الفلكي الطوسي يؤسس لعلم الفلك الحديث

630
الجغرافيا الفلكية يندرج تحتها ما يعرف بكتب الأزياج مثل زيج الإيلخاني للطوسي. والصورة لصفحتين من الكتاب
الجغرافيا الفلكية يندرج تحتها ما يعرف بكتب الأزياج مثل زيج الإيلخاني للطوسي. والصورة لصفحتين من الكتاب

عبد الأمير المؤمن – باحث في علم الفلك والتراث العلمي

نصير الدين الطوسي، اسم شهير في التُراث الفلكي والرياضي في الحضارة العربية الإسلامية . قرأنا عنه الكثير وعرفنا عدداً من مؤلفاته ورسائله في الفروع المعرفية المختلفة ، أو قرأنا بعضاً على الأقل ، فكثير منها مطبوع ومنشور.

لكن الذي لا نعرفه عن هذا العالم أو لا يعرفه بعضنا هو أهميته العلمية أو قدرته على مُعالجة الأمور العلمية المعقدة ، كالتي تتعلق بالرياضيات وعلم الفلك ، فقد عدّه الباحثون أحد كبار المُمَهِّدين للنظام الفلكي الحديث ، الذي اندلع في القرن السادس عشر الميلادي ، بقيادة العالم الفلكي الشهير كوبر نيكوس المتوفى سنة 1543م ، الذي أحدث ثورة في تأريخ الفلك وتأريخ العلم عامة ، حيث فصل بين عُنصرين، عصر الفلك القديم وعصر الفلك الحديث .

يُعّد مُحمّد بن مُحمّد بن الحسن الملقّب بالطوسي أحد الأركان الأساسية في التُراث الفلكي والرياضي الإسلامي ، وُلد سنة 597 هجرية في مدينة ( طوس ) التي أخذ لقبه منها، وتوفي في مدينة بغداد. عاصمة العلم ودُفن في مشهد الإمام موسى بن جعفر (ع) في الكاظمية.

ذكره شاكر الكتبي في ( فوات الوفيات ) بقوله (صاحب العلم الرياضي كان رأساً في علم الأوائل ولاسيّما في الأرصاد والمِجِسْطي فإنه فاق الكبار) فوات ج3 ص246. ووصفه كراتشكوفسكي ( بدائرة معارف ) حيث استغرقت كتاباته كُل أبواب المعرفة الشائعة في عصره ، وذكر د. عبد الأمير الأعسم أنه ألف 160 عنواناً ، شملت مؤلفاته شتى المعارف ، إضافة إلى ذلك عُرف بترجمته لعددٍ من الكتب اليونانية منها: ( تحرير المِجِسْطي ) لبطليموس، وكتاب ( في جِرْمي النيرين ) خوس لاريستار و( ظاهرات الفلك ) لإقليدس وغيرها .

والحقيقة أن إمكانيات الطوسي وقابليته تتمثل أساساً في الرياضيات والفلك ، فعلى مستوى الرياضيات لعب كتابه المعروف ( بشكل القطاع ) دوراً مُهمّاً في تأريخ الرياضيات ، فهو كتاب رياضي بقي مُصدراً مُهماً لعُلماء أوربا يستقون منه معلوماتهم في المثلثات الكروية والمستوية ، وقد اعتمد عليه ( مونتانوس ريجيو ) اعتماداً رئيسياً عند تأليفه كتاب ( المثلثات )، ويُعدّ الطوسي في كُتابه أول من فصل المثلثات عن علم الفلك ، وجعل المثلثات علماً مُستقبلاً .

وعلى مُستوى علم الفلك لعب الفكر الفلكي التجديدي للطوسي دوراً أساسياً ومُهماً في تأريخ علم الفلك كُلّه ، فقد أسّس هذا العالم مجمعاً علمياً فلكياً عالمياً ، مؤلفاً من مرصد فلكي كبير هو مرصد مَرَاغه ( أشهر مرصد في تاريخ الفلك القديم ) وقد ضم مكتبة احتوت على ما يقارب 400 كتاب ، وعدداً كبيراً من العُلماء والفلكيين من بُلدان مختلفة ، وآلات فلكية إبداعية ابتكرت لأول مرة . والأهم من كُل ذلك هو ما أودع النصير من المعلومات الفلكية والأرصاد القيمة في كتابه المهم المعروف باسم : ( الزيج الإيلخاني )، فقد ظل هذا الزيج مُعتمداً إلى عهد قريب في الدراسات الفلكية الأوربية .

لقد كان الطوسي عالماً فلكياً ثائراً ، حمَلَ روحاً علمية نقدية تجاوزت الأفكار الثورية المحدودة التي ابتدأها العالم ابن الهيثم المتوفى سنة 430 هجرية وعدد من الفلكيين والفلاسفة ضد أفكار بطليموس ، لقد تجاوز الطوسي ذلك بادئاً بفتح باب عريضة ، أدخلت الفلك العربي الإسلامي مدخلاً جديداً ، فَوَضَعَنا أمام فلك عربي إسلامي أصيل ، أمام تعديلات قويمة لفلك بطليموس اليوناني ، مُقترحاً هيأةً جديدةً تُخالف هيأة بطليموس ، ولم يكُن وحده فاتحاً هذا الباب ومُفجراً للثورة الفلكية ، بل كان ضمن مدرسة علمية فلكية ثورية هي ( مدرسة مَراغه ) التي احتضنت مجموعة من كبار عُلماء الفلك الثوريين في القرن السابع الهجري منهُم : العالم السوري مؤيد الدين العُرضي ، وقطب الدين الشيرازي ومُحيي الدين المغربي. إلاّ أن النصير الطوسي كان أول من عُرف بثورته هذه واقتراحه الجديد ، وذلك من خلال مقال مُهم نشرهُ المستشرق كارادوفو سنة 1893م عن الهيأة التي أبدعها الطوسي لأفلاك القمر والزهرة  والكواكب العلوية الثلاثة والتي وردت في كتاب الطوسي الشهير ( التذكرة النصيرية ).

من هُنا كانت مدرسة مراغه وأفكارها الفلكية الثورية بقيادة النصير الطوسي بحق الانطلاقة الأولى لنظرية مركزية الشمس التي جاء بها الفلكي البولندي كوبرنيكوس في القرن السادس الميلادي ، لتلحقها تطورات مُتلاحقة ، أوصلتنا إلى إنجازات فلكية وفضائية فاقت كُل الإنجازات التي أنجزها فلك ما قبل العصر الحديث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*