هذا ما فعله الوهابيون السوريون في دمشق عام 1860م

344

8-5-2012-1

دمشقُ ليلةَ التاسعِ من تموز 1860م ..

    نامَتْ دمشقُ .. ليلتها تلكَ على خَدِّ تمّوزَ .. تَصلى لهيبَ أنفاسهِ .. حتى أعلنَ الفجرُ قيامتها.

    فبُعَيدَ أن أَغلقَ آخرُ مسجدٍ أبوابهُ، وهجعتِ المدينة، غادرتْ بعضُ النجومِ منازلَها هابطةً أزقةَ دمشقَ تجُول فيها تحتَ جُنْحِ الظلام .. كانت النجومُ تقفُ هنيهةً ثُمَّ تعاودُ المسيرَ بخفةٍ وحذر، وكأن على رؤوسها الطير، راسمةً في كل زاويةٍ وركنٍ من غربِ المدينةِ علامةَ الصليب.

    حقيقةً، ما كانت تلك نجومٌ بل مصابيحُ خافتةٌ لا توقظُ نائمًا ولا تثير حفيظةَ يقظان، لكنها كانت كافية لإظهارِ قَبيحِ وجوهِ حامليها من مرتزقةِ والي دمشقَ التركي المجرم : أحمد باشا

وغداً .. تكونُ وليمة .. !

    وجَّهَ والي دمشق العثماني المجرم أحمد باشا بعضَ مسوَّدي الوجوه، ليرسموا علامة الصليب على الجدران وعلى الأرض الحجرية في معظم أزقةِ دمشق، خاصةً منها تلك المتاخمة للحيِّ المسيحي الدمشقي في القيمرية وباب توما، فاستفاق الناس على إنذارٍ باحتلالٍ ((صليبي)) جديد، أو هكذا خُيِّل إليهم وقد لاحظوا علامة الصليب مرسومة في كل مكان، وصودف – وليست محض مصادفة – صباحًا مجيء عشرات ممن شاركوا في إحراق دُورِ المسيحيين وتهجيرهم من قراهم في لبنان – مع أنهم من طائفة غريبة عن سكان الحي – فوقف بعضُهم في حيِّ باب بريد الدمشقي هاتفًا “.. يا غيرة الدين!..”

    وطبعًا كانت الفتاوى بقتال “أهل الذِمَّة” محضّرة منذ عقود، لا سيما منذ أن أعلن إبراهيم باشا بن محمد علي برنامجه الإصلاحي متضمناً المساواة بين فئات المجتمع السوري التي كانت نسبها متقاربة آنذاك، وهذا يخالف مبادئ التعايش الوهّابي مع بقية الطوائف، فبناء على ذلك وقف بعض الشيوخ يحشدون الناس صائحين “.. قد بَرِئتْ من القومِ الذِمَّةُ ..” فاستُلّتِ السيوفُ .. ((حيَّ على القتل)) ..!

    وما هي إلا نصف ساعة، حتى ابتلعت النيرانُ كنيسةَ الروم والبَطْرَكْخانة، وقُتل كل من كان فيها، ثم وصل سعيرُ الجنون ((باب توما))، فنُهبت البيوت وأُحرقت على أصحابها، ولم ينجُ بيت واحد من الحريق والنهب والسلب، ولا قاطنوه من القتل والذبح، دون تمييز في الجنس أو في مبلغ السن، حتى تحولت الأرض إلى كرةٍ مُلتهبة يحيط بها خيطٌ سميكٌ من أسوَدِ الحقدِ يتصاعدُ كالدخان، وريثما استفاقَ عقلاءُ المدينة كانت أكباد القتلى تطفو على سطح بردى الذي لبس حُلّةً أرجوانية على غير عادة، ولولا تدخل البطل الأمير عبد القادر الجزائري لما بقي من أحدٍ تُعاتِبُ فيه كربلاءُ دمشقَ ..

    وقد وجَّهَ الأميرُ – المناهض لفكر ابن تيمية – جنوده من مغاوير المغاربة ليقطعوا الطريق على القتلة، ولينقذوا ما تبقى ممن استثنت رقابَهم سكاكينُ الدَّهْماء والغوغاء، فيقال أن دار الأمير لم تعد تتسع للمزيد من النائحين البكائين.

    كل ذلك والعسكر التركي – المتواطئ كالعادة – لم يحرك ساكناً، وبعد سجالات ومراوحات، جُمِعت العائلات الناجية في قلعة دمشق ريثما تمضي بهم عربات الترحيل إلى بيروت ثم إلى فرنسا.

    يُذكر في هذا الصدد أن هناك كتابًا مفقودًا بعنوان “كتابُ الأحزان” ألَّفَهُ أحدُ الناجين من المذبحة، وهو يسجِّل آهات الضحايا، كلماتهم ، وموتهم، سطورًا، لا مجرد أرقام، بحثتُ عنه طيلة الأربع سنوات الماضية، لكن عبثاً.

    كانت الحصيلة 11 ألف قتيل بين رجال ونساء وأطفال، معظمهم مات محترقاً في بيته. ويُذكر في هذا الصدد أن سكان دمشق بحسب إحصاء 1840 كانوا 100 ألف نسمة، 20 ألف منهم كانوا من المسيحيين … وبعد تلك الحادثة قيل إنه “.. لم يبقَ في دمشق مسيحيٌّ دمشقي واحد ..” حتى هلَّ صيف عام 1864.

    وهنا بدأت تعود الحياة إلى الحي ، ونزل فيه بعض مسيحيي القلمون، وبعضٌ ممن عادوا إلى منازلهم مطمئنين إثر وقوع القصاص على ثُلَّةٍ من مجرمي العسكر المتواطئين، وقد جرى إعدام 111 جندي فقط، وبعضٍ من مشايخ التكفير الذين ثوَّروا الناس، وقيل في تلك الواقعة المثل الشامي (( تنذكر وما تنعاد )) لأول مرة.

(*) ـ الصورة المرفقة بعدسة المصور الفرنسي بيدفور الذي زار الحي بعد سنوات قليلة من وقوع المذبحة .. وتظهر الخراب الذي كانت عليه منطقة باب توما وجانب من القيمرية، من بيوت محترقة ومهجورة ومهدَّمة، قبل أن تعود الحياة إلى الحي بالتدريج  بسكان أغلبهم هبطوا من القرى القريبة من دمشق.
إعداد : موسى ديروان، دمشق/ من صفحته على الفيسبوك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*