على خط النار أمام «داعش» بالعراق .. مشاهدات صحفي مصري زار قوات الحشد الشعبي

352

10-5-2016-S-12

      الحكمة – متابعات: «الوطن» على خط النار أمام «داعش» بالعراق هنا أبوبكر البغدادى، هنا «داعش» هنا الأعلام السوداء ورايات القتال، هنا الموت، هنا الحقيقة الموجودة بين حطام المنازل المهدمة، وعلى جبهات القتال المشتعلة وخلف صرخات النساء والأطفال على قتلاهم، وأسفل التراب فى المقابر الجماعية، وجدناها فى زغاريد النساء خلف رجالهن على الجبهات، وبين الأيادى الناعمة التى خرجت للقتال بالجلابيب السوداء المحتشمة للدفاع عن قراهم، وجدناها بين المزاح الأخير قبل الموت، وبين صدور أولئك الذين يلهثون خلف القتال بحثاً عن الموت الجميل.

كانت تلك الحقيقة التى تنتظرنا حينما سألنا أنفسنا «لماذا العراق؟» وقبل أن نحزم أمتعتنا ونذهب إلى تلك البقاع الموحشة، كنا نظن أن هناك شيئاً مهماً ينتظرنا -وكنا مُحقين- ذهبنا لنشهد على الحرب وعلى فظاعات من نصّبوا أنفسهم رمزاً وحيداً صحيحاً للإسلام تحت اسم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام»، ذهبنا لنجلس على الجبهات الأكثر خطراً ورعباً وإلى جوار البنادق وهى تطلق والمدافع وهى تقصف والصواريخ وهى تستهدف، اقتربنا بشدة من أشباح داعش وهم يطلقون النار علينا، وكدنا نقيس فوهات بنادقهم، ذهبنا وأيقنا أن الحقيقة ليست فى الخلف وأنها موجودة فى الأمام، موجودة مع المدافعين عن بلدهم يداً واحدة، وجدنا السنى مع الشيعى على جبهة واحدة، وجدنا الجيش والحشد والشرطة الاتحادية على نفس المواقع بينما الموت يرقد أمامهم على بعد أمتار قليلة.

من «البوعيثة» إلى «الصقلاوية» و«ناظم التقسيم»، ثم «الثرثار» و«سامراء» حتى «الضلوعية» و«تكريت» و«الديوانية»، وجنوباً «النجف» و«الكوفة»، لم يهدأ بالنا فى هذه الرحلة الشاقة التى خططنا لها على مدار شهور طويلة، آثرنا فيها إظهار ما خفى عنّا وعنكم، استمعنا إلى أهل بلاد الرافدين، كنا كلنا آذاناً صاغية لمن يسكنون الخنادق على الجبهات ومن يسكنون القرى والمدن بل وحتى النازحين الذين سكنوا مخيمات تعج بقصص المعاناة فى الهروب من الموت، وأخيراً.. عدنا لكي نشهد على الحرب. ومن بين الذين يقفون فى الخلف ينتظرون أخبار العائدين من «التهلكة» يستمعون إليهم وما يجرى فى المعارك الطاحنة، «الوطن» لم تقف مع أولئك المتحصنين بمئات الكيلومترات بعداً عن الجبهة والموت، فانطلقت متلهفة لرصد شدة القتال والمعارك على أكثر الجبهات قسوة فى «الفلوجة» أمام تنظيم «داعش».

هنا فى جبهة «الصقلاوية» أى خطأ يكلفك حياتك، فلا تزال تلك الجبهة التابعة للفلوجة بمحافظة الأنبار تشهد قتالاً عنيفاً ومحاولات انتحارية جنونية تكشف بعمق عن مدى رجعية الحرب مع التنظيم «الأسود» الذى لا يراعى فى حربه أى مبادئ للشرف، حتى إنه لم يترك منازل الأبرياء من الأهالى إلا ودمرها، فأصبح الطريق إلى الجبهة مشوهاً بمشاهد التدمير ورائحة الموت التى تفوح من بين الركام والحجارة المهدمة.

