ذكرى شهادة ولدَي مسلم بن عقيل (عليهم السلام) في 23 من ذي الحجة الحرام
399
شارك
توطئة: ثورة الطف التاريخية شهدت من الأحداث تنوعا فاق أي أحداث أخرى في تاريخ البشرية، تلك الاحداث التي اضفت عليها معالم خاصة كشف بعضها المستوى الإنساني والأخلاقي الذي كانت تعيشه الأمة وقتها. لقد جاءت الثورة الحسينية لتعلم البشرية معنى الإنسانية وقيمها عبر كشف حقائق إناس ادعوا ـ كما يدّعي اليوم الكثير من الناس التدين أو التطور ومراعاة حقوق الانسان، لكن في واقعه يعيش الازدواجية في الشخصية والمعايير. محمد وعبد الله ولدا سفير الحسين الشهيد الخالد السيد المقدام مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليهم السلام غلامان كانت لهما مشاركة في واقعة الطف العظيمة إلا أنها لم تكن لأيام أو ساعات بل استمرت حتى تجاوزت السنة في أحداث شملت مضامين عظيمة، ويوم الثالث من شهر ذي الحجة الحرام ذكرى شهادتهما المفجعة وفيما يلي ملخص ما وقع لهما:
في سجن ابن زياد: لما قتل الإمام السبط الحسين بن علي عليهما السلام، أُسر من معسكره غلامان صغيران، فأتي بهما عبيد الله بن زياد، فدعا سجّاناً له وقال: «خذ هذين الغلامين إليك، فمن طيب الطعام فلا تطعمهما، ومن البارد فلا تسقهما وضيّق عليهما سجنهما»، وكان الغلامان يصومان النهار فإذا جنهما الليل أتيا بقرصين من شعير وكوز من ماء قراح. ولما طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة قال أحدهما لصاحبه: «يا أخي قد طال بنا مكثنا ويوشك ان تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا، وتقرب إليه بمحمد صلى الله عليه واله لعله يوسع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا». فلما جنَّهما الليل أقبل الشيخ اليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح فقال له الغلام الصغير: «يا شيخ أتعرف محمداً؟». قال الشيخ: كيف لا اعرف محمداً وهو نبيي؟ قال الغلام: «افتعرف جعفر بن أبي طالب؟». قال: وكيف لا اعرف جعفراً وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء؟ قال: «أفتعرف علي بن ابي طالب؟» قال: وكيف لا اعرف علياً وهو ابن عم نبيي وأخو نبيي؟ فقال له: «يا شيخ: فنحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله ونحن من ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب بيدكَ أسارى، نسألك من طيب الطعام فلا تطعمنا ومن بارد الشراب فلا تسقنا، وقد ضيّقت علينا سجننا». فانكب الشيخ على أقدامهما يقبلها ويقول: «نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح، فخذا أي طريق شئتما». فلما جنّهما الليل آتاهما جاءهما بقرصين من الشعير وكوز الماء القراح، ووقفهما على الطريق وقال لهما: سيراً يا حبيبيّ في الليل واكمنا في النهار حتى يجعل الله عز وجل لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً، ففعل الغلامان ذلك.
عند عجوز مؤمنة: فلما جنهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب، فقالا لها: «يا عجوز إنا غلامان صغيران غريبان حدثان، غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا أضيفينا سواد ليلتنا هذه فإذا أصبحنا لزمنا الطريق؟». فقالت المرأة العجوز: فمن أنتما يا حبيبي فقد شممت الروائح كلها فما شممت رائحة هي أطيب منكما؟ قالا: نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل. قالت العجوز: يا حبيبيّ إنَّ لي ختناً[1] فاسقاً قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد، أتخوف أن يصيبكما هنا فيقتلكما. قالا: ضيّفينا هذه الليلة، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق. فقالت: سآتيكما بطعام ثم أتتهما فأكلا وشربا. فلما كان بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتى قرع الباب قرعاً خفيفاً، فقالت العجوز: من هذا؟ قال: أنا فلان. قال: ما الذي أطرقك هذه الساعة وليس هذا لك بوقت؟ قال: ويحكِ افتحي الباب قبل أن يطير عقلي، وتنشق مرارتي من جوفي، جهد البلاء قد نزل بي. قالت: ويحك ما الذي نزل بك؟ قال: هرب غلامان صغيران من عسكر ابن زياد فنادى الأمير في معسكره: من جاء برأس واحد منهما فله ألفا درهم، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء. فقالت العجوز: يا ختني احذر أن يكون محمد خصمك يوم القيامة! فقال لها: ويحك إن الدنيا محرص عليها. فقالت: وما تفعل بالدنيا وليس معها آخرة؟! قال: إني أراك تحامين عنهما كأن عندك من طلب الأمير شيء فقومي فإن الأمير يدعوك؟ فقالت: وما يصنع الأمير بي، وإنما أنا عجوز في هذه البرية! قال: إنما لي ـ الطلب ـ افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح، فإذا أصبحت بكّرت في أي الطريق آخذ في طلبهما، ففتحت له الباب وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب. فلما كان بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فاقبل يهيج كما يهيج البعير، ويخور كما يخور الثور، ويمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير، فقال له: من هذا؟ أما أنا فصاحب المنزل فمن أنتما؟ فأقبل الصغير يحرك الكبير ويقول: قم يا حبيبي فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره. قال لهما: من أنتما؟ قالا له: إنْ صدقناك فلنا الأمان؟ قال: نعم. قالا له: أمان الله وأمان رسوله وذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه واله؟ قال: نعم. قالا: ومحمد بن عبد الله على ذلك من الشاهدين؟ قال: نعم. قالا: والله على ما نقول وكيل وشهيد؟ قال: نعم. قالا: يا شيخ نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه واله، هربنا من سجن ابن زياد من القتل. فقال لهما: من الموت هربتما وعلى الموت وقعتما، الحمد لله الذي أظفرني بكما، فقام إلى الغلامين فشد أكتافهما فباتا كذلك.
يوم الشهادة: فلما انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود يقال له: فُليح، فقال له: خذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات واضرب أعناقهما وائتني برؤوسهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد، وآخذ جائزة ألفي درهم، فحمل الغلام السيف ومشى أمام الغلامين فما مضى إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا أسود ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: إن مولاي أمرني بقتلكما فمن أنتما؟ قالا له: يا اسود نحن من عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا. فانكب الأسود على اقدامهما يقبلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي وجهكما الوقاء، يا عترة نبي الله المصطفى، والله لا يكون محمد خصمي يوم القيامة، ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني؟ فقال: يا مولاي إنما أطعتك مادمت لا تعصي الله، فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة. فدعا ابنه فقال: يا بني انما اجمع الدنيا حلالها وحرامها لك والدنيا محرص عليها، فخذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطئ الفرات، فاضرب اعناقهما وأتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم. فأخذ الغلام السيف ومشي أمام الغلامين فما مضيا إلا غير بعيد حتى قال أحد الغلامين: يا شاب ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم؟ فقال: يا حبيبي فمن أنتما؟ فقالا: من عترة نبيك محمد صلى الله عليه وآله يريد والدك قتلنا! فانكب الغلام على اقدامهما يقبلهما ويقول لهما: مقالة الأسود ورمى بالسيف ناحية وطرح نفسه في الفرات وعبر، فصاح به أبوه: يا بني عصيتني؟ قال: لأن أطيع الله واعصيك أحب إلي من أن أعصي الله وأطيعك. قال الشيخ: لا يلي قتلكما أحد غيري وأخذ السيف ومشى أمامهما فلما صار إلى شاطئ الفرات سل السيف من جفنه فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما وقالا له: يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غدا. فقال: لا ولكن أقتلكما واذهب برأسيكما إلى عبيد الله بن زياد وآخذ جائزة الألفين. فقالا له: يا شيخ أما تحفظ قرابتنا من رسول الله؟ فقال: ما لكما من رسول الله قرابة. قالا له: يا شيخ فأتي بنا إلى عبيد الله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره. قال: ما إلى ذلك سبيل إلا التقرب إليه بدمكما. قالا له: يا شيخ أما ترحم صغر سننا؟ قال: ما جعل الله كما في قلبي من الرحمة شيئاً. قالا: يا شيخ ان كان ولابد فدعنا نصلي ركعات؟ قال: فصليا ماشئتم إن نفعتكما الصلاة. فصلى الغلامان أربع ركعات ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: «يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين احكم بيننا وبينه بالحق». فقام إلى الأكبر فضرب عنقه وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة، وأقبل إلى الغلام الصغير يتمرغ بدم أخيه وهو يقول: حتى ألقى رسول الله وأنا مختضب بدم أخي. فقال: لا عليك سوف الحقك بأخيك، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة، ورمى ببدنهما في الماء وهما يقطران دما.
في مجلس الطاغية: ذهب حتى أتى عبيد الله بن زياد وهو قاعد على كرسي له وبيده قضيب خيزران فوضع الرأسين بين يديه. فلما نظر إليهما قام ثم قعد ثلاثاً ثم قال: الويل لك أين ظفرت بهما؟ قال: أضافتهما عجوز لنا. قال: فما عرفت لهما حق الضيافة؟ قال: لا. قال: فأي شيء قالا لك؟ فقص عليه ما قالاه بتمامه وقال: بعدما صلّيا رفعا طرفيهما إلى السماء وقالا: «يا حي يا حليم يا أحكم الحاكمين احكم بيننا وبينه بالحق». قال عبيد الله بن زياد: فانّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم، مَن للفاسق؟ قال: فانتدب له رجل من أهل الشام، فقال: أنا له، قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين، فاضرب عنقه ولا تترك ان يختلط دمه بدمهما وعجل برأسه. ففعل الرجل ذلك وجاء برأسه ونصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله[2]. والسلام عليهما يوم ولدا، ويوم استشهدا، ويوم يبعثا.
مرقدهما الطاهر: يقع مرقدهما الطاهر على بعد حوالي ثلاثة كيلو مترات شرقي مدينة المسيب الواقعة على الضفة الشرقية من نهر الفرات التابع اليوم إدارياً إلى مدينة الحلة وسط العراق. وقد طرأت على قبريهما تغيرات عبر التاريخ، ولم يزالا عامرين مشيدين وعلى كل قبر قبة ذهبية في حرم واحد مستطيل يعلوه منارتان، وأمام قبريهما صحن فيه غرف للزائري. وحرمهما مفروش بالسجاد العجمي، وأمام حرمهما صحن تبلغ مساحته ضعف مساحة الحرم وفي طرفيه الغربي والشرقي غرف. وعمارة المرقد بشكل عام مبنية من الطابوق والإسمنت، وأما الغرف المحيطة بالصحن فهي مبنية على شكل أقواس ـ طاق ـ وأمام كل غرفة إيوان صغير لحمايتها من الحر والبرد والمطر . وتوجد ضمن الخدمات المقدمة للزائرين أماكن خاصة للوضوء ومرافق صحية لراحة الوافدين، وقد قُدرت مساحة الحرم مع مظلته الأمامية بـ ( 5 , 17× 125 متراً ) وارتفاع الحرم بحدود أربعة أمتار . وقال القسام : ينسب بناؤه على ما ذُكر إلى الحاج محمد حسين الصدر[3] ،في عام 1220 هجرية، وكان في وسط الصحن جدار ينصف الصحن إلى نصفين النصف الأول مما يلي المدخل خصص ليكون مربطاً لدواب الزائرين والنصف الآخر لراحة الزائرين. ولما كان عام 1355 هجرية قام جماعة من تجار إيران وهم الحاج رضا الجعفري والحاج معين الخرازي والحاج غلوم علي التنججي والحاج مرتضى الگياهي بالاستئذان من السيد أبو الحسن الأصفهاني[4] في رفع الجدار الفاصل فأذن لهم فرفعوه وشيدوا غرفاً في الإيوانات لاستراحة الزائرين. ويقـول القسام أيـضاً : « إن وزارة المالية العراقية قد خصصت مبلغ ستين ألف دينار لتعمير العتبات المقدسة، فتقـدم سادن الـروضة بطلب