إبراهيم بنُ مالك الأشتَر ودوره في حركة المختار الثقفي
الحكمة – (خاص) :
محمد رضا مطر الشريفي
اسمه ونسبه:
هو إبراهيم بن مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي المذحجي(1). ومع فتح الكوفة وتمصيرها سنة 17 هـ انتقلت الكثير من القبائل العربية إليها من شبه جزيرة العرب واتخذوها مسكنًا لهم ومنها مذحج وخصوصًا النخع الذين نزلوها(2) ، وقد عرفت مذحج بتشيعها وموالاتها للإمام علي وأهل بيته (ع) حالها حال الكثير من القبائل العربية في الكوفة كخزاعة وعبد قيس وهمدان وكنده (3).
وينحدر إبراهيم من أسرة ضاربة في الشرف والسؤدد، فأبوه هو مالك الأشتر(رض)، وكان من أبرز حواريي الإمام علي (ع) وخلّص أنصاره، وكان جليل القدر، عظيم المنزلة، وكان اختصاصه بعلي (ع) أظهر من أن يخفى، شارك مع الإمام (ع) في حربي الجمل وصفين، وولّاه الإمام أمر مصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، وكان مقيمًا بصفين فكتب إليه كتابًا جاء فيه : ( أما بعد: فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم)(4)، فسار مالك إلى مصر لكنه اغتيل في طريقه إليها من قبل عملاء معاوية بن أبي سفيان، بسم دُس له في كأس من عسل، وذلك في سنة 38 هـ، وقد تأسف أمير المؤمنين(ع) بموته ، وقال : (رحم الله مالكًا لقد كان لي كما كنت لرسول الله (ص))(5) ، وفي رواية أخرى أنه لما نعي مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين (ع) تأوه حزنًا وقال : (رحم الله مالكًا، وما مالك عزّ عليَّ هالكًا، لو كان صخرًا لكان صلدًا، ولو كان جبلًا لكان فندًا، وكأنه قُدَّ مني قَدًّا)(6).
وهو صاحب العهد العتيد ذائع الصيت والمسمى بـ ( عهد مالك الأشتر ) والذي كتبه أمير المؤمنين(ع) إليه عندما ولاه مصر، والذي يعدُّ من أرفع الوثائق الدستورية والسياسية والإدارية في تأريخ الإسلام والإنسانية .
وهكذا فقد نشأ إبراهيم في أسرة كريمة أشربت في قلبها حب الإسلام وموالاة أهل البيت (ع)، ولم يذكر لنا التأريخ سنة ولادة إبراهيم ولا مكانها لكنه ذكر لنا أنه شارك في حرب صفين مع الإمام علي(ع) بين يدي والده وهو غلام فأبلى فيها بلاءً حسنًا وكان يكرُّ على معسكر معاوية وهو يرتجز :
يا أيهـا الســائل عنـي لا تــرع أقـدم فإني من عـرانين النخـعْ
كيف ترى طعن العراقي الجذع أطـير في يـوم الـوغى ولا أقـعْ
ما سـاءكـم سـر وما ضرّ نفـع أعددت ذا اليوم لهول المطلعْ (7)
إذ يقدر عمره بخمس عشرة سنة في صفين التي حدثت عام 37هـ . فيكون احتمال ولادته بين سنة 20 – 23 هـ ، والله أعلم .
وقد خلّف إبراهيم عددًا من الأولاد ذكر منهم : القاسم ، وخولان، ومالك ، والنعمان، وعبيد الله (8)، وأشهر هؤلاء هو النعمان بن إبراهيم، فقد كان شجاعًا شريفًا، من بيت مجد ورياسة .
روى إبراهيم الحديث عن أبيه مالك ، وروى عنه ابنه مالك بن إبراهيم ومجاهد. قال عنه العلامة ابن نما الحلي في معرض حديثه عن المختار الثقفي إنه كان مشاركًا له في البلوى ومصدِّقًا على الدعوى، ولم يكُ إبراهيم شاكًا في دينه ولا ضالًا في اعتقاده ويقينه (9).