قناص «التنظيم» يستهدف محرر «الوطن».. وقائد الفرقة: «دنى راسك من الرصاص».. وبعد دقائق رصاص كثيف وقذيفة «آر بى جى» لاغتياله مع أول خيوط النهار فى السابع من مارس الماضى، كانت عرباتنا المصفحة تقطع الطريق الواصل بين بغداد والفلوجة، متوجهة نحو الصقلاوية، وكانت أشبه بتوابيت فولاذ محشوة بخوذات الجنود المحشورين فيها، وجو ملبد بالضيق والارتباك ووحدة موحشة نحو الحرب.

طريق أسفلتى تظهر على سطحه حفر تم إصلاحها بعد أن تشكلت نتيجة التفجيرات الهائلة على طول هذا الطريق فى حرب استمرت لمدة عام، لأجل طرد «داعش» والهجوم المضاد، الطريق الذى يحازيه عدد هائل من القرى بدأت على اليسار بقرية «سبع البور»، التى عُرفت حديثاً باسم «الجوادين»، وهى أرض واسعة زراعية تقع على بُعد نحو 40 كيلومتراً من بغداد، وأنشئت فى ثمانينات القرن الماضى خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث تم توزيع أراضيها على عوائل الشهداء والأسرى، ومد إليهم خطوط المياه والرى والخدمات، لكن البلدة تعرضت للخراب والدمار وهجرها سكانها، وأفرغت منها روحها بعد احتلالها من قبل «داعش»، فعلى طول الطريق لم تجد سوى بنايات ذات طابق أو طابقين، مهجورة بالطبع لم يتمكن الأهالى من العودة حتى بعد أن سيطر الجيش العراقى على هذه القرية، وما زالوا فى بغداد وبقية المدن العراقية كباقى النازحين المشردين.

الموت يحاصر الجميع على جبهات القتال فى «الفلوجة».. وجنود «الحشد» فى «الصقلاوية» يواجهون الرصاص بلا سترات.. وقائدهم: «درعنا الله»

تحولت «سبع البور» وبقية القرى والمناطق المجاورة لها كمنطقة «التاجى، والشيخ عامر وقرية البصام»، إلى مناطق خاوية تسكنها الأشباح، فلا يمكن الاقتراب منها أو دخولها، حيث توجد علامة الجيش الحمراء التى تشير إلى أن هذه المنطقة ليست نظيفة -أى بها مفخخات وألغام- كما أن الخروقات على الجدران بفتحات كبيرة، كل فتحة تدل على عيار الطلقة التى مرت عبرها، يثير الخوف لمن ظن أن بإمكانه الدخول إلى هذه المنطقة الخطرة، فقط من بإمكانه مشاهدة هذه المشاهد التى صوّرتها «الوطن» هم القوات المشاركة فى تحرير هذه المناطق، سواء الجيش العراقى أو قوات «الحشد الشعبى»، وبالكاد الشرطة الاتحادية، وهى شرطة تأسست عام 2004 لحفظ النظام وسد الفراغ الأمنى بعد الاحتلال الأمريكى، وكانت تُسمى بـ«الشرطة الوطنية»، إلا أنه فى عام 2009 سُميت بـ«الشرطة الاتحادية»، وازداد عدد أفرادها، ولم يكن هناك تخطيط لمستقبل هذه القوات عند انحسار الإرهاب خلال الأعوام الماضية، لكن وجدت فرصة جيدة لإظهار الحاجة إليها فى مواجهة تنظيم داعش الآن، فانطلقت نحو جبهات القتال للمشاركة فى الحرب المشتركة، وهذه تختلف عن الشرطة العادية فى أحقيتها بالتجول فى كل الأراضى العراقية دون التقيُّد بنطاقات محدّدة، وتشارك فى الكثير من المعارك، وترتدى الزى الأزرق والعربات والمعدات العسكرية الثقيلة، وبالكاد السيارات الأمريكية الثقيلة «Humvee».

