعرف إلى أي مدى”.

قالت جين بيرس مديرة مكتب العراق التابع لبرنامج الأغذية العالمي إن ما يقدر بنحو 2.8 مليون شخص بالعراق بحاجة لمساعدات غذائية حاليا.

وفي منزل مستأجر في أربيل يتكدس فيه أفراد عائلته الكبيرة كان علي إبراهيم عوض الذي ينتمي لعشيرة الجبور السنية يفكر في مصير مزرعته ومواشيه وحدائق الفاكهة والنخيل.

كانت بلدة حجاج التي ينتمي إليها من المناطق التي شهدت قتالا مبكرا لأسباب منها أنها تؤوي كثيرا من أفراد الجيش والشرطة. وفر المئات من أفراد عشيرته.

قال عوض “في البداية أحب الناس داعش لأنهم كانوا يعانون… أردنا أيضا تغييرا لكن ليس بهذه الطريقة المدمرة. عرفنا الآن أنهم مجرمون وقطاع طرق ومخربون.”

المسلة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*