إنتِلجينسيا درهم معاوية

243

بدون عنوان

  طاووس الانحراف وصف يليق بمعاوية “بن أبي سفيان” الذي عرفة الناس كذلك بأبي طغيان.. وكي لا نرتكب ظلماً بربط الطاووس البريء بأحد أكثر الشخصيات في العالم دمويةً وتشيطناً، أود توضيح استعارة تداخل الألوان وكثرتها على ريش الطاووس وخداعها للبصر بحيث تجعلك أحياناً ترى أعيناً وأحياناً أخرى ترى ورداً وما ترى سوى ريشًا منتفخاً، وذلك للتعبير عن فسيفساء التشيطن عند معاوية. فلا يكونن إذن لدى أي طاووس عتاب علي بعد شرحي هذا.

فوجئتُ وفوجئتْ جمهرة من الفضوليين على مجالس التاريخ الأسود برؤية معاوية الدكتاتور الأموي الشرس في حلة جديدة من إنتاج سينما سقيفة سايكس بيكو التي تشبه إلى حد ما سقيفة بيلفور.. معاوية في حاوية مقولبة من ذهب خليجي خالص باركه مشايخ سدة الحكم وآخرون ممن ذهبوا بتسييس الدين إلى أبعد الحدود. إذا فتحت صدرك لحاوية معاوية فأبشر بالاختراق الذي يمزق عضلات التمييز بين الخير والشر. برنامج “معاوية 2011” حاولوا بيعه بطريقة تضمن للمشتري الحماية من فيروسات العقل والمنطق والأخلاق. فلا يمر على المشتري عقد من الزمن إلا وجدت عقله كما كان عند شراء البرنامج أول مرة. هكذا يتم تجميد خلايا الاستبصار للإبقاء على عالم الرضى والترضي على السفاحين بحجة الاجتهاد المخطئ.

مسلسل “معاوية ” – الذي لا يكون من الإنصاف قرن اسمه باسميْ الحسن والحسين- هو فضيحة تشبه محاولة اليائس الغشاش تذكية المتردية والنطيحة والدفع بها إلى بطون الجياع تحت عنوان الذبيحة. محاولة أموية متجددة لخلق تاريخ جديد مفاده أن كفيل مافيا إبادة ذرية الرسول(ص) كان يحب الحسن والحسين، ومحاولة لإنقاذ رموز تستعملها كيانات معروفة لشرعنة تسلطها على الرقاب بلا عتاب. مساحيق تجميل على وجه طمطم أدسم لرجل يقول المؤرخون إنه كان يأكل سبعة مرات في اليوم لم تكن فكرة جيدة، كلما زادوه من المساحيق كلما اختلطت ببقايا اللحم والشحم والفتات، ذلك وجه معاوية الذي ننقل بعضاً من صوره ها هنا في نقاش أنتلجينسيا الدرهم الأموي.

أنتلجينسيا المحميات

على الرغم من محاولة بعض المحميات السياسية التي تسير على نهج معاوية تلميع صورته، إلا أن كوادرها الدينية والثقافية عجزت لحد الساعة عن إزالة مثقال حبة من كتل المثالب التي يقبع تحتها. فمحاولة تنقية تاريخ معاوية الحافل بالإجرام أثبتت فشلها مع نجاة الآثار التوثيقية من الإتلاف عن طريق رجاله وعماله في زمن كانت الكتابة والنشر تحت سيطرته. فما بالك بزمن ليس لأحد فيه السيطرة على تداول الوثائق! وهذا من دلائل عيش أطر بعض المحميات السياسية خارج الواقع تمامًا وتوهمهم أن الناس لا يشاهدون إلا إعلامهم الممل، وإذا شاهدوه قالوا آمنا. وانقلاب سحر مسلسل معاوية على الساحر مما لا شك فيه لأن مسلسل التدليس هذا سيساهم في قيام الذين فاتتهم بعض الحلقات، والذين يحتاجون معلومات أكثر بالبحث عن مضامينها في العالم الافتراضي ليجدوا الرأي الآخر؛ فيكون ذلك طريقاً إلى معرفة سخامية منتوجات الهوليوود الخليجي. وهنا مظهر من مظاهر أنتيليجينسيا انتحارية الطبع تنقل عمليات الانفجار من أسواق البصرة وكركوك إلى القنوات الفضائية لتنسف رموزها بيدها عن طريق سحب الصمت المطبق عنهم وفتح نار التاريخ المدون الذي يكوي رموزهم ككي الإسكافي لحوافر الدواب.

معاوية التاريخي

الإسلام يجبُّ ما قبله لكن التاريخ لا يجب ما قبله. فقبل كل تاريخ تاريخ ولا يمكن للتاريخ أن يجب نفسه فيبقى الناس دون تاريخ. إذا كان وحشيٌّ قتل عمَّ النبي وجبَّ الإسلام ماضيه المتوحش أيام التآمر مع مروضته هند بنت عتبة وبنى على ظاهره، إلا أن النبيَّ رفض النظر إليه. وهذه إشارة إلى أن التاريخ يبقى حاضرًا وإن لم يترتب عليه أثر مادي خارجي. وحرمان النبي لوحشي من نظره الشريف أماراة على استحضار النبي للتاريخ وتشريع مقدس لحق الاحتفاظ بالتاريخ والتعبير عن آثاره واستنكار سلبياته.

