الذكرى الحادية والثلاثون لرحيل حجة الإسلام الشهيد المظلوم السيد محمد حسن الحكيم (قده)
حجة الإسلام السيد محمد حسن الحكيم
( سليلُ الفقاهة والشهادة )
بقلم : السيد مقداد الحكيم
ولادته :
ولد شهيدنا الغالي السيد محمد حسن في مدينة النجف الأشرف ( مدينة العلم والفضيلة ) في بيت مفعم بالإيمان ومترع بالتقى ومغدق بالعلم حيث كان خامس إخوته يكبره منهم ثلاثة كلهم امتازوا بجِدّهم واجتهادهم وقد غذتهم أمهم (رحمها الله) سليلة الإمام الحكيم (قده) وهم بعد في أوائل فطنتهم حب العلم والعمل الصالح وما أن نشأوا إلا وقد سارع أبوهم (قدس سره) وهو المربي الكبير والعالم الرباني الجليل آية الله السيد محمد علي الحكيم الى تنشئتهم وتعليمهم بأفضل نشأة وأطلعهم على معارفه وعلومه التي قد حباه الله بها حتى امتازوا بحسن العمل وساروا بأفضل الطرق المقربة إلى ربهم عز وجل وسلكوا طريق العلم والفقه طريق التقوى والمعرفة عن أكمل بصيرة وأوضح رؤية.
وبعد كل ما ارتشفهُ من والده أخذ أخواه الكبيران ( آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم والمرحوم آية الله السيد عبد الرزاق الحكيم ) يغدقان عليه من علومهما ويتابعان دروسه ويمدانه بما يحتاجه من العلوم الدينية.
نشأته :
هكذا نشأ فقيدنا الغالي بين العلم والفضيلة في بيته وأسرته كذلك تلقاها من أخواله بل ومن أرحامه ورجال أسرته أو من الفضلاء من أعلام النجف الأشرف فجعل ينتهل من الجميع ما استساغه ويرتوي من تجاربهم وفضلهم ما سمعه ويحضر مجالسهم ويستمع لإرشاداتهم ويشارك – وهو الحريص على العلم – في مجالس العلم ونوادي المعرفة بالبحث والمناقشة التي يحتدم فيها النقاش ويرتفع فيها الصوت من أجل حل مسالة أو فك لغز أو فهم مطلب بهذه المجالس اشتد عوده وقويت رؤيته وتخطى مدارج الكمال وارتقى مراتب المعرفة.
أساتذته :
قد أنس بالاستفادة من جماعة من معروفين بالفضل بين أبناء الحوزة ومشهود لهم بحسن الأداء العلمي فانصقلت خبرته التي أغدقها فيما بعد على طلابه الذين استفادوا منه إذ حضر في مقدمات دروسه الحوزوية حتى وصل إلى آخر السطوح في درس الأصول عند أخيه الأكبر المرحوم آية الله السيد عبد الرزاق وحضر درس اللمعة عند المرحوم حجة الإسلام السيد محمد تقي الخلخالي كما حضر درس الرياض وقسما من كتاب المكاسب عند المرحوم آية الله الشيخ محمد تقي الإرواني ثم انتقل في الحضور لدرس في كتاب المكاسب مـــوسع ( خارج ) عند والده ( قدس سره ) وحضر البحث الخارج في الفقه والأصول عند أخيه الأكبر آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم ( دام ظله ) كما حضر مدة تزيد عن الخمس سنين عند المرحوم زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الخوئي ( قدس سره ).
تلامذته :
أما طلابه وحضار دروسه الذين كان يزرع فيهم الجدية في الدرس والتحصيل فهم كل من حجج الإسلام والمسلمين السيد رياض ابن أخيه السيد محمد سعيد وأخويه السيد علاء الدين والسيد عز الدين وكذلك ابن أخته السيد محمد ابن السيد كاظم القاضي والسيد حسن ابن السيد رضي المرعشي والمرحوم الشهيد السيد حسن ابن خاله الشهيد السيد عبد الهادي الحكيم والشهيد السيد عبد المجيد ابن السيد الخوئي ( قده ).
( وبــرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً ) :
كان شهيدنا الغالي – وهو ما يتحلى به عموم أهل العلم والفضيلة – براً بوالديه وصولاً لأرحامه يعود مريضهم ويتفقد غائبهم ويحنو على صغيرهم, و من جميل ما تحدث به والده ( قده ) عنه قال : ( أن السيد محمد حسن كان كثيراً ما يشارك في النقاش العلمي بين زملائه وإخوانه فإذا تكلم معي وأجبته فانه ينصرف عن المسألة ويسكت ولا ياخذ بالحديث المألوف والمناقشة العلمية معي فأثارت تلك الحالة إستغرابي وظننت أن ذلك سبباً لضعفه العلمي فآلمني ذلك وسألت أخوه ( السيد عبد الرزاق ) عنه وعن وضعه العلمي -لاجل كثرة لقائه به – فأجابني بعكس ذلك وأنه جاد في البحث والمعرفة لكنها حالة مثيرة للاستغراب !!! بعد أن سأله السيد عبد الرزاق أجاب إنني قد رأيت رواية تنهى عن رفع الصوت أمام الوالدين فلم يرق لي ان يرتفع صوتي بمحضر والدي خوفاً من سخط ربي ) فهنيئاً له رضا أبويه عنه فقد ورد في الحديث عن النبي ( ص ) : ( رضا الله مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين ).
الرحيل الأخير والاستجابة لضيافة الله في شهره :
(ليس لي ان أُؤبّن مظلوماً قضى نحبه بين جلاوزة لا رأفة لهم ولا رحمة وليس لي أن أذكر مصاباً حل بمؤمن قضى عمره من أجل رضا ربه وخدمة أهل بيت نبيه فإنه عزوجل قد تكفل بأخذ حقه يوم تعرض عليه مظالم عباده ( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ 🔹 النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ 🔹إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ 🔹 وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ 🔹وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ🔹 )
(نعم لي إلا ان أودِّع شهيدنا بقصته لتسجل للتاريخ أمام من يقف بتمعن وتأمل بما مرٓ على هذه الأمة بعد فقد نبيها ( ص ) وغيبة إمامها ( عج ) كيف لوحقوا كيف ظلموا كيف عذبوا كيف قتلوا إنها مظالم تتبعها مظالم ولا يأخذ بوترهم إلا الله ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 🔹إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 🔹… 🔹 الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ🔹 فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ 🔹فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ 🔹 إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ 🔹)
معاناته مع المرض :
تحمّل شهيدنا مرارة ألمه ومرارة مرضه الذي سطى عليه وأخذ من نشاطه ومن قوته حيث ابتلي بمرض السرطان قبل السجن بمدة ولم يشف منه إلا بعد جرعات الكيمياوي فانهدت قواه وضعف عوده وصاحبت آلامه دموع أمه التي سهرت عليه وآهات زوجته التي كانت تزفر كلما ينتكس بآلامه وصرخات حبيبته ( ابنته ) التي كانت ثمرته التي يشمها كل حين وجاءت بشارة البشير بشفائه لكن كان القدر ينتظره بدل أن تغمض عينيه أيدي أحبته آل إلى ظالم متعسف يتعامل معه بقسوة قلب آه لحزنكم واآامكم يا شيعة آل محمد كم من حرمة لكم انتهكت وكم من جرح لكم نزف (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) فلكم بذلك المراتب العالية والجوار الكريم مع محمد و آله الطيبين.
كابد مرارة السجن وألم الظلم بصبر وثبات وتسليم لأمره تعالى ولما بلغه وهو في السجن أن عشرة من الأسرة ممن كان معتقلا معه قد اقتادهم الجلاوزة إلى مقصلة الإعدام (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله … ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز / ٤٠ سورة الحج ).
انهدّ ركنه وخارت قواه فكان ألما فوق ألم وحزنا يتبعه حزن ابتدأ المرض يتسلل لجسده النحيل تسلل الظلام بعد الغروب – وشاء الله أن تبدأ المعاناة له عناية به ( ره ) ليرفع له درجاته – بان الوهن والضعف عليه وخارت قواه وبدا الضمور يظهر في جسده ورجليه حتى لم يعد يطيق التخطي في سجنه إلا خطوات يسيرة وكان إخوانه ومحبوه يطلقون النداء تلو الآخر لإدراكه وعلاجه من المرض الذي انتابه فما من مجيب ( و ما أنت بمسمع من في القبور ) ولا من ضمير حي يرأف برجل صالح قد أوهنه الألم وهدّ ركنه المرض أو يسمع صرخات السجناء لعلاجه حتى عادت أفخاذه كساقه ضعفا وضمورًا.
