الحكمة – متابعة: نهر العلقميّ هو من الأنهر التي اشتهرت بها مدينةُ كربلاء المقدّسة وارتبط اسمه ببطلٍ من أبطال ثورة الطفّ الخالدة ألا وهو أبو الفضل العباس(عليه السلام)، فأين هذا النهر الآن، ومن أين يأتي؟.
نهر العلقميّ هو من الأنهر التي كانت تروي أراضي كربلاء قديماً، وهو اليوم من الآثار المندرسة بسبب تقادم الزمن عليه. أمّا مسير هذا النهر ومن أين يأتي فقد ذهب المؤرّخون إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأوّل: ذكر المسعودي في التنبيه والإشراف وكاتب البريد ابن خرداذبه في المسالك: إذا جاز عمود الفرات هيت والأنبار (يقابل الثاني الأوّل في الضفة الغربية) فتجاوزهما فينقسم قسمين: منها قسم يأخذ نحو المغـرب قليلاً المسـمّى (بالعلقميّ) إلى أن يصير إلى الكوفـة.
فحين يدخل كربلاء المقدّسة يمرّ إلى شمال ضريح عون ويتّجه إلى الجنوب، حتى يروي غاضرية بني أسد والغاضرية على ضفته الشرقية، وبمحاذاة الغاضرية شريعة الإمام جعفر بن محمد(عليه السلام) على الشاطئ الغربيّ من العلقميّ.
وقنطرة الغاضرية تصل بينه وبين الشريعة ثم ينحرف إلى الشمال الغربي، فيقسم الجزء الشرقيّ من مدينة كربلاء بسفح ضريح العباس(عليه السلام) إذ استشهد ما يلي مسناته. فإذا جاوزه انعطف إلى الجنوب الشرقيّ من كربلاء ماراً بقرية نينوى وهناك يتّصل النهر (نينوى والعلقمي) فيرويان ما يليهما من ضياع وقرية (شفيّه) فيتمايلان بين جنوب تارةً وشرقٍ أخرى، حتى إذا بلغ خان الحماد -منتصف الطريق بين كربلاء والغري- اتّجها إلى الشرق تماماً وقطعا شطّ الهندية بجنوب برس وحرقة -وأثرهما هناك مرئي ومشهور- حتى يشقّان شرقي الكوفة.
الرأي الثاني: ذهب فريقٌ آخر من المؤرّخين إلى الاعتقاد بأنّ القسم المحاذي من هذا النهر لطفّ كربلاء قد كُلِّفَ بحفره رجلٌ من بني علقمة -بطن من تميم ثم من دارم- جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس فسمّي النهرُ بالعلقمي، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري، وبذلك قال الشريف محمد بن علي الطباطبائي الشهير بالطقطقي في تاريخه الفخري عند ذكره ترجمة حال أبي طالب مؤيّد الدين ابن العلقمي الوزير العباسي على عهد المستعصم وهولاكو الأيلخاني أنّه سمّي بابن العلقمي نسبةً إلى جدّه علقمة الذي قام بحفر نهر العلقميّ.
الرأي الثالث: يرى بعضُ المؤرّخين الذين سمّوا النهر باسم العلقم، فذكر النويري في كتابه -بلوغ الأرب في فنون الأدب- إنّ نهر الفرات بعد اجتيازه الأنبار ينقسم إلى قسمين: قسم يأخذ نحو الجنوب قليلاً وهو المسمّى بالعلقم، وذلك لكثرة العلقم (الحنظل) حول حافّتي النهر والعلقم بالفتح والسكون يُطلق على كلّ شجرٍ مرٍّ (الحنظل) وما عداه من غير فارق، والعلقمة المرارة، يخال لي لشدّة ما كان العرب يكابدون من مرارة ماء آبار الجزيرة حتى تخوم الجزيرة ومياه عيون الطفّ ثم ينهلون عذبَ نميرِ هذا النهر، فلبُعْدِ شِقَة البين بالضدّ أطلقوا عليه اسم (العلقمي).
ومن الجدير بالذكر أنّه جاء في تاريخ آل سلجوق لعماد الدين الأصفهاني المؤرّخ الإسلامي الذي عاش في القرن الثامن الهجري أنّ جدول العلقميّ كان يمرّ على المشهديـن أي كربلاء والنجف.
وقد بقي نهر العلقميّ حتى عام (697هـ) ثم علته الرمالُ والأوحالُ ممّا عرقل جريان الماء فيه، وتروي بعضُ المصادر القديمة أنّ السلطان محمود الغزنوي قد أرسل وزيره علي الجويني إلى كربلاء فأمر بتطهير نهر العلقميّ وإزالة الرمال والطمى منه، وعاد الماء في واديه متدفقاً. وفي عام (915هـ) عادت الرمال تعلو هذا النهر لتوقفه عن الجريان ثانيةً.
يُذكر أنّ مجراه في العصور القديمة كان يتّصل ببطائح البصرة، وأنّ سابور ذا الأكتاف اتّخذ حافتيه قاعدةً للذبّ عن غزو العرب لتخوم المملكة. وشمل بعناية أخلافه من ملوك الساسانية لموقعه الدفاعي.
وبلغ من ازدهار العمران الذي حفّ بجانبيه شأواً حتى أنّهم ذكروا: أفلتت سفينةٌ وانحدرت مع جري الماء يومين فامتلأت بأنواع صنوف أثمار حافتيه.
