لقد تحدث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلى جانب الرجل وتؤدي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها، وبلا شك فان اهل البيت عليهم السلام يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ، وان زينب ابنة علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد ابيها واخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل انواع الطهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد . وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة: نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين . ان اللسان ليعجز وان اللغة على سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة النساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها: انت اول اهل بيتي لحوقا بي . ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها يضطرنا الى التطويل الذي يعرض القارىء للملل في الغالب، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الى الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتى بلغ الى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها احد من الناس . ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتى بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء على تراب كربلاء، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا . لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة . لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوى الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب، فكيف بمن رأى ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الى خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم: اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله . وفي طريقها الى خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلى المعركة حتى لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه، وسمعت الانصار يقولون: ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين عليه السلام وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتى رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها: منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت، فقصت عليه ما سمعته من الهاشميين وأنصارهم وظلت الععقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الى خيمة ومن خباء الى خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتى إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه على ثرى الطف، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها: مهلا اخيه لاتشقي علي جيبا ولا تخمشي عليّ وجها ولا تشمتي بنا الاعداء، وأوصاها بالنساء والاطفال، فقالت له: طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله . ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالاضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان . وهكذا كان على العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان . ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل ولم يكن نبأ مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللوعة، ولم تر قبل اليوم اسرى مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال على اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدى السبايا وقالت لها: من أي الاسارى انتن ؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها: نحن اسارى آل بيت محمد رسول الله . وما كادت المرأة تسمع قولها حتى خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من على سطحها من هول الصدمة والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهن وقالت: انهن نساء اهل البيت، فتعالى الصياح عند ذلك من كل جانب حتى ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت: يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة . ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقارا وازدراء لشأنه، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها: هذه زينب ابنة علي، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمة وحقده وخسته قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة: الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة . فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة . ويأبى له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الى جانبه ليضربها به، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الى الوجوه قد تغيرت على ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لاسيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك، فبكت عند ذلك وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت . لقد تحدث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلى جانب الرجل وتؤدي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها، وبلا شك فان اهل البيت عليهم السلام يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ، وان زينب ابنة علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد ابيها واخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل انواع الطهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد . وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة: نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين . ان اللسان ليعجز وان اللغة على سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة النساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها: انت اول اهل بيتي لحوقا بي . ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها يضطرنا الى التطويل الذي يعرض القارىء للملل في الغالب، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الى الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتى بلغ الى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها احد من الناس . ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتى بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء على تراب كربلاء، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا . لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة . لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوى الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب، فكيف بمن رأى ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الى خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم: اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله . وفي طريقها الى خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلى المعركة حتى لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه، وسمعت الانصار يقولون: ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين عليه السلام وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتى رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها: منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت، فقصت عليه ما سمعته من الهاشميين وأنصارهم وظلت الععقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الى خيمة ومن خباء الى خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتى إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه على ثرى الطف، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها: مهلا اخيه لاتشقي علي جيبا ولا تخمشي عليّ وجها ولا تشمتي بنا الاعداء، وأوصاها بالنساء والاطفال، فقالت له: طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله . ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالاضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان . وهكذا كان على العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان . ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل ولم يكن نبأ مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللوعة، ولم تر قبل اليوم اسرى مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال على اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدى السبايا وقالت لها: من أي الاسارى انتن ؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها: نحن اسارى آل بيت محمد رسول الله . وما كادت المرأة تسمع قولها حتى خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من على سطحها من هول الصدمة والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهن وقالت: انهن نساء اهل البيت، فتعالى الصياح عند ذلك من كل جانب حتى ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت: يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة . ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقارا وازدراء لشأنه، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها: هذه زينب ابنة علي، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمة وحقده وخسته قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة: الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة . فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة . ويأبى له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الى جانبه ليضربها به، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الى الوجوه قد تغيرت على ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لاسيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك، فبكت عند ذلك وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت