الحكمة – متابعة: مدير يراقب كل خطواتك، وأخر يجعلك تخشى حتى من أن تتنفس قريبا منه. في السطور التالية، نتناول كيف يمكن أن تكون لك اليد العليا على أي مدير يمارس عمله بقبضة حديدية.
يمكن رصد نموذج لهذا النمط من الإدارة لدى مديرة تعمل بشركة محاماة أوروبية، قفزت سلم الترقي الوظيفي بترهيب مرؤوسيها، أو في لدى مدير آخر في مجموعة بريطانية لصناديق الاستثمار كان يأمر المدراء العاملين تحت إمرته بتقييم مستوى أداء زملائهم بعد كل اجتماع داخلي.
كما قد تراه عند مدير بإحدى الشركات العاملة في صناعة الطيران بفرنسا، كان يسعى لانتهاز أي فرصة سانحة لإثبات أن موظفيه على خطأ.
هؤلاء المديرون الثلاثة ليسوا إلا كوابيس بكل معنى الكلمة.
فالنهج الذي يتبعونه في الإدارة؛ ليس إلا السيطرة على الإدارات التابعة لهم عبر نشر الخوف في مسعى لتحقيق نتائج ينشدونها.
وترى جوان كينغسلي – الخبيرة النفسية المتخصصة التي تعمل في لندن لمعالجة من يعانون من مشكلات ناجمة عن العمل في مؤسسات أو شركات- أن “الخوف هو أكثر عاطفة بدائية لدينا، ويستخدم الناس (هذا العنصر) دون وعي منهم بذلك”.
وفي بعض الأحيان، ينصب تركيز المديرين، الذين يستخدمون الأساليب القائمة على التخويف، وبشكل كبير على تحقيق النتائج والوفاء بالالتزامات، وهو ربما ما أوصلهم – في المقام الأول – إلى مناصبهم هذه.
ولكن الخبراء يقولون إن نشر الخوف يؤدي إلى نتائج عكسية في مرحلة ما.
فالقليلون فقط هم من يستطيعون تحقيق النجاح في ظل الإدارة الاستبدادية، كما أن ذلك المناخ يؤدي إلى ظهور توترات وضغوط يتلوها حدوث حالة إنهاك واستنزاف للعاملين.
وفي ضوء ذلك نتساءل: لِمَ يبدو هذا الخوف “المكتبي” فعالا للغاية في إنجاز العمل؟
ويمكن أن يثير نشر مناخ الخوف في العمل قلق المرء إزاء الكيفية التي ينظر بها الآخرون إليه، وهو ما يجعله عرضة للتلاعب، أو يحدو به للتغاضي عن الإهانات أو المظالم التي يتعرض لها.
وهنا يمكن الاستعانة برأي خبير الاتصالات دافيد كننغام، الذي يعمل بمدينة فيلادلفيا الأمريكية، وهو كذلك مسؤول عن حلقات دراسية تنظمها شركة “لاند مارك”؛ تلك المؤسسة المعنية بالتنمية والتدريب والتطوير الشخصي والمهني.
ويقول كننغام إن الأصل في أي إنسان هو “السعي للظهور بشكل جيد وتجنب الظهور بشكل سيء”.
ومن الأيسر في واقع الأمر؛ تحقيق نتائج في مناخ عمل لا يثير فيه المديرون غريزة البقاء في نفوس مرؤوسيهم.
ويرى كننغام أن مناخ العمل الخالي من أي تخويف يسمح بإتاحة الفرصة للمرء للتشكيك في المنطق الجمعي السائد، ولإبداء الشكوك حيال المسار الذي تمضي عليه المؤسسة قدما، أو لطرح أسئلة محورية في هذا الشأن.
ويضيف الرجل بالقول: “عندما يكون هناك ولاءٌ (لمؤسسة ما)، يمكن أن تتشكل تفاعلاتك اليومية وتفكيرك ومشاعرك وعواطفك بحسب التزامك (حيال العمل) أكثر من تأثرها باهتمامك بأن تبدو في شكل جيد”.
لماذا يستخدم المدراء أسلوب التخويف؟
ولكن لماذا يلجأ المديرون أصلا إلى التخويف كأسلوب في الإدارة رغم ثقافة العمل القمعية التي يشيعها هذا الأسلوب؟
يقول الخبراء إن ذلك النهج قد يكون فعالا بشكل قصير المدى، ولكنه لا يؤتي ثماراً على المدى البعيد، وذلك لأسباب من بينها أنه من العسير على المرؤوسين في هذه الحالة التعامل مع المديرين الذين يتبعون ذاك الأسلوب، والحديث معهم بصراحة.
