عبد الأمير المؤمن – باحث في علم الفلك والتراث العلمي
نصير الدين الطوسي، اسم شهير في التُراث الفلكي والرياضي في الحضارة العربية الإسلامية . قرأنا عنه الكثير وعرفنا عدداً من مؤلفاته ورسائله في الفروع المعرفية المختلفة ، أو قرأنا بعضاً على الأقل ، فكثير منها مطبوع ومنشور.
لكن الذي لا نعرفه عن هذا العالم أو لا يعرفه بعضنا هو أهميته العلمية أو قدرته على مُعالجة الأمور العلمية المعقدة ، كالتي تتعلق بالرياضيات وعلم الفلك ، فقد عدّه الباحثون أحد كبار المُمَهِّدين للنظام الفلكي الحديث ، الذي اندلع في القرن السادس عشر الميلادي ، بقيادة العالم الفلكي الشهير كوبر نيكوس المتوفى سنة 1543م ، الذي أحدث ثورة في تأريخ الفلك وتأريخ العلم عامة ، حيث فصل بين عُنصرين، عصر الفلك القديم وعصر الفلك الحديث .
يُعّد مُحمّد بن مُحمّد بن الحسن الملقّب بالطوسي أحد الأركان الأساسية في التُراث الفلكي والرياضي الإسلامي ، وُلد سنة 597 هجرية في مدينة ( طوس ) التي أخذ لقبه منها، وتوفي في مدينة بغداد. عاصمة العلم ودُفن في مشهد الإمام موسى بن جعفر (ع) في الكاظمية.
ذكره شاكر الكتبي في ( فوات الوفيات ) بقوله (صاحب العلم الرياضي كان رأساً في علم الأوائل ولاسيّما في الأرصاد والمِجِسْطي فإنه فاق الكبار) فوات ج3 ص246. ووصفه كراتشكوفسكي ( بدائرة معارف ) حيث استغرقت كتاباته كُل أبواب المعرفة الشائعة في عصره ، وذكر د. عبد الأمير الأعسم أنه ألف 160 عنواناً ، شملت مؤلفاته شتى المعارف ، إضافة إلى ذلك عُرف بترجمته لعددٍ من الكتب اليونانية منها: ( تحرير المِجِسْطي ) لبطليموس، وكتاب ( في جِرْمي النيرين ) خوس لاريستار و( ظاهرات الفلك ) لإقليدس وغيرها .
والحقيقة أن إمكانيات الطوسي وقابليته تتمثل أساساً في الرياضيات والفلك ، فعلى مستوى الرياضيات لعب كتابه المعروف ( بشكل القطاع ) دوراً مُهمّاً في تأريخ الرياضيات ، فهو كتاب رياضي بقي مُصدراً مُهماً لعُلماء أوربا يستقون منه معلوماتهم في المثلثات الكروية والمستوية ، وقد اعتمد عليه ( مونتانوس ريجيو ) اعتماداً رئيسياً عند تأليفه كتاب ( المثلثات )، ويُعدّ الطوسي في كُتابه أول من فصل المثلثات عن علم الفلك ، وجعل المثلثات علماً مُستقبلاً .
وعلى مُستوى علم الفلك لعب الفكر الفلكي التجديدي للطوسي دوراً أساسياً ومُهماً في تأريخ علم الفلك كُلّه ، فقد أسّس هذا العالم مجمعاً علمياً فلكياً عالمياً ، مؤلفاً من مرصد فلكي كبير هو مرصد مَرَاغه ( أشهر مرصد في تاريخ الفلك القديم ) وقد ضم مكتبة احتوت على ما يقارب 400 كتاب ، وعدداً كبيراً من العُلماء والفلكيين من بُلدان مختلفة ، وآلات فلكية إبداعية ابتكرت لأول مرة . والأهم من كُل ذلك هو ما أودع النصير من المعلومات الفلكية والأرصاد القيمة في كتابه المهم المعروف باسم : ( الزيج الإيلخاني )، فقد ظل هذا الزيج مُعتمداً إلى عهد قريب في الدراسات الفلكية الأوربية .
لقد كان الطوسي عالماً فلكياً ثائراً ، حمَلَ روحاً علمية نقدية تجاوزت الأفكار الثورية المحدودة التي ابتدأها العالم ابن الهيثم المتوفى سنة 430 هجرية وعدد من الفلكيين والفلاسفة ضد أفكار بطليموس ، لقد تجاوز الطوسي ذلك بادئاً بفتح باب عريضة ، أدخلت الفلك العربي الإسلامي مدخلاً جديداً ، فَوَضَعَنا أمام فلك عربي إسلامي أصيل ، أمام تعديلات قويمة لفلك بطليموس اليوناني ، مُقترحاً هيأةً جديدةً تُخالف هيأة بطليموس ، ولم يكُن وحده فاتحاً هذا الباب ومُفجراً للثورة الفلكية ، بل كان ضمن مدرسة علمية فلكية ثورية هي ( مدرسة مَراغه ) التي احتضنت مجموعة من كبار عُلماء الفلك الثوريين في القرن السابع الهجري منهُم : العالم السوري مؤيد الدين العُرضي ، وقطب الدين الشيرازي ومُحيي الدين المغربي. إلاّ أن النصير الطوسي كان أول من عُرف بثورته هذه واقتراحه الجديد ، وذلك من خلال مقال مُهم نشرهُ المستشرق كارادوفو سنة 1893م عن الهيأة التي أبدعها الطوسي لأفلاك القمر والزهرة والكواكب العلوية الثلاثة والتي وردت في كتاب الطوسي الشهير ( التذكرة النصيرية ).
من هُنا كانت مدرسة مراغه وأفكارها الفلكية الثورية بقيادة النصير الطوسي بحق الانطلاقة الأولى لنظرية مركزية الشمس التي جاء بها الفلكي البولندي كوبرنيكوس في القرن السادس الميلادي ، لتلحقها تطورات مُتلاحقة ، أوصلتنا إلى إنجازات فلكية وفضائية فاقت كُل الإنجازات التي أنجزها فلك ما قبل العصر الحديث.