ومن هنا وبدءًا باسم معاوية بن أبي سفيان ترى سينما خلجنة التاريخ في أوج خداعها. فليس يوجد ما يركن إليه لإقرار اسم “معاوية بن أبي سفيان”. فإذا رجعنا إلى تواريخ الرواة والنسابين من أهل الاختصاص مثل الأصمعي والكلبي اللذان روى عنهما سبط ابن الجوزي في “التذكرة” أن معاوية كان يقال إنه من أربعة من قريش : (…) كانوا ندماء أبي سفيان. وكان كل منهم يتهم بممارسة الزنى مع هند. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (1) إن معاوية يعزى إلى أربعة كذلك. وأمه هند المتوحشة التي مثلت بجسد الحمزة قال فيها المؤرخون ما يصل إلى حد الإباحية التي لا يليق التفصيل فيها. وقال الشعبي إن رسول الله أشار إلى هند يوم فتح مكة بشيء من هذا لَمَّا جاءت تبايعه فقالت : على ما أبايعك؟ فقال : على أن لا تزنين. واشتهر لحسان بن ثابت شعر في وصف محاولة تخلص هند من خال “المسلمين” لمَّا ولدته وكذلك ما عرفت به من البغاء (2)، ومنه:

لمن الصبي بجانب البطحاء /  في الترب ملقى غير ذي مهد
نجلت بــــــه بيضاء آنسة  / 
من عبـد شمس صلتة الخد
تسعى إلى”الصياح “معولة / 
 يـــــا هند إنك صلبة الحرد
فإذا تشاء دعت بمقطرة    / 
   تذكي لـها بألوة الهند
غلبت على شبه الغلام وقد /    
بان السواد لحالك جعد
أشرت لكاع وكان عادتها / 
   رق المشاش بناجذ جلد

وذكر في مقتل الخوارزمي قول الإمام الحسين(ع) في يزيد بن معاوية الذي صوره المسلسل الزائف يتمشى بود مع الحسين في الأسواق :” ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلة وهيهات منا الذلة”. وفي هذا الوصف تأييد لما اشتهر به معاوية من نسبته لغير أب. فهل كان مُخرج مسلسل معاوية لديهم وهم يختصمون أيهم يكفل معاوية؟ أم هناك حالات مشابهة في الحاضر تم الحسم فيها للأغنى من المختصمين، فأسس ذلك سابقة قانونية بنى المخرج على أساسها حكمه بإلحاق معاوية بأبي سفيان؟

الدومينو..

تأثير الدومينو شيء يخيف الكثيرين من الوارثين للتدين وراثة الاسم العائلي من الذين تقودهم أنتلجينسيا درهم معاوية. فهؤلاء يقف بحثهم في محطات حولها خطوط حمراء لا يجوز النقاش فيها. الذين ناقشوا الذات الإلاهية في كتب الفكر الإسلامي وفلسفة الإغريق يميلون إلى تأليه شخصيات التاريخ حينما يشمعونها بهذه الطريقة. ولعل التجريح وإن كان عقلانيًّا في مجرمين مثل معاوية يتجنبه أصحاب الخطوط الحمراء خوفاً من الانتهاء عند تجريح الذين كانوا على مقربة من الطاغية. وهذا ما يجعل لمعاوية أنصارًا قد يكرهونه ولكن يحبون رواته “الأجلاء”.

فمن بين التناقضات التي خلفها خوف أصحاب الخطوط الحمراء من تأثير الدومينو، الذي إذا سقط يسقط معه ما قبله، هي نقل كتبهم التاريخية -كما سيتبين- لجرائم معاوية دون أن يتساءلوا عن موقف بعض الرواة “الأجلاء” منها آنذاك. فلا هم مع المجازر ولا هم ضد الشياطين الخرس. لا يبدو على أي حال أنهم مع أمر معاوية بقتل محمد بن أبي بكر ثم وضع جثته في بطن حمار ميت ثم حرقها فيه (3) كما ذكر ابن الأثير والهيثمي والطبراني وابن سعد وغيرهم. كما لا يبدو أنهم يتساءلون عن تكريم معاوية لأبي هريرة بإماراة المدينة ودفعه إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأمره بحسن جوارهم (4). لماذا لم يأمر معاوية بحسن جوار الإمام الحسين بعد استشهاد الإمام الحسن؟ هذا إذا افترضنا تنزلاً أن معاوية -وعلى عكس التاريخ الموثق- ليس من دس السم للإمام الحسن عن طريق جعدة مقابل وعده بتزويجها لوريث جرمه يزيد. الجواب هو أن الحسن والحسين(ع) لم يكونا فيمن باعوا أنفسهم بدرهم معاوية وحاشا أن يكونا كذلك. درهم معاوية اليوم لما يتحول إلى بترول، ترى ولاة ابن هند الجدد يلجؤون إلى الخيال لإعادة بناء هيكله من جديد بعد أن خسروا منذ الأيام الأولى معارك القلب والخيال وإن ظهر انتصارهم في كثير منها في عالم السيف والسم والحرق والتمثيل بالإنسان.

