مثقفون: الكتاب العراقي ما زال مهملًا
جلس الحاضرون في احتفالية أحد الكتب النقدية التي أقيمت في اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، من دون أن يعرفوا ما الذي يضمه هذا الكتاب من مفاهيم وأفكار جديدة أو إعادة تقديم لأفكار شائعة خلال السنوات الماضية.
وعلى الرغم من اشتغال هذا الكتاب النقدي على مفاهيم القصة العراقية الحديثة والجديدة وصدوره قبل أكثر من عام أولاً، وحضور عدد كبير من كتاب القصة القصيرة الذين يدّعون بحثهم الدائم عن المفاهيم الجديدة في الفن الذي يكتبون به، غير أنهم لم يسمعوا بهذا الكتاب ولم يقتنوه، رغم توفره في المكتبات القريبة من اتحادهم منذ مدة طويلة… وهو ما أثار الكلام حول اطلاع الأدباء على الكتب الجديدة أولاً، واقتنائهم لكتب زملائهم ثانياً.
هذه الحادثة، أعادت للأذهان كيفية استسهال الأدباء والمثقفين خصوصاً، والقراء عموماً، الحصول على الكتاب العراقي من دون أن يبحثوا عنه أو يتابعوا آخر المستجدات على الساحة الثقافية، وكل ما يفعله هؤلاء انتظار المؤلف؛ نفسه، إهداءهم كتابه مجاناً، وربما في بعض الأحيان من دون حتى توقيع المؤلف، ليركن في مكتبة البيت من دون متابعة أو اطلاع. ربما كانت السياقات الثقافية العراقية هي السبب الرئيس وراء ذلك، ففي معظم البلدان التي تقام فيها حفلات توقيع الكتب، وحتى في معارض الكتب التي تقام فيها حفلات التوقيع، يقوم القراء بشراء نسخة من الكتاب الجديد وتقديمه للمؤلف من أجل التوقيع عليه للاحتفاظ بتلك النسخة لأهمية هذا التوقيع، غير أن المجانية التي توزع فيها الكتب العراقية قللت من أهميتها، وألغت ما يعرف بالمتابعة والسعي للبحث عما هو جديد عراقياً.
شروط تقويم الكتاب
من وجهة نظر الناقد أثير محسن الهاشمي، أن الكتاب القيّم يبقى له قارئه الخاص، مهما كان مؤلف الكتاب، عراقياً كان أم أجنبياً، المهم أن يكون الكتاب ذا إضافة معرفية وفكرية، و»أجد أن ثمة أسماء عراقية مهمة تُطبع مؤلفاتهم أكثر من طبعة، هذا دليل على اقتناء المثقف أو المهتم بالشأن الثقافي لهذا الكتاب، وبالمقابل نجد انتشار ظاهرة الاتكاء على إهداء الكتاب، وعدم اقتنائه، بدافع انتظار الإهداء من صاحب الكتاب ذاته».
ويشير الهاشمي إلى أن هذه الظاهرة تنتشر خاصة بين المثقفين والكتّاب الذين تجمعهم أواصر الصداقة؛ بالإضافة إلى أسباب أخرى، منها عدم الثقة بما يكتبه الآخر، سواء بالمادة الفكرية المطروحة أو عدم قدرة الكاتب على إيصال تلك المادة، عن طريق الأسلوب واللغة والفكرة المغايرة وغيرها، علاوة على ذلك، كثرة النشر من قبل الكتّاب، خصوصاً الشباب منهم، بعدما كانت تقتصر طباعة الكتاب في الزمن الماضي على نسخ محدودة جداً، وتنفد طباعتها، بسبب إيمان المتلقي بأهمية هذا المُؤلَف، كما أن هناك تهذيبا لسوق الكتاب، من طباعة ونشر وتسويق.
«أما اليوم فنلاحظ مع كل الأسف هذا الكم الهائل من الطباعة والنشر، من دون شروط أو ضوابط قبل طباعتها، فأنا مثلا لدي في مكتبتي بعض الكتب التي تأسفت على شرائها، إذ أن بعض دور النشر لا يهمها المحتوى بقدر ما تنظر للجانب المادي». ويأمل الهاشمي في أن نعمل على طبع الكتاب على أسس وشروط وضوابط، عندئذ سيكون المنتج قويماً، ويُقتنى الكتاب من دون انتظار أو الاتكاء على الإهداء، وستبقى الساحة الثقافية لمن هم أهل لذلك، ويبتعد «المتثقفون» بعيداً عن ساحة الإبداع.
تقاليد ثقافية
الناقد علي سعدون يوضح أن ثمة تقاليد ثقافية تحدد طريقة تسويق الكتاب، وهو أمر شائع ومتداول في معظم دول العالم، إلا في العراق بطبيعة الحال، بسبب افتقاده لهذه التقاليد، إضافة إلى أن منتجي الثقافة العراقية اعتادوا على تبني موضوعة توزيع الكتاب بجهد فردي أو شخصي، الأمر الذي يؤكد غياب التقاليد الثقافية التي تتحكم في ازدهار ونمو هذه العملية.