وفاته :
في الخامس من من شهر رمضان / ١٤٠٥ هـ المصادف ٣/ ٦ / ١٩٨٤ م كان وداعه الأخير لإخوته حيث جاء الجلاوزة وأمروا بنقله إلى المستشفى فلم يطق الحركة رغم صباحة وجهه الوضاء وبشاشة محياه البهي لكن الضعف قد إستولى عليه وشتد حاله.
بعد قليل من نقله إلى مستشفى السجن يأتي نداؤه الأخير إلى إخوته ويستدعي أخوه آية الله السيد محمد صالح الحكيم ليودعه وليوصه بوصاياه بأيتامه حيث ترك في النجف ولده وغاليه ( أمين ) الذي فارقه وهو بعد في السنة الثانية وثمرته الكبيرة وابنته الصغيرة التي لم يكن قد علم بعدُ بقدومها إذ ترك زوجته حاملاً ولم يكن قد أوصى بصلاة أو صيام أو غير ذلك إذ لم يقصر بعبادته ولم يترك أوامر ربه.
وهنا ينتهي اللقاء بلثمات يودعه بها أخوه الذي عاش معه وشاركه في أفراحه وأتراحه في آلامه وأحزانه في سروره وفي حبوره وعاد إلى سجنه، أما شهيدنا فقد إنقطع خبره عنهم بوداعه ولم يسمعوا باستشهاده الا بعد اللقاء بالأسرة ( في المواجهة العامة لهم ) بتاريخ ١/ رجب الحرام / ١٤٠٧ هـ / ١ /٣ / ١٩٨٧م.
جاء بعض السجناء – وكان ممن أرسل إلى تلك المستشفى – بتاريخ ١٤١٠ هـ ١٩٩٠ م – بعد غزو صدام للكويت – قال إنني أحمل رسالة شخصية من رجل قابلته في ذلك المستشفى قد توطدت علاقتي به قال لي ذلك الرجل إنني أحمل سراً منذ سنوات أرى انني ملزم بإيصاله ( وجعل يصف شهيدنا بأنه أبيض كث اللحية عليه سيماء الصالحين ) تكفلت بمراقبته ومتابعة علاجه … وفي كلام مفصل يذكره ابن أخ الشهيد سماحة السيد رياض ابن المرجع الكبير السيد الحكيم ( مد ظله ) قال دخل رجل يحمل حقيبة ثم أمرنا بالخروج وسرعان ما خرجنا وبعد ذلك خرج هو أيضا فأسرعنا إلى المريض وإذا به بوضع غير اعتيادي سألته أجاب إن الرجل قد زرقه بإبرة …!!!
حيث قضى بها على حياته المليئة بالإيمان بالله ورسوله مليئة بالمحبة للرسول وأهل بيته مليئة بالولاء والعفة مليئة بمحبة العلم والفضيلة.
ما بعد وفاته :
خاتمة المطاف ونهاية الألطاف أن يعود جسد شهيدنا إلى النجف ليدفن وهو مضرج بدمائه في ثرى عليٍ عليه السلام وتكون ليلة وحشته ليلة القدر ليلة الرحمة الإلهية ليلة هي عند الله خير من ألف شهر، أُبلغنا بوفاته في يوم ٢٢ / شهر رمضان / ١٤٠٥هـ بعد أن عاد آية الله السيد محمد علي الحكيم من زيارة الإمام أمير المؤمنين ( ع ) يقدم الجلاوزة إلى دار آية الله السيد يوسف الحكيم ( قدس سره ) ويطلبوا السيد محمد علي إلى مديرية الأمن فياخذوه معهم وبعد بعض الاستفسارات يدفعوا له ولده فيراه بتلك الصورة الحزينة ثم يأخذوا الجسد إلى وادي النجف ليدفنوه بدون أن تُجرى عليه أية مراسيم تكريم تليق به، وهنا يودع الأب فلذة كبده السيد محمد حسن ذلك الشهيد المظلوم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ورحم الله من قرأ سورة الفاتحة لروحه الطاهرة
المصدر : مجموعة موالون الثقافية