ضابط: حينما نقتل «دواعش» نأخذ هواتفهم ونتصل بأهلهم وندعوهم للحصول على الجثة لكن لا أحد يأتي

بالنسبة لى، أصبح التفريق بين القوات ومعرفة هوياتهم إن كانت ضمن «الحشد الشعبى»، أو من الجيش العراقى، أو حتى الشرطة الاتحادية، ليس من لون زيهم الرسمي، حيث يتشابه الزى فى كثير من الأحيان، وإنما من الأسلحة التى يحملها الجنود، فالقوات العراقية تحمل البنادق الأمريكية «m – 16» التى صمّمها الأمريكي يوجين ستونير قبل نحو 60 عاماً، فقد أقنع الأمريكيون الجيش العراقى، بأن هذه البنادق أفضل من «الكلاشنيكوف» الذى كان يتسلح به هو ومعظم جيوش المنطقة فى السابق، حتى إن الأمريكيين لم يعطوهم هذه البنادق إلا وقت مغادرتهم العراق، بهدف ألا يحمل العراقيون البندقية نفسها التى يحملها الجنود الأمريكيون، كيلا يتساووا فى كفاءة التسليح -ظناً من الأمريكيين أن بنادقهم أفضل من «الكلاشنيكوف»- كما أنها دخلت ضمن المساعدات العسكرية الأمريكية للعراق، حتى إن كانت البنادق مستعملة، رغم ما يُعرف من أن الأمريكيين إن ذهبوا إلى الحرب لا يعودون بأسلحتهم القديمة معهم، فتكلفة شحنها أكثر من ثمنها، أما بالنسبة إلى قوات «الحشد الشعبي»، فغالبية أسلحتهم روسية التصميم، فنجد غالبية بنادقهم من طراز «كلاشنيكوف ak 47»، وصُنع الكثير من هذه البنادق فى مصانع روسية وصينية وإيرانية، وتكون من الفئة الثالثة أو الخامسة، أى التجارية، وليست الفئة التى تخدم بجيوش تلك الدول، لكنها على كل حال تُطلق النار ولا تخذل الجندي، ويشيد بها غالبية جنود «الحشد الشعبي»، وفق «أبوزين العابدين على»، ضابط من الجيش العراقى، الذى رافقنى الدخول إلى «الصقلاوية»، أكثر المناطق التهاباً فى الفلوجة.

منذ بداية الطريق من بغداد وحتى «الصقلاوية»، انتشرت نحو 15 سيطرة أمنية، وجميعها لا تمر منها سوى السيارات التابعة للجيش أو قوات «الحشد الشعبى»، أو الشرطة الاتحادية، وتمكنت من عبور هذه السيطرات لمرافقتى «أبوزين العابدين» ومعه عدد من جنود «سرايا عاشوراء» اللواء الثامن فى قوات «الحشد الشعبى»، التى تسيطر على خط التماس مع «داعش» فى «الصقلاوية»، لم يُسمح فى هذا الطريق بمرور أى سيارة مدنية، لأن القرى الواقعة على هذا الطريق تحولت إلى قرى مهجورة ومليئة بالألغام، قطعنا نحو 50 كيلومتراً، حتى نُفاجأ بساتر ترابى ملاصق للطريق الأسفلتى، وهى جبهة ساخنة مواجهة لقناصة «داعش» المختبئين على الجبهة الأخرى المقابلة للطريق، التى لا تبعد عنه سوى بضع عشرات من الأمتار، لذا يرتكز عدد من قوات الجيش العراقى بمجموعة من القناصة، وصواريخ محمولة على الكتف ومدرعات «هامفى» الأمريكية، موجهة فوهة مدفعها نحو الجانب الآخر، وانتهى هذا الطريق باختفاء الساتر الترابى الذى بلغ طوله 5 كيلومترات تقريباً، بمساحات واسعة على جانبى الطريق.
100 متر فقط تفصل بين «داعش» والقوات على الجبهة.. وموجات اللاسلكى يلتقطها الطرفان ويتبادلان الحديث فى الليل ويتشاجران بالسباب.. و«الحشد» تضم مقاتلين «سُنة» بجوار «الشيعة» وبسؤال المرافقين من قوات «الحشد الشعبى»، عن سبب انتهاء الساتر الترابى إلى هذا الحد، وظهور مساحات واسعة بعده، أجابوا قائلين إن الساتر الترابى تم وضعه لوجود بنايات وأشجار على الجهة المقابلة بنحو بضع عشرات من الأمتار، وفى بعض الأحيان مئات الأمتار، وإنه اختفى بعد أن اختفت هذه المنازل والأشجار الملاصقة للطريق، التى يستخدمها «داعش» فى الاختباء وضرب السيارات المارة على الطريق، كما أنه يصعب عليهم التقدم نحو الطريق طالما هناك ظهير صحراوى يخلو من أى موقع يختبئون به.

