لغة الضاد تنتشر في أوروبا
الحكمة – متابعة :
عدنان أبو زيد ..
انتقلت اللغة العربية من المجال الأكاديمي والبحثي في المعاهد والجامعات والمدارس العربية والمساجد في أوروبا، إلى الشارع حيث الحاجة تزداد إليها في المتاجر والأسواق، بسبب ارتفاع أعداد الجاليات العربية في المهجر، والإعجاب بالثقافة والعادات الإسلامية، وتدفّق البضائع والسلع العربية والشرقية، التي لم تعد حكراً في استهلاكها على المواطن العربي أو الشرقي، بل إن الأوروبي يستهلكها أيضًا. كما أن تعاظم الاهتمام الغربي في التعرف على الإسلام، أنعش الرغبات الغربية في تعلم لغة القرآن الكريم.
وبسبب ذلك، باتت رؤية حروف اللغة العربية، بشكلها الانسيابي المثير للأوروبي، أمراً مألوفاً في اللوحات الإعلانية، واليافطات، والإرشادات، التي تعلّق في الفضاء العام.
وإذا كان أمراً معتاداً أنْ تعرض المتاجر العربية، أسماء بضائعها وإعلاناتها بلغة البلد الأصلية، من إنكليزية وهولندية وألمانية وفرنسية، فإن المتاجر والدكاكين الأوروبية، لا تجد ضيرًا، اليوم، في التعريف بنفسها وبضاعتها باللغة العربية، بسبب انتشار أعداد الناطقين بلغة الضاد في البلدان الأوروبية.
الحرف الغريب
ويقول الشاب الهولندي وليم فرانك المتزوج من فتاة عراقية، ويقيم في مدينة لاهاي، في الشمال الهولندي: إنه شرع بتعلم لغة العرب، إذ لم يعد شكل الحروف وطريقة الكتابة من اليمين إلى اليسار غريبة عليه”.
غير أن الكثير من الهولنديين ينظرون إلى شكل الحرف العربي وكأنه أسلوب “زخرفي”، وليس حرفاً. ويستطرد فرانك: “بدا لي شكل الحرف العربي، مثل رموز كتابة (صورية)، أو لوحة تشكيلية جميلة، للوهلة الأولى”.
وبحسب فرانك، فإن “أشكال الحروف العربية الملفتة للأوروبيين، تثير الفضول لتعلم اللغة”.
ومع انتشار وسائل الميديا التي تنقل أخبار ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، واندلاع ثورات “الربيع العربي”، وقبل ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر، 2001، تنامى الانتباه إلى الفكر الإسلامي ومحاولة فهمه عبر إتقان العربية، ليصبح لدى البعض، نوعاً من الضرورة التي يعززها الفضول.
ويعرج المؤرِّخ اللبناني، فيليب دي طرازي، في كتابه “اللغة العربية في أوروبا” على تاريخ الاهتمام الغربي بلغة الضاد، فيقول: إن “ملوك أوروبا ونبلاءها اهتموا باللغة العربية، منذ أوائل القرن العاشر الميلادي، فحرصوا على نقل المخطوطات العربية من بلاد الشرق، سواء إبان الحروب الصليبية أو عن طريق وسطاء لهم، لجمع ما ندر من المخطوطات، وشاعت اللغة العربية في القرون الوسطى لكثرة المتكلمين بها ولشهرة فلاسفة الإسلام آنذاك”.
كلمات عربية متداولة في الشارع الأوروبي
ومنذ نحو العقد من الزمن، باتت كلمات مثل “حلال” و”السلام عليكم” و”مرحبًا” و”أهلا وسهلا” و”الحمد لله”، تجري على ألسنة الكثير من الغربيين، فيما شرعت متاجر أوروبية في كتابة أسماء الكثير من بضاعتها الشرقية باللغة العربية، مثل سوق لاهاي في هولندا والتي تأسست في نهاية ثلاثينيات القرن
الماضي.
بل إن هذه السوق تتحوّل إلى سوق عربية بامتياز في أوقات العطل، ونهاية عطلة الأسبوع، بسبب تواجد أفراد الجاليات العربية والمسلمة فيه بشكل واسع، حيث ترتفع أعداد الزائرين للسوق، إلى الآلاف.
واعتادت بائعة السلع الشرقية، الهولندية فيان هانس، على استعمال الكثير من الكلمات العربية، التي اضطرت إلى تعلّمها بسبب حاجتها إليها في الترويج ببضاعتها باسمها العربي، مؤكدة أن “ذلك يدفعها إلى اتباع دروس لغة عربية في المستقبل القريب لغرض إتقانها” لاسيما، وأنها متزوجة من رجل مغربي، والعربية هي لغته الأم.
فيما يكشف بشير العبيدي، رئيس “المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية”، في مدينة فيرونا الإيطالية، عن جانب من فعاليات تعزيز اللغة العربية في أوروبا بـ”انطلاق أعمال برنامج المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية”، في دير أثري، في بداية نيسان الماضي، بتلاوة للقرآن الكريم، التي امتزجت في الأسماع مع أجراس الدير، ما يؤكد التنوع الثقافي والديني الذي أضحت عليه المجتمعات
الأوروبية”.