شمائله وصفاته الشخصية :
حُبي إبراهيم الأشتر بالطيبات من الشمائل ووُهب الماجدات من الفضائل، لكن أبرز تلك الشمائل وأظهرها كانت شجاعته وإقدامه ونجدته للحق وحزبه، وعدم هيبته للباطل وأهله ، فقد كان بطلًا جسورًا من أبطال الوغى وأسدًا هصورًا عند اللقاء، لكن تلك الشجاعة لم تخرج به إلى البطر والأشر والتهور، فهو غالبًا ما كان يزن الأمور بميزان الحكمة والعقل فيدبرها أحسن تدبير، كما عُرف إبراهيم بتورعه في الدين وعفته عمّا في أيدي الناس وكرامة نفسه وسمو أخلاقه. وعرف أيضًا بفصاحته وبلاغته وحسن بيانه ، ومع قلة شعره الذي وصل إلينا.
دوره في حركة المختار الثقفي
أولًا : زناد الثورة الأول
أثار استحواذ معاوية بن أبي سفيان على السلطة سنة 40 هـ سخطًا واسعًا على بني أمية لدى جميع المسلمين وفي كافة الأقطار. وازداد ذلك السخط مع تنصيب معاوية لابنه يزيد للخلافة في رجب سنة 60 هـ (10) ، وكان ممن أمتنع عن بيعة يزيد الحسين بن علي(ع). وقد حفل عهد يزيد بأبشع الانتهاكات ضد الإسلام وأهله ففي عهده قُتل الحسين(ع) مطلع سنة 61 هـ (11) واستبيحت المدينة المنورة سنة 62 هـ ، فيما يعرف بواقعة الحرة (12)، وفي عهده حوصرت مكة على يد الحصين بن نمير ورُميت الكعبة بالمنجنيق وأحرقت بالنار سنة 64 هـ (13) .
وقد فتحت نهضة الإمام الحسين (ع) بابًا لم يُغلق من الثورات والحركات المناهضة لظلم السلطة الأموية الحاكمة فيما بقي من عمرها، وجعلت العقود السبعة اللاحقة من العهد الأموي مليئة بالثورات، مما عجل بسقوط الدولة الأموية. وكان من النتائج الأولى والسريعة لتلك النهضة حركة التوابين وثورة المختار الثقفي في الكوفة. التي كانت إحدى ثمار نهضة الإمام الحسين(ع).
لقد عرف المختار جيدًا الأجواء السياسية العامة في الكوفة، وقدّر بصورة مليّة الوضع النفسي للناس فيها، فاستعمل مهارته الفائقة في إثارة مشاعرهم القديمة في الولاء لبني هاشم ومعاداة بني أمية، بعدما رأوا منهم القسوة والفظائع التي ارتكبوها. كما إنه كان يعلم جيدًا بقوة التيار الأموي في الكوفة. ومن أبرز وجوه هذا التيار في الكوفة أشرافها وزعماؤها كقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ويزيد بن الحرث، وشبث بن ربعي، وعمرو بن حريث، وعمر بن سعد، وقد لعب هؤلاء دورًا خطيرًا في إفشال حركة مسلم بن عقيل (رض) كما أنهم زجوا الناس لحرب الإمام الحسين(ع).
لم تكن حركة المختار حركة شخصية، فمن الواضح أنه كان مدعومًا من بني هاشم، فهناك روايات تشير إلى إنابة الإمام علي بن الحسين (ع) لعمه محمد بن الحنفية في التعامل مع المختار وتأييده، فقد بعث المختار بكتاب إلى ابن الحنفية مع وفد من أهل الكوفة يطلب فيه دعمه، فقال لهم ابن الحنفية: (قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلما دخل ودخلوا عليه خبره بخبرهم الذي جاؤوا لأجله. قال : يا عم ، لو أن عبدًا زنجيًا تعصب لنا أهل البيت، لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليتك هذا الأمر، فاصنع ما شئت. فخرجوا، وقد سمعوا كلامه وهم يقولون : أذن لنا زين العابدين (ع) ومحمد بن الحنفية ) (14) .
وفي أول قدومه إلى الكوفة استعمل المختار الدعاية السياسية والحرب النفسية في الترويج لدعوته وكسب ودّ الناس بالدعوة إلى أنه القادم لطلب حق آل محمد والثائر لدمائهم. فاتجهت أنظاره نحو إبراهيم بن مالك الأشتر(رض) فسار قدمًا في كسب ولائه وتأييده. فأرسل إليه جماعة فأخذوا يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه، فوافق على الانضمام إلى حركة المختار بعد أن تأكد أن المختار حصل على تأييد بكتاب من محمد بن الحنفية يأمر فيه الشيعة باتباعه وإطاعته.
ومع انضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي بعشيرته ذات العز والعدد إلى المختار لم يبقَ أمامهم غير إعلان الثورة، فاجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة 66هـ، ووطنوا على ذلك شيعتهم ومن أجابهم. وقبيل الثورة خيّمت أجواء الريبة والحذر والترقب على الكوفة منبئة عن زلزال عنيف سوف يهز أركانها وأحياءها.
فقام الوالي ابن مطيع بتعبئة الجند وأعلن حالة الطوارئ القصوى، وفي ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار، فاعترض طريقهم قائد الشرطة وأراد أن يلقي القبض عليهم، فقام إبراهيم بمناورة سريعة تمكّن فيها من قتل قائد الشرطة عندما طعنه برمح في ثغرةِ نحره فصرعه. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار، فقال المختار فبشرك الله بخير فهذا طير صالح وهذا أول الفتح إن شاء الله)(15).
علم المختار أن الثورة قد بدأت وأن الإسراع في توجيه الضربات الاستباقية المباغتة للعدو هو عنصر فعال في نجاحها. و هاهي فعاليات الثورة قد بدأت بالعمل الخاطف.
إذن كان إبراهيم هو زناد الثورة الواري، وسيكون قطبها الناهض بجلّ رحاها، ولولا بطولته وشجاعته لما كتب لها النجاح. فدارت عدة معارك وبمختلف الجبهات في الكوفة بين الثوار وبين الأمويين، فكانت تلك الليلة من أطول الليالي في تأريخ الكوفة فقد ضمت أحداثًا جسامًا وجرت فيها معارك كثيرة ومتلاحقة، وقد أحرز فيها أصحاب المختار انتصارات جيدة مهّدت لإعلان النصر الكبير غداتها وكل ذلك بفضل إبراهيم ونجدته. ومع ارتفاع قامة الشمس ضحى يوم الثلاثاء انهزمت جموع ابن مطيع أمام جيش المختار.
أعاد المختار تنظيم صفوفه وقدم إبراهيم بن الأشتر أمامه وعبأ أصحابه، وبعد أن أبلى إبراهيم بلاءً حسنًا مع جنده وسيطروا على الكوفة، حاصروا ابن مطيع ثلاثة أيام في قصره . (16). فتسلل من القصر متخفيًا في زيِّ امرأة ثم غادر الكوفة.
وهكذا تكللت الجهود الجبارة التي بذلها إبراهيم مع المختار بالنصر المظفّر الخاطف الذي جاء بعد معارك مضنية وسريعة دامت ليلتين وثلاثة أيام وانتهت بخطاب النصر والفتح الذي ألقاه المختار على جموع أهل الكوفة.
ثانيًا : دوره في القضاء على انقلاب أشراف الكوفة
لما استتب الوضع للمختار في الكوفة دعا بإبراهيم بن الأشتر ، فعقد له عقدًا وأمره بالمسير إلى جيش الشام في الموصل، فخرج ومعه النخبة من جيش الكوفة ولم يتبق مع المختار سوى قوة قليلة، وعسكر إبراهيم بجيشه في ساباط المدائن. فحينئذ توسم أهل الكوفة من الموالين لبني أمية في المختار القلة والضعف، فخرجوا عليه، وجاهروه العداوة، ولم يبق أحد ممن اشترك في قتل الحسين (ع)، وكان مختفيًا إلا وظهر، ونقضوا بيعته، واجتمعت القبائل عليه من بجيلة والأزد وغيرها، فصارت الكوفة كلها على المختار سيفًا واحدًا(17)، فبعث المختار من ساعته رسولًا إلى إبراهيم بن مالك الأشتر(رض) وهو بساباط : (لا تضع كتابي حتى تعود بجميع من معك إلي). فوافاه إبراهيم في اليوم الثاني بخيله ورجله، ومعه أهل النجدة والقوة. وجاء البشير إلى المختار أن المتمردين ولّوا مدبرين، فمنهم من اختفى في بيته ، ومنهم من لحق بمصعب بن الزبير في البصرة، ومنهم من خرج إلى البادية، ثم وضعت الحرب أوزارها، وحلت أزرارها، ومحص القتل شرارها(18). وكانت تلك المحاولة الفاشلة للانقلاب على المختار وما أفرزته من نتائج سببًا كبيرًا من أسباب بدء حملة الانتقام من الأشراف وقتلة الحسين(ع) في الكوفة ومسوّغًا لإطلاق يده فيهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة (19).