مضيفاً أنه ربما يكون مرد ذلك أيضاً، عدم ثقة الكاتب العراقي نفسه بوضع منجزه على المحك في عملية التسويق، ومعرفة مدى تقبـّل أو نفور المتلقي مما ينتجه في الفكر والمعرفة والثقافة، وهو أمر طبيعي للغاية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار نوع المنجز الشائع فيما يصدر من إنتاج ثقافي في العراق، و»لكي أكون أكثر صراحة فإن إصدارات شعرية كثيرة وبأعداد لا تحصى أتخمت السوق المكتبية بسيل من التهويمات غير المنتجة وغير الممتعة، التي لن تلقى رواجاً إلا إذا روّجت بطريقة الإهداءات الشخصية.
وربما تكون الرواية العراقية بعد التغيير أوفر حظاً في موضوعة التسويق والتداول، وبالتالي الشيوع، وإن كانت محصورة بنماذج وأسماء قليلة استطاعت أن تلفت انتباه القراء وتنفد من السوق بسرعة كبيرة، الأمر الذي يفتح أفاقاً جديدة لتداول الكتاب الأدبي وفق السياقات المعروفة في العالم».
كما يعتقد سعدون أن الكتابات ذات الصبغة «السوسيوثقافية» مثل مؤلفات محمد غازي الاخرس وحيدر سعيد وجمال جاسم أمين وسعد سلوم على سبيل المثال، ستعمل على تأسيس تقاليد تداول الكتاب واقتنائه بسبب أهمية مضامين تلك المؤلفات وإقبال القراء عليها.
الكتاب.. الضحية
لكن القضية حسبما يرى الشاعر والإعلامي حسين الهاشمي أصبحت تراكمية وأخذت مستويات عدّة.. فالكتاب الآن في العالم الحي، المتحرك وصاحب المنظور القريب والبعيد- في آن معا، ذي المؤسسات المهنية والتنظيمية في مجالات الطباعة النشر والتوزيع، ليس مشروعاً ثقافياً وأدبياً فحسب، بل هو مشروع تسويقي أيضاً، يدخل من باب الاستهلاك- كعرض وطلب- ولهذا يصبح الاهتمام به وطريقة نشره وعرضه ومن ثم تسويقه أو توزيعه، من ضمن خطط مدروسة ومحكمة وغير عشوائية..
وباعتقاد الهاشمي، فإن الكتاب العراقي هو ضحية لمجموعة من العوامل والأسباب، من بينها غياب هذه المؤسسات المهنية والمدعومة من المؤسسات الحكومية أو الحكومية نفسها التي ترعى عملية نشر الكتاب وتوزيعه أو عرضه بمستوى مهم يعطي للكتاب والمؤلف قيمة مضاعفة مضافة إلى قيمته المضمونية والفنية.. في المستوى الآخر؛ غياب التقاليد الثقافية الراقية لدينا، التي يمكن من خلالها أن تعطي الكتاب العراقي مكانة وحيزاً في مجتمع القراءة.. مضيفاً أن هناك المعضلة الاجتماعية المتراكمة، بمعنى طريقة التعامل المزمنة مع المؤلف والكتاب العراقي وفق المثل الشائع «مغنية الحي لا تطرب»، وهو بمثابة مرض اجتماعي، مردّه الشعور بالنقص لدى معظم مثقفينا وقرائنا، إنه مجتمع ثقافي يتعامل مع الأسماء قبل النصوص، ومع المظاهر والعناوين قبل الجوهر الفكري والثقافي لهذا الكتاب وذاك المؤلف.. ولهذا تجد أن الكثير من الكتب المطبوعة والمصدّرة من خارج البلد تأخذ حيزاً مهما لدى القارئ، تلك التي تداعب دعايتها فضول القارئ، قبل وصولها بوقت طويل، وهو مستوى نفسي يلعب دوره في عملية الجذب والإقبال على الكتاب أو المؤلف.. لكن «المشكلة الأهم: التقييم المجاني عندنا.. إذ كيف نسوّق كتابنا ونجعله جاذباً ومهماً للآخرين، وفي ثقافتنا العراقية متصيدون (مخرّفون) مهمتهم النيل من الإبداع ومن المبدعين البعيدين عن ضجيج المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.. متصيدون- تحت ذرائع نقدية أو فنية- ربما و(مخرفون) يجهلون تماماً ولا يميزون بين إيقاع قصيدة (التفعيلة) عن الإيقاع الداخلي أو الموسيقى الداخلية لـ(قصيدة النثر) مثلاً، ويطالب الثانية بإيقاع الأولى كتقييم فني حسب مختبره النقدي».
المسلة