اعترافات معلّم
لكن معلّم اللغة العربية، العراقي حسين الياسري، المقيم في هولندا، منذ عقدين من الزمن، ويتكفّل بإعطاء دروس في لغة الضاد لأبناء الجالية العراقية والعربية، في بيته مقابل أجور رمزية، يقول في حديثه ﻟ”الصباح”: إن “اللغة العربية تكاد تندثر بين الجيل العراقي الجديد الناشئ في المهجر”، مشيرًا إلى “غزو الحروف اللاتينية، في التعبير الكتابي لدى الأطفال والشباب، بسبب المنهاج التعليمي في المدارس الغربية، التي لا تتوفر فيها حصص للغة العربية”.ويكشف الياسري الذي يعمل مترجمًا أيضًا، عن أن “ازدياد أعداد المهاجرين واللاجئين، من الدول العربية والإسلامية، أظهر الحاجة إلى مترجمين باللغة العربية، لتسهيل التعامل مع القادمين الجدد، فلم تعد العربية غريبة عن الديار الأوروبية، وهو ما اضطر المستشفيات والمؤسسات الحكومية والخاصة، إلى إصدار نسخة عربية لمنشوراتها وتعليماتها وأنظمتها”.
ويتابع: “تجد على الدوام، مثل هذه المنشورات بعدة لغات أبرزها العربية”. وإلى جانب ذلك، يرى الياسري أن “الهواتف المحمولة والتلفزيون الغربي وشبكات التواصل الاجتماعي، تسببا في انحسار شكل الحرف العربي في الكثير من الكتابات والتدوينات، لصالح الآلية الغربية في الكتابة”.
ومنذ 2001، وافقت وزارة التعليم في الحكومة الفلامنكية في بلجيكا، على السماح بتدريس اللغة العربية في المدارس البلجيكية، لأبناء الجاليات العربية الذين يعيشون في هذا الجزء من البلاد.
إن الإقبال على تعلم اللغة العربية في هولندا وألمانيا وبلجيكا، ودول أخرى، يعكسه تزايد الاهتمام بتدريس اللغة في جامعة لايدن الهولندية العريقة، صاحبة الريادة في مجال الاستشراق، منذ تأسيس أول كرسي للغة العربية، فيها في 1613، وهو من أقدم الكراسي الدراسية في أوروبا. ولا يزال هذا التقليد مستمرا حتى الآن.
وفي جامعات لايبزج وهايدلبرج وبون في ألمانيا، يستمر تدريس لغة العرب، على الرغم من الصعوبات الكبيرة في تعلمها، لاختلاف قواعدها وأسلوب كتابتها وطريقة تعبيرها عن اللغات الأوروبية.
صراع اللغات
ويشير الأكاديمي الدكتور ستار سعيد زويني، إلى “مراكز اللغة العربية في الجامعات الأوروبية، التي تتلقى دعماً كبيراً من حكوماتها ومصادر أخرى، وتحصل على اهتمام إعلامي
أكثر”.
لقد أدى الشعور بالنقص “التاريخي” و”الثقافي” لدى البعض، إلى إهمال النطق باللغة العربية، وإتقان لغة أخرى، لاعتقاده انها أهم وأفضل من اللغة العربية، وتشعره بالتفوق والامتياز على أبناء قومه من الناطقين بالعربية، ما جعله يفضل اللغات الأخرى على اللسان الأم، في الإعلام والتعليم والتعامل اليومي.
اللغة والثقافة الاجتماعية
ويعد شارع “إيلرشتراسه”، من أكبر الشوارع “العربية” في دسلدورف في ألمانيا، بسبب الأعداد الهائلة من الزوار العرب إلى جانب الألمان والجنسيات الأخرى، حيث تعرض متاجره، البضائع العربية والشرقية التي لا يملكها عرب فحسب، بل ألمان أيضا، أصبحوا جزءا من الثقافة العربية سواء في العادات الاجتماعية، أو استخدام بعض المفردات اللغوية، لإسماع صوتهم إلى جمهور الباعة والمستهلكين من حولهم.
ويقول رؤوف حسن، صاحب مطعم عربي يقدم الأكلات الشرقية لزبائنه:
إن “أكثر ما يجذب الأوروبيين إلى الثقافة العربية، هي المطاعم، التي تحولت إلى أكثر من مجرد مكان لملء المعدة، بل إلى منتدى لاندماج ثقافات الشعوب الاجتماعية”.
ويزيد في القول: “بعض الألمان يطلبون حاجتهم من وجبة الأكل باسمها العربي، وهذا دليل على انتشار الثقافة العربية، سواء في العادات الغذائية أو اللغة على حد سواء”.
مشاهد شرقية
ويرى مدرس اللغة العربية المغربي، عبد الرحمن فاسي، أن “المساجد، لها دور كبير في انتشار اللغة العربية، بين الأجيال العربية الجديدة، فضلا عن ازدياد الاهتمام بالمنطقة العربية من قبل الأوروبيين بسبب الأحداث السياسية في الشرق الأوسط، وتأثيرها الكبير في الأوضاع في أوروبا”.
وفي لندن العاصمة البريطانية، فإن شارع “أجور رود” بات مَعْلماً عربياً بامتياز، بعدما امتلأ بالمتاجر العراقية والعربية، وأصبحت المشاهد الشرقية هي الطاغية عليه، حيث التعامل اليومي باللغة العربية، يمد جسور التفاهم والتحاور مع أبناء الجاليات، كما توزع الصحف العربية هناك في كل صباح، ويرتاد الأجانب والعرب، المقاهي والمطاعم على حد سواء.
وإذا استمرت وتيرة الحاجة إلى لغة الضاد في الدول الأوروبية، فإن من غير المستبعد أن تصبح منهجًا “مدرسيًّا” في الكثير من الدول التي تزداد فيها أعداد الناطقين بالعربية، وتساعد على ذلك الأنظمة والقوانين، التي تعد التفاعل مع الثقافات الأخرى، تحولاً اجتماعياً منطقيًّا لا بد من الاستجابة له بتعديل الأنظمة والقوانين.
ض ح