ثالثًا : دوره في هزيمة جيش الشام وقتل عبيد الله بن زياد ( معركة الخازر )
لما تم للمختار القضاء على الانقلاب المسلح الذي قام به أشراف الكوفة بفضل إبراهيم الأشتر عاد إلى المهمة الأصلية التي انتدب إبراهيم إليها وهي مواجهة جيش الشام بقيادة عبيد الله بن زياد فأمر إبراهيم الأشتر بإعداد العدّة لذلك، فخرج إبراهيم، ثم سار يريد ابن زياد، حتى نزل ابن الأشتر نهر الخازر بالموصل وأقبل ابن زياد في الجموع، ونزل على أربعة فراسخ من عسكر ابن الأشتر، ثم التقوا فحض ابن الأشتر أصحابه على القتال وتزاحفوا ونادى أهل العراق : يا لثارات الحسين ، فجال أصحاب ابن الأشتر جولة، فناداهم : يا شرطة الله الصبر الصبر. ثم حمل ابن الأشتر على جيش الشام عشيًّا فخالط القلب، وكسرهم أهل العراق فركبوهم يقتلونهم، فانجلت الغمة وقد قُتل عبيد الله بن زياد وحصين بن نمير وأعيان أصحابه. وقام ابن الأشتر فاحتزّ رأس ابن زياد ، وبعث به إلى المختار وأعيان من كان معه. ثم بعثه المختار إلى محمد بن الحنفية بمكة ثم بعثها محمد إلى علي بن الحسين(ع) (20). وقد كانت هذه المعركة ونتائجها المذهلة أكبر نصرٍ يحققه المختار بواسطة إبراهيم الأشتر – رضي الله عنه – على الأمويين وكان مقتل عبيد الله بن زياد فيها من أكبر أحلامهما
مما عزز مكانتهما عند الشيعة عمومًا وعند بني هاشم خصوصًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، ج 6 ، ص 213.
(2) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 3 ، ص 80.
(3) البلاذري ، أنساب الأشراف ، ص 146.
(4) الرضي ، نهج البلاغة ( خطب الأمام علي ) ، ج 3 ، ص 76.
(5) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ، ج 42 ، ص 176.
(6) التفرشي ، نقد الرجال ، ج 4 ، ص 81.
(7) المنقري ، وقعة صفين ، ص 441 ؛ الفتوح ، ابن أعثم ، ج 3 ، ص 94.
(8) الخطيب البغدادي ، تأريخ بغداد ، ج 13 ، ص 210
(9) ابن نما ، ذوب النضار، ص 58.
(10) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، ص 250.
(11) الدينوري ، الأخبار الطوال ، ، ص 253
(12) اليعقوبي ،: تاريخ اليعقوبي ، ج 2 ، ص 250.
(13) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، ص 382.
(14) ابن نما ، ذوب النضار ، ص 97 .
(15) الطبري ، تأريخ الأمم والملوك ، ج 4 ، ص 497 – 498 . بتصرّف.
(16) م.ن ، ص 506.
(17) ابن أعثم ، الفتوح ، ج 6 ، ص 260.
(18) ابن نما الحلي ، ذوب النضار – ص 117 – 125 .
(19) ابن أعثم ، الفتوح ، ج 6 ، ص 244 .
(20) الطوسي ، الأمالي ، ص 238 – 243 بتصرف .
(مجلة ينابيع / العدد 63)
ض ح