تخصيص مـبلغ (2500) دينار لتعمير الصحن فاستجابوا لطلبه فقامت الهيئة الحكومية المشرفة ببناء الجانب الغربي من الصحن لراحة الزائرين وذلك عام 1376 هجرية. ويضيف قائلاً: «في عام 1381 هـ قامت تلك الجماعة الخيرة السابقة الذكر من التجار الإيرانيين بتزويد مبنى الروضة بإسالة الماء الصافي لراحة الزائرين، كما أوصل التيار الكهربائي للمبنى عام 1384 هجرية. وفي عام 1394 هجرية، جدد بناء المرقد وأقيمت فيه أقواس على الطراز الإسلامي وزينت بالنقوش والخطوط الجميلة، كما حولت المقبرة الملحقة بالمرقد إلى موقف للسيارات خدمة للزائرين بعدما اندرست معالمها. مراحل البناء هو التالي : 1ـ البناء القديم والذي كان مجرد قبرين في وسط بستان. 2ـ البناء الذي أقامه الصفويون عند دخلولهم العراق وبنائهم لمراقد أهل البيت عليه السلام وذلك على عهد السلطان إسماعيل الأول الصفوي المتوفى عام 930 هجرية، وينسب لهم بناء القبتين. 3ـ البناء الذي أقامه الوزير القاجاري محمد حسين الصدر عام 1220 هجرية، ولعله هو الذي كسى القبتين بالقاشاني وأقام بعض الإيوانات والمرافق للزائرين، كما خصص الواجهة الأمامية من الصحن لدوابهم. 4ـ أقام السادن علي الهلال عام 1352 هجرية بمؤازرة المحسنين البهو الأمامي للروضة. 5ـ التعميرات التي قام بها التجار الأربعة عام 1355 هجرية، كما شيدوا غرفاً للزائرين. 6ـ قامت الحكومة العراقية ببناء الجانب الغربي للصحن وذلك عام 1376 هجرية، وجاء البناء في طابقين لراحة الزائرين. 7ـ قام التجار الأربعة عام 1381 هجرية ببعض التعميرات في الصحن كما أجروا الماء للمرقد لراحة الزائرين. 8 ـ تعهد بعض المؤمنين بوصل التيار الكهربائي إلى المرقد عام 1384 هجرية. 9ـ وفي عام 1394هجرية جدد بناء المرقد وأدخل إليه بعض التعديلات الفنية والزخرفة. ـــــــــــــــــــــــ
[1] الختن: زوج فتاة القوم.
[2] منتهى الآمال، الشيخ عباس القمي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة 1416هـ ، ج1 ص589 إلى 593.
[3] الاصفهاني كان يشغل منصب الصدارة للسلطان فتح علي القاجاري وكان من أهل الخير وله آياد بيضاء في إعمار مراقد أهل البيت عليهم السلام وبناء المدارس العلمية ، توفي سنة 1239 ههجرية.
[4] السيد ابو الحسن الأصفهاني : هو السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد الموسوي ( 1284 ـ 1365 هـ ) ولد في سده من قرى أصفهان ، بينما ولد أبوه في كربلاء حين قدم جده إلى العراق لطلب العلم، درس في أصفهان ثم النجف واستقر بها، تولى المرجعية بعد وفاة الشيخ محمد حسين النائيني عام 1355 هـ ، وكانت وفاته في الكاظمية.