الحكمة – متابعة: حرب الخليج الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، وتلك الثانية في عام 1991، والغزو الأميركي للبلاد في عام 2003، وموجة العنف الطائفي 2006 – 2007… محطات أربع في العراق، أضيفت إلى ويلاتها وخسائرها مأساة مختلفة هي “مفقودو الحرب”.
أن تفقد عائلة أحد أبنائها من دون معرفة مصيره، من أشدّ الآلام التي يصعب على الزمن أن يمحوها. وفي العراق، تعود مأساة المفقودين إلى أكثر من 35 عاماً، على امتداد سنوات الحروب والصراعات المحلية والإقليمية. وعشرات الآلاف هم المفقودون من شباب العراق، من دون أن يعرف أحد إن كانوا في عداد الموتى أو الأحياء. أما عائلاتهم المكلومة، فتأمل معرفة مصيرهم، أو الحصول على خبر من هنا أو هناك، لعلّ أحدهم يكون حياً في إحدى الزنازين أو السجون والمعتقلات.
في تقرير أصدرته وزارة حقوق الإنسان العراقية بعد عام 2003، أفادت بأن “خمسين ألف عراقي فقدوا خلال حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية الإيرانية) في ثمانينيات القرن العشرين، فيما تجاوز عدد الجنود المفقودين في حرب الخليج الثانية في عام 1991، الألفَي مفقود. لكن التقرير لم يحدّد عدد المفقودين خلال الغزو الأميركي للعراق في عام 2003، لتستمرّ من بعدها قائمة المفقودين بالتضخّم. إلى ذلك، قدّرت الوزارة في تقريرها مفقودي موجة العنف الطائفي التي عصفت بالبلاد عامَي 2006 و2007، بنحو 17 ألف مفقود.
يقول المحلل السياسي، ستار القيسي، إنّ “حرب الثمانينيات بين العراق وإيران شهدت عمليات أسر متبادلة بين الطرفين، وقع ضحيتها عشرات آلاف الإيرانيين والعراقيين”. يضيف لـ “العربي الجديد” أن هذا الأمر “تسبب بمشاكل اجتماعية خطيرة، إذ إن في ذمّة المفقود ربما أموراً اجتماعية عديدة معلقة كديون مالية ومعاملات رسمية وقضايا إرث وما إليها”.
وعقب عام 2003 بدأت تتكشف أجزاء من قصص الأسرى والمفقودين العراقيين في حرب الخليج الأولى، من خلال أعمال حفر ومشاريع عديدة في الأراضي، التي شهدت معارك متبادلة بين الطرفين العراقي والإيراني.
ويقول الناشط، مازن البصري، لـ “العربي الجديد” إنّ “عدداً كبيراً من رفات المفقودين اكتشف خلال إنشاء بعض المشاريع أو بسبب عوامل التعرية أو الحفر، وقد وجدت بالإضافة إلى رفاتهم، ملابسهم وهوياتهم التعريفية العسكرية الخاصة. يُذكر أن عائلات هؤلاء، لم تكن تعرف عنهم شيئاً منذ نحو 30 عاماً”. وقد نُقل عدد كبير من الرفات التي اكتشفت إلى دوائر الطب العدلي لفحص الحمض النووي، بهدف معرفة هويتها وطمأنة ذويها.
إلى ذلك، كشفت وزارة حقوق الإنسان في عام 2015، عن قائمة تضم أسماء مائتي مفقود عراقي في حرب الخليج الأولى (1980- 1988)، اكتشفت رفاتهم خلال أعمال الحفر المشتركة مع الجانب الإيراني في بلدة الفاو في محافظة البصرة في منطقة المملحة، عند جزر مجنون النفطية، وفي محافظة ميسان عند مقبرة حطين جنوب العراق، وفي محافظة السليمانية شمالاً.
وفي عام 2013، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العراق عن “العثور على رفات 800 مفقود في حرب الخليج الأولى تعود إلى الطرفين”، بحسب ما جاء في بيان لنائب مدير عمليات لجنة الصليب الأحمر، باترك يوسف. ولفتت اللجنة إلى أنّ البحث جارٍ عن عشرات آلاف المفقودين.
من جهة أخرى، أجريت عمليات تبادل بين الجانبين العراقي والإيراني ما بين عامَي 2008 و2011، لرفات مفقودين. وفي حين سلّمت عشرات الرفات إلى ذويها، بقيت عشرات أخرى مجهولة الهوية. وقد أتى ذلك بعد مذكرة تفاهم وقّعها الجانبان العراقي والإيراني في عام 2008، قضت بتكثيف إجراءات البحث عن رفات المفقودين من الطرفين وتسليمها إلى ذويها والكشف عن مصيرهم والتنسيق في مجال المعلومات المتعلقة بهذا الخصوص.
وظلّ العراقيون يفقدون أبناءً لهم بعد حرب الخليج الأولى، والمحطة الثانية كانت مع حرب الخليج الثانية (أو عملية عاصفة الصحراء) التي فقد خلالها أكثر من ألفَي عراقي بحسب بيانات وزارة حقوق الإنسان. واستمرت رحلة معاناة الأسر العراقية إلى ما بعد الغزو الأميركي في عام 2003، وإلى موجات العنف الطائفي في 2006 – 2007.
ويوضح رئيس “منظمة صدى”، مثنى العامري، لـ “العربي الجديد” أنّ “عشرات آلاف العائلات العراقية ما زالت تبحث عن أبنائها الذين فقدوا في تلك الأحداث الأمنية، وثمّة سجلات خاصة وثقنا فيها أسماء وعناوين المفقودين وصفاتهم الجسمانية لمطابقتها مع ما يمكن العثور عليه من رفات أو ممتلكات أو ملابس. وبالفعل ساعد ذلك في الماضي على اكتشاف مصير العشرات”.
وفي السياق نفسه، خصص ناشطون على موقع فيسبوك صفحة للمفقودين والأسرى، ينشرون فيها صوراً لرفات جنود عراقيين وبقايا من ملابسهم وهوياتهم عُثر عليها. وقد اكتشفت عائلات عراقية ما حلّ بأبنائها المفقودين خلال حرب الخليج الأولى، حين نشر هؤلاء الناشطون صوراً لهويات جنود عراقيين وجدت مع رفات مدفونة عند الحدود العراقية الإيرانية. ظافر سالم لم ينعم بعد بمعرفة مصير والده، الذي فُقد في مطلع الثمانينيات. يقول لـ “العربي الجديد”: “كلما نشرت صور لهويات أو بقايا رفات، سارعت إلى التدقيق فيها، لعلّي أجد خبراً عن والدي، أسوة بعائلات مفقودين عرفوا مصير أهلهم وأبنائهم ولو بعد 30 عاماً”.
ويرى حقوقيون أنّ عائلات المفقودين العراقيين تعاني كثيراً، فمصير زوجات المفقودين مثلاً يبقى مجهولاً. بعضهنّ طلبن الطلاق غيابياً، وبعضهن رفضن الزواج من جديد على أمل عودة أزواجهنّ. ويقول الحقوقي فاضل السلماني، لـ “العربي الجديد”، إنّ “القانون حاول إيجاد حلول لعدد من تلك المسائل، لكن ذلك يبقى غصة. ذوو المفقود لا يقطعون الأمل بعودته، أو على أقلّ تقدير العثور على رفاته أو ما يثبت وفاته”.