يقول «على» مشيراً بيديه إلى الخلف نحو الساتر الترابى والجهة التى يوجد بها قناصو ورجال «داعش»، إن المسافة التى تفصل بينهم وبين قوات «داعش» تكون ما بين مائة متر إلى مائتين أو ثلاثمائة متر، ويحدث الكثير من المواقف التى تبدو طريفة، حيث تلتقط شبكات اللاسلكى موجات الإرسال المختلفة، فتختلط ببعضها البعض، وأحياناً يتبادلون الحديث مع بعضهم، معلقاً بقوله: «أحياناً اللاسلكى يلتقط موجاتهم، ويتم إجراء حديث بيننا، نتحدث معاً فى أى شىء، وأحياناً نتبادل السباب»، مشيراً إلى أن قوات «الحشد الشعبى» والقوات العراقية تلتقط موجات اللاسلكى الخاصة بجنود «داعش»، ويسمعون حديثهم وتوجيهاتهم، كما أن أفراد «داعش» أيضاً تلتقط موجاتهم ويسمعون كل التوجيهات، لافتاً إلى أنه لا يوجد شىء سرى، وكل الأحاديث تكون عن الأكل والطعام وسلام الأهل والأصدقاء.

ويضيف «على» الذى خدم على الكثير من جبهات القتال أمام «داعش» فى حزام بغداد والفلوجة، أن التوجيهات السرية لن تكون عبر اللاسلكى فى الجبهات، وإنما تكون خاطفة لا تحتاج إلى توجيه باللاسلكى، حتى لا يلتقطها العدو، وإن التقطها ففى الغالب لن يتمكن من النجاة بسبب سرعة الهجوم، كما أن أى أوامر سرية لا يمكن تبادلها على الجبهة، موضحاً أن الهجمات الخاطفة تجعل هناك أسرى وقتلى فى الطرفين، لا يسمح فى كثير من الأحيان، لكل طرف بسحب قتلاه، ويتم تركه والانسحاب بسرعة، وفى هذه الحالة يعثر الجنود على هواتف محمولة فى ملابس القتلى من «داعش»، ويقومون بالاتصال بأهل القتيل من آخر رقم تم الاتصال به، ويبلغونه بأنه قتل، متابعاً: «أحياناً نعثر على هواتف، فنتصل بأهلهم نقول لهم تعالوا خدوا ابنكم هو مقتول عندنا، أو نتصل بأصدقائه، لكن لا أحد يأتى»، لافتاً إلى أن الأمر نفسه يحدث مع «داعش» حينما يهجمون ويتمكنون من تسديد ضربات وإيقاع قتلى فى صفوف الجيش العراقى أو قوات «الحشد الشعبى»، يقومون بالاتصال بالأهل والأصدقاء ويستفزونهم بأنهم قتلوا الجندى ويمثلون بجسده، لافتاً إلى أنه ذات مرة حصل على هاتف أحد الدواعش ووجد به صوراً تذكارية له ولأصدقائه، وأصبحت طريقة شهيرة فى