فمن قبيل المجازفة أن يتحدث المرء إلى مثل هذا المدير حول حقيقة ما يجري بالفعل في الشركة، وهو ما يقود إلى بلورة تقييمات خاطئة حول طبيعة سير العمل.
فهل هؤلاء المدراء مُبْتَلون بمخاوفهم الخاصة، أو ربما يفتقرون هم أنفسهم للثقة في النفس؟ أم أنه من المحتمل أن يكون كل منهم قد تعلم في طفولته أن الشخص الذي يتبع أسلوبا سلطويا ويهدد التابعين له بعواقب؛ يحقق في النهاية ما يرغبه من نتائج؟
وهنا ترى آن تاكر، المدير المنتدب في مؤسسة “غراي ماتر بارتنرز” للاستشارات الخاصة بتطوير السمات القيادية والتنفيذية في مدينة بلفيو بولاية واشنطن الأمريكية، أن العديد من هؤلاء المدراء لا يدركون أصلا أنهم يثيرون القلق في نفوس مرؤوسيهم.
وتضيف تاكر بالقول إن البشر دائما ما يروون القصص من وجهة نظرهم هم “فإذا ما كان شخص ما يتصرف بطريقة تبدو لك شريرة أو غير مفهومة، أو يبدو وكأنه يضمر دوافع خبيثة، فإنه قد لا يدرك ذلك في ذهنه هو نفسه، الأمر لا يعدو أن منظوره للمسألة مختلف”.
وتمضي تاكر قائلة: “الخوف ينجم عن الغموض وعن عدم المعرفة. فمن شأن عدم فهمك لشخص ما وعجزك عن التنبؤ بأفعاله، خلق نوع من الخوف، وفي غالب الأوقات، لا يلجأ الناس إلى أسلوب التخويف، فهم يكونون بصدد محاولة حل مشكلات ما، ولكن السبيل الذي يتبعونه في هذا الشأن يخلق غموضا والتباسا بالنسبة للآخرين”.
وثْقّ وانتظر
النصيحة هنا لكل من يتعرض لـ”تخويف” في عمله، أن يحتفظ بسجل مفصل لكل ما يجري في هذا الإطار، يتضمن التواريخ والتوقيتات والأماكن والمحادثات، وكذلك أسماء كل من حضر أي موقف متعلق بمثل هذه الأمور، نظرا لأنه سيكون بحاجة لتلك المعلومات لإظهار أن ذلك الأسلوب من المعاملة كان يحدث بشكل مستمر، كما تقول جوانا كينغسلي.
وللحيلولة دون تسرب تلك المعلومات، ربما يكون من الأجدر بالمرء أن يدوّنها في دفتر بمنزله، وأن يتجنب تجميعها باستخدام أي أجهزة إلكترونية.
وقد تساعده هذه المعلومات على تذكر ما حدث، والبرهنة على أن سلوك مديره حياله كان يتسم بالاستمرارية، إذا ما كان بحاجة لذلك للدفاع عن وظيفته، أو لإعداد تقرير لإدارة شؤون العاملين، يقدم فيه روايته لما جرى في مواقف مثل هذه.
وإذا عدنا إلى شركة المحاماة الأوروبية، التي تحدثنا عنها في بداية هذه السطور، فسنجد أنه لم يكن هناك في إدارة شؤون العاملين من يمكن اللجوء إليه للشكوى من تلك المديرة التي بثت الخوف والفزع، بكل معنى الكلمة، من ارتكاب أي أخطاء في قلوب مرؤوسيها.
فقد كان يبدو للموظفين، أن تلك الإدارة تعمل لخدمة مصالح الشركاء من أصحاب الشركة، وليس بالضرورة لصالح العاملين.
وهكذا تعين على الموظفة التي كشفت النقاب عن سلوك تلك المديرة التعايش معها.
وقالت الموظفة، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها، إنه “كان هناك تهديد ووعيد ضمنيان، فحتى عندما كانت تقول “طاب صباحكم” لم يكن بوسعك قط أن تعلم ما إذا كانت تعني ذلك أم لا”.
وفي نهاية المطاف، كُشف عن ممارسات تلك المديرة، عندما تسلم مدير جديد المهمة منها، ووجد أن فريق العمل يتحقق من كل شيء مهما كان تافها مرتين أو حتى ثلاثاً للتأكد من عدم وجود أي أخطاء.
وتروي الموظفة التي كشفت القصة برمتها ما حدث قائلة: “في البداية، لم يفهم أسباب تصرف الموظفين بهذه الطريقة، ولكنه أدرك لاحقا أنهم كانوا يعيشون جميعا في حالة من الخوف والقلق”.
وبينما أفلت فريق العمل من قبضة هذه المديرة، فإنها لا تزال تعمل في المؤسسة نفسها حتى الآن، بل وترقت إلى مناصب أعلى بفضل قدرتها على جلب العملاء وترويج صورة معينة للشركة.
استراتيجيات الخروج
ومن جهتها، تقول جوانا كينغسلي إن ترك العمل في هذا المناخ المسموم الذي تسوده الثقافة القائمة على نشر الخوف، يمثل في بعض الأحيان السبيل الأمثل أمام المرء، خاصة إذا ما شعر بأنه لا يستطيع مواجهة ذلك عبر القنوات الرسمية الموجودة في الشركة التي يعمل فيها.
وفي تصريحاتها لبي بي سي تقول روت كينغسلي – وهي مؤلفة كتاب “مؤسسة متحررة من الخوف: رؤى جوهرية مستمدة من علم الأعصاب لتغيير ثقافة العمل لديك” – قصة مدير أحد صناديق التحوط في لندن، الذي كان يطلب من العاملين تحت إمرته أن يُقيّم ويُصنف كلٌ منهم الآخر. ولجأ واحد من هؤلاء الموظفين إلى كينغسلي للعلاج.
فالرجل، الذي عمل ثلاث سنوات في هذا المكان، صُدِمَ وأُرْهِبَ جراء خضوعه للتقييم والتصنيف من جانب زملائه بعد كل اجتماع، واضطراره لتقييمهم أيضا.
وحسبما روت كينغسلي؛ فقد كان الموظفون جميعا يستعينون بأجهزتهم اللوحية من طراز (آي باد) خلال حضورهم الاجتماعات، وذلك لتسجيل ملاحظات على أداء المشاركين الآخرين فيها.
وتضيف أن ذلك أدى لنشوء “عقلية القطيع. فإذا ما تحقق الناس من أن المدير مستاءٌ من شخص بعينه، سيقولون (عنه) ما يعتقدون أن المدير يريد منهم قوله بشأنه”.
وقد آل الأمر بالموظف، الذي لجأ لـ”كينغسلي” لتلقي العلاج، إلى أن يغادر الشركة بعد وقت قصير من إصابته بأزمة نفسية.
وتقول الخبيرة النفسية في هذا الشأن: “كان يُفترض به الالتحاق بوظيفة جديدة، ولكن توجب عليه التوقف عن العمل لمدة عام، وتلقى علاجا نفسيا مكثفا لاستعادة إحساسه بذاته وثقته بنفسه”.
الاستهانة بالأمر
هناك خيار آخر للتعامل مع المدرين الذين يستخدمون التخويف؛ ألا وهو الاستهانة بما يقومون به أو الرد عليهم بالمثل، وهو ما أقدمت عليه سيدة بإحدى الشركات العاملة في مجال صناعة الطيران بجنوب فرنسا، عندما صادفت مديرا يتبني ذلك النهج.
وتقول السيدة، التي رفضت الكشف عن هويتها، إن مديرها كان “يمارس ضغطا مستمرا فيما يتعلق بتحقيق نتائج، وكان محبوبا من جانب رئيسه في العمل. كان يحمل فريقه على تحقيق الأهداف، على نحو هائل”.
ولكن كان بوسع هذه السيدة التقليل من شأن ذاك السلوك من قبل مديرها، لأنه كانت لديها تجربة سابقة مع شخصيات استخدمت هي الأخرى أسلوب التخويف، بما في ذلك ما جرى لها خلال علاقة شخصية جمعتها بشخص متغطرس.
وتروي تجربتها مع مديرها بالقول: “بمجرد أن حاول هذا المدير المزعج مضايقتي بشكل منتظم، وإثبات أنني على خطأ، واتهامي بالكذب؛ نظرت في وجهه فحسب وانتابني شعورٌ مفاده “يا لك من رجل بائس مريض”.
إذا كنت مضطرا لخلق بيئة مفعمة بالخوف، فإن لديك إذن قصة حزينة للغاية لتخبرها للآخرين” عما تعرضت له أنت نفسك.