إنتلجينيسيا الإرهاب المبرر

الكوادر الدينية والثقافية للمحميات السياسية في الخليج ثبت تورطها في تمجيد العنف والإرهاب. فالشيخ الاضحوكة الزغبي -وغيره- ترحم على الإرهابي السعودي بن لادن، والواعظ السلطاني يوسف القرضاوي ترحم على المستبد البائد صدام التكريتي وله أيضاً شريط مشهور على اليوتوب يمجد هتلر. إنتلجنسيا إرهابية بامتياز تعيش على المنح السلطانية وتستقي ثقافتها الدموية من المدرسة الهدمية التي أرسى قواعدها ابن تيمية وتكفَّل بنشرها أغنياء المحميات الوهابية في زماننا هذا.

إذا نظرنا إلى الرموز التاريخية التي تمجدها كوادر المحميات الوهابية عرفنا سبب تمجيدها للإرهاب، ومثال معاوية من أحسن ما يمكن البناء عليه في هذا المعنى. كيف لا والواحد منا إذا أراد البحث في معاوية ورجاله من خلال كتب التراجم المتداولة والمعتبرة فإنه لا يجد سوى الجرائم البشعة. خذ مثلاً ترجمة بشر بن أرطأة في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وتمعن في أحد أدرع معاوية وهويقتل طفلين صغيرين دون ذنب لعبيد الله بن عباس في حملة استخلاص الحجاز واليمن من الإمام علي. كما يمكنك التمعن فيما روى ابن عبد البر عن غارة بسر بن أرطأة على همدان وسبيه نساءهم ليكن أول مسلمات سبين في الإسلام. معاوية الذي تمجده إنتلجنسيا الإرهاب المبرر أمر بسم الإمام الحسن ومالك الأشتر وأمر باستهداف عمار بن ياسر حتى حتفه وقتل وحرق محمد بن أبي بكر وحجر بن عدي الكندي واللائحة جداً طويلة وأخبارها مستفيضة. لا يبرر للإرهاب إلا الإرهابي أوالمتعاون معه، وإذا كان أصحاب التبرير لمعاوية معروفين بدورانهم في فلك دكتاتوريات تحميها حراستها لمشاريع الدول العظمى فهذا من قرائن تورط هذه الديكتاتوريات في شبيه ما تورط فيه معاوية.

والواقع يدعم هذا الاستنتاج لأن التقارير الدولية أثبتت تورط المحميات الوهابية في دعم الإرهاب والتطرف الديني، هذا إضافة إلى طبيعتها الاستبدادية المتسننة بسنة معاوية.

في الختام لا يفوتنا ذكر بعض الآثار المدمرة لتمجيد البيت الإجرامي لمعاوية بن هند، والتي أثرت بشكل كبير في مجمعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. من هذه الآثار اعتناق ثقافة العنف والتدمير ورفض الاختلاف، والإقصاء والتبرير لمجازر الحكام الظالمين على غرار التبرير لمجازر معاوية.

وهناك أيضاً ثقافة الانتقام التي ميزت البيت الأموي على عكس ثقافة السماحة التي ميزت البيت العلوي. وهناك ثقافة قطع الرؤوس والانتحار والتمثيل بالأموات كما في قتل وسحل المواطن المصري في لبنان في أبريل 2010 من طرف جماهير من الفرقة التي تمجد معاوية.

وأضف إلى هذا محارق العراق العزيز وانفجارات باكستان ضد الشيعة والمسيحيين وغير ذلك كثير. وظهر مؤخراً نوع جديد من آثار تمجيد البيت الأموي على الساحة الإعلامية. نوع ترى فيه مثقفاً مغربياً يحرر في جريدة إلكترونية مشهورة مقالاً يفتخر بهند وبطريقة تمثيلها بجسد الحمزة عم النبي(ص). وذلك بمناسبة التمثيل بجثة الدكتاتور الليبي. فإذا كانت أمة قد مضت في تمجيد الإرهابيين فلا تشتكين من ابتلائها بالإرهاب والدمار. ولا سبيل للالتحاق بركب التقدم إلا إذا تم استنكار رموز التخلف.

………………………………..
1. ربيع الابرار ج 3 باب القرابات والأنساب، راجع نسخة مكتبة الأوقاف ببغداد، المخطوطة المرقمة 3882.
2. ديوان حسان ط. أوربا ص 91، ط مصر شرح البرقوقي ص 157 158.
3. ابن الأثير – أسد الغابة – الجزء : 4 رقم الصفحة : 324
4. أضواء على السنة المحمدية، محمود أبورية ص 218


ياسر الحرق الحسني / زاوية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*