وذكر هارفي بوتر في التاريخ القديم أنّ بخت نصر الملك البابلي حفر نهراً من أعالي الفرات حتى أوصله الى البحر لتقارب الوصف، ومن الممكن أن يكون هذا النهر هو (العلقميّ) ولنفس الغاية لبعد أمد جريه اختار فوّهته من أعالي الفرات لارتفاع مستوى الماء هناك -للتدفق وسرعة الجري- ولبعد عمود الفرات عن إرواء آخر حدود الريف في العصور القديمة من التاريخ في الدور البابلي أو الكلداني. إذن مجراه يشقّ عاصمتهم بابل. وكان بطبيعة الحال حفر مثل هذا النهر من الضروري وممّا لا مناص منه انطاق مدى العمران.
أطلق على جملة الضياع التي اتّخذت على النهرين (العلقميّ ونهر نينوى) في الدور الإسلامي من مبتدأ فوّهة أو صدر (العلقميّ) ممّا يلي هيت بـ(الفلوجة العليا)، فإذا انحدر مجراه لحدود كربلاء سمّيت (الفلوجة الوسطى) ولحدود اتّصاله بالكوفة بـ(الفلوجة السفلى) وهذه الفلاليج الثلاثة كلّ واحدةٍ منها في الدور الكسروي متمّمةٌ لأستان بهقباذات الثلاثة. ففيما بين نهري دجلة والفرات أستان بهقباذ الأعلى، ثم الأوسط، ثم الأسفل. كان قسط هذا النهر من التفقّد والعناية قد بلغ نصاب الكفاية، يتمايل بنشوة نظارة العمران وساكني حافتيه في هناء ورغد عيش، حتى انتكست الخلافة العباسية، وحلّ بكيانها الضعف والوهن، لشغب الأتراك وتلاعبهم بنصب وخلع وقتل ثلاثة من الخلفاء وهم المستعين والمعتزّ والمهتدي.
المنطقة فيما بين بغداد والكوفة، والجزيرة بين الرافدين بقيت محافظةً على عمرانها الى القرن السادس على غرار وصف أبي زيد البلخي، بأنّه سوادٌ مشبك وشهد ابن جبير له كما أورده في رحلته الى المشرق. حتى دمّرتها عواصف حملة التتر سنة ستة وخمسين وستمائة.
ولما كان العلقمي يروي كربلاء وساكنيها وجّه الأشراف من العلويّين والمنقطعين في جوار الحسين(عليه السلام) ولم تبقَ وسيلةٌ للاهتمام بشأنه غير تبرّع أهل الفضل بالبذل، ولابدّ من أنّ بني بويه في القرن الرابع لتشيّعهم وعنايتهم بشؤون المشاهد المشرفة، كانوا السبب الوحيد لبقاء حياة هذا النهر حتى منتصف القرن الخامس إذ أنّ الإمام ابن الجوزي يحدّثنا في (المنتظم) في حوادث سنة (451هـ) فيقول: خرج البساسيري الى زيارة المشهد بالكوفة على أن ينحدر من هناك الى واسط واستصحب معه غلّاً في زورق العمال في حفر النهر المعروف بالعلقمي ويجريه الى المشهد بالحائر وفاءً بنذرٍ كان عليه.
ويقول مؤلّف تاريخ آل سلجوق في حوادث سنة (479هـ) وصل عماد الدولة سرهنك ساوتكين الى واسط ومنها الى النيل في شهر رمضان، وزار المشهدين الشريفين وأطلق بهما للأشراف مالاً جزيلاً، وأسقط خفارة الحاج وحفر العلقمي وكان خراباً من دهر، وقدم بغداد.
ويحدّثنا السيد الطقطقي في الآداب السلطانية ص301 عند ذكر مؤيّد الدين بن العلقمي وزير الخليفة المستعصم بالله وقيل لجدّه العلقميّ لأنّه حفر النهر المسمّى بالعلقميّ وهو النهر الذي برز الأمر الشريف السلطانيّ لحفره وسمي بالغازاني. فعليه قاوم العلقميّ كوارث الإعفاء والدروس حتى آخر القرن السابع، ثم أصبح أثراً بعد عين. وفي خبرٍ كان يحدّثنا العلامة الحسن بن يوسف في ص58 عند ذكر عبدالغفار يقول: (هو من أهل الجازية قرية من قرى النهرين). وقفت بنفسي على دارس رسوم هذه القرية قبيل الحرب العامّة لسنة (1914م) وموقعه في الشمال الشرقي من مدينة كربلاء على آخر حدود ضيعة الوند، يشاهد بظهر طلولها خزفٌ وبعضُ زجاجٍ مبعثر، وفيما يليه آثار حصن على التقريب ينوف أبعاد أعلامه المائة متر في مثله منسوب لبني أسد، وبلغني أنّ آجرّ هذا الحصن ذراعٌ بغدادي مربع وبين طلول الجازية والحصن أثر مجرى نهرٍ دارس. لم أبحث هل هو نفس العلقميّ أو إحدى شعبه.
ويعتقد الدكتور أحمد سوسه في مؤلّفه (وادي الفرات ج2 ص87): أنّ العلقمي قد أخذ مجرى نهر مارسس القديم الذي كان قد اضمحلّ فأُعيد إحياؤه زمن العرب.
وجاء في كتاب: قمر بني هاشم للسيد عبدالرزاق المقرّم (ص121) ما نصّه: (…لم يعرف السببُ في التسمية به -أي العلقمي- وما قيل في وجهها أنّ الحافر للنهر رجلٌ اسمه علقمة بطن من تميم ثم من دارم، جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس لا يعتمد عليه لعدم الشاهد الواضح. ومثله في ذكر السبب: كثرة العلقم حول حافتي النهر وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النهر ووكله الى رجل اسمه علقمة، فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة).