لماذا تصاحبنا الذكريات المؤلمة لزمن طويل؟

392

CRW0K4-brain_2703713b
إذا لم نكن ننسى الألم، لما أنجبت النساء مرتين مطلقاً

كلوديا هاموند

كاتبة ومحاضرة في علم النفس

الحکمة – متابعة: إذا لم نكن ننسى الألم، لما أنجبت النساء مرتين مطلقاً، كما تقول الأسطورة. لكن في الحقيقة، الذكريات المؤلمة لا تتلاشى دوماً.

عند زيارة إحدى السيدات التي استقبلت مولودا جديد، غالباً ما يتضمن وصفها لآلام الولادة عبارة مثل “لن أكرر ذلك أبداً”. حتى إن إحدى صديقاتي توسلت إليَّ لكي أقنعها بالعدول عن فكرة إنجاب طفل ثانٍ إذا راودتها في المستقبل. لكن رغم ذلك، تراها بعد بضعة سنين لاحقة وقد أصبحت في وقت المخاض لإنجاب طفل جديد.

حتى وإن لم نتذكر عملية فحص القولون بالمنظار التي مررنا بها يوما، سيشعر البعض بعدم ارتياح عندما يمر فقط بجوار خرطوم مياه في حديقة ما، فمثل تلك الذكريات تبقى معنا في العقل الباطن.

عادة ما يكون التفسير المقدّم هو أن النساء ببساطة ينسون تماما كيف كان يبدو الشعور بالألم لأن الدماغ يتخلص من تلك الذكرى. ومن منظور التطور البشري، قد يكون من المنطقي للنساء نسيان آلام الولادة إذا كان ذلك يثنيهن عن التكاثر. إلا أن الأمر، لسوء الحظ، لا يبدو بهذه البساطة.

فيما يخص آلام المخاض، على سبيل المثال، استنتجت مراجعة لدراسات أجريت قبل عام 2000 أن النساء لا ينسين تماماً آلام الولادة – أو حدة الألم الذي عانين منه. لكن رغم ذلك، لا يزال الموضوع شائكا ويحتاج إلى دراسة.

هناك مقاييس تتيح للناس تقييم الألم الذي عانوا منه، ولأن عملية الولادة تستغرق عدة ساعات، فليس معلوماً أي جزء من فترة المخاض أو الولادة ركزت عليه المشاركات في تلك الدراسة. حتى التقلصات المنفردة تختلف في حدة الألم الذي تسببه، لذا فإن تقييم الألم الناتج عن التجربة بأكملها ليس سهلاً بالمرّة.

ما يمكن إجراؤه هو دراسة ما إذا كان هناك أي تغيير يطرأ على كل امرأة على حدة في تذكّرها للألم، بمرور الزمن. أُجريت دراسة سويدية على أكثر من ألفي أم، وقارنت نسبة تذكرهن للألم وتجربتهن فيما مررن به خلال عملية الولادة بعد شهرين من الولادة، ثم تقديرهن للألم بعد 12 شهراً لاحقا. مرة أخرى، تشير الدلائل إلى أن معظم النسوة لا ينسين: إذ كانت ذكريات التجربة التي مررن بها في عملية الولادة هي نفس الذكريات لدى 60 في المائة منهن بعد شهرين وبعد 12 شهراً من الولادة.

في الحقيقة، ثلث الأمهات فقط نسين تماما بعد مرور 12 شهراً مقدار الألم الذي كن قد وصفنه بعد شهرين فقط من الولادة. وحدث العكس بالنسبة لـ 18 في المائة منهن– فبدلا من نسيان الآلام، .زادت في أذهانهن تلك الذكريات المؤلمة للولادة بعد مرور 12 شهراً.

baby17n-8-web
النساء اللاتي يتذكرن آلام الولادة يعتبرن أن المرور بتلك التجربة والتعامل معها هو إنجازٌ ملازم لهن

 

إعادة كتابة الماضي

بعد مضي خمس سنوات، تناقش الباحثون مرة أخرى مع نفس النساء. عندها، تضاءلت حقاً ذكرى آلام الولادة لدى بعضهن. وبحسب تقديرات 50 في المائة منهن، كانت ذكريات الألم أقل مقارنة بتلك التي سجلت بعد شهرين فقط من الولادة.

أما بالنسبة لمن اعتبرن تجربة الولادة تجربة سلبية جداً بعد شهرين من آلام المخاض، ظلت ذكرى الألم ملازمة لهن. ورغم ذلك، لا يعد هذا أمراً سيئاً بالضرورة.

فقد توصلت بعض الدراسات إلى أن النساء اللاتي يتذكرن آلام الولادة يعتبرن أن المرور بتلك التجربة والتعامل معها هو إنجازٌ ملازم لهن. وكأن واحدة منهن تقول: “ما دمت قد استطعت أن أتحمل آلام المخاض، فسأستطيع تحمّل أيّ شيء آخر.”

لعل ما يثير العجب أن ذكرى الألم غالباً ما تظل بدون تغيير عبر الزمن. وقد أوضحت الأبحاث التي أجريت لعقود في مجال علم النفس السبب في ذلك، والتي بيّنت أننا نعيد بناء الذكريات بشكل مختلف قليلاً كلما تذكرناها.

فذاكرتنا ليست مثل معلومات قرص مدمج حيث يمكننا مشاهدة أي حدث من الماضي تماماً كما حصل –وعوضاً عن ذلك، فإن محتوى الذكرى الأصلية وطريقة سردنا للحدث تختلف في كل مرة نستذكرها.

آلام الولادة هي آلام هادفة– بشرط ولادة الطفل بصحة وسلام، فإنه ينبغي لهذه الذكرى الإيجابية – نظرياً- أن تخفف من ذكرى الألم. لكن يبدو جلياً أنه بالنسبة لبعض الأمهات، حتى الحدث السعيد بولادة طفل جديد لن يستطيع أن يخفف من الذكرى المؤلمة للمخاض. وبالتالي، إذا لم يمكن بالضرورة نسيان شدة هذا النوع من الألم “الإيجابي”، فماذا عن المرور بتجربة سلبية؟

أحياناً يكون من المهم أن نشعر بوخزة ألم ونتذكر ما سببها، لأن تلك الذكرى تُبقينا في أمان، وتقينا من تكرار وقوع نفس الحادث. الجرح المؤلم الناشيء عن فتح علبة معدنية، على سبيل المثال، سيضمن عموماً أننا سنكون حذرين أكثر عندما نحتاج إلى فتح علبة مماثلة في المرة القادمة.

أو مثلما حدث معي، سوف تتساءل بينك وبين نفسك إن كانت القطعة المعدنية القريبة من النار ساخنة حقاً لتمسكها بأصابعك، فإنك لن تفعل ذلك بالتأكيد مرة أخرى. من المؤسف حقا أن ذلك قد حدث وأنا في عمر 30 عاماً، وليس خمسة أعوام.

كما هو متوقع إذاً، الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية تمنعهم من الإحساس بالألم غالباً ما يصابون بحروق وجروح. لذا، فإننا لا نريد بالضرورة أن ننسى كل الآلام.

لعلّ من المفيد نسيان بعض الألم – خاصة الآلام المزمنة المصاحبة لحالات مرضية مثل السكري. وقد توفرت مؤخراً أدلة على إمكانية التحكم والقضاء على هذا النوع من الألم على مستوى خلايا الجسم.

بعض التجارب التي تقابلها في حياتك، حين يصطدم أحد أصابع قدميك بحافة الباب مثلا، أو عند إغلاق الباب على أحد أصابع يديك، يمكنها أن تجعلك تشعر برجفة عند تذكرها. يبدو أن هذا يعود إلى جزيئ إنزيمي يُسمى بروتين “PKMzeta”والذي يطلق عليه الكاتب العلمي “إد يونغ” اسم “محرك الذاكرة”.

إنه يقوي الروابط بين الخلايا العصبية في الدماغ عندما نتعلم أمراً جديداً– كما إنه يولد حساسية جسمانية بعد المرور بتجربة مؤلمة. وقد أجرى باحثون في كلية الطب بجامعة أريزونا تجارب على الفئران، وأوضحت تلك التجارب أنه إذا ما اعترض الباحثون عمل هذه الجزيئات الخاصة في العمود الفقري، فسيكون بمقدورهم إزالة الشعور الزائد بالألم عند الفئران– وهو اكتشاف قد يؤدي في يوم ما إلى علاج الآلام المزمنة.

وماذا عن الألم المزعج أو آلام الجراح المصاحبة لبعض الفحوصات الطبية؟ عندما تُجرى فحوصات القولون بالمنظار تحت تأثير مخدّر موضعي، ومع ذلك يكون المريض في حالة واعية، فإنه يُعطى أحياناً عقاراً يسمى “ميدازولام” ليخفف من درجة شعوره بالقلق، كما أنه يساعد على ما يعرف بـ “فقدان الذاكرة التقدمي” – ويعني ذلك عدم القدرة على تذكر أشياء تقع بعد حادث معين.

ربما يصاب المريض حينئذ برجفة مفاجئة، أو يتلوى في مكانه خلال الفحص، ولكن يؤمّل أن لا يتذكر أي ألم أو يحس بانزعاج من الفحص في وقت لاحق بعد انتهائه.

Peaceful
من الخرافة أن نقول إن الشعور بالألم لا يلازم الذاكرة على الدوام

 

أحاسيس دائمة

يقول البعض إن ذلك النهج مخالف لآداب مهنة الطب وتطبيقاتها. وقد نُشرت دراسة في العام الماضي، للطبيب “أندرو ديفيدسن”، وهو طبيب مختص في التخدير بمستشفى الأطفال الملكي في فيكتوريا، باستراليا، يحذر فيها من أن عقاقير مثل “ميدازولام” يمكنها أن تجعل من الصعب تكوين ذكريات واعية.

ما يدعو إلى القلق هو أن ديفيدسن يشير إلى أنه حتى وإن لم تتذكر فحص منظار القولون مثلا، فقد نشعر “بإحساس غريب من الانزعاج عندما نمر بجوار خرطوم للمياه في حديقة ما”. لكن ألا تتطلب آداب المهنة أن نحذر المرضى مقدماً بأن ذلك قد يحدث لهم؟

ويوصي ديفيدسن، لتخفيف آثار الصدمة النفسية من حالة نادرة جداً يفيق فيها المرضى وهم تحت تأثير عقار التخدير العام، بإعطائهم عقار “ميدازولام” عندما يدرك الطبيب المختص بالتخدير أن هناك حاجة إلى تعطيل أو تشويش عملية تكوين الذكريات خلال إحدى العمليات. لكن هذا الإجراء سيلغي فقط الذكريات المتولدة منذ لحظة إعطاء العقار، وليس من لحظة استرجاع الوعي.

ستتواصل مناقشة الجوانب المتعلقة بآداب المهنة فيما يتعلق باستعمال عقاقير من هذا النوع. إن مجرد طرحها للبحث والمناقشة يؤكد على حقيقة محددة، وهي أنه لسوء الحظ؛ بالنسبة للنساء اللاتي أنجبن أو عانين أنواعاً أخرى من الألم، فإنه من الخرافة أن نقول إن الشعور بالألم لا يلازم الذاكرة على الدوام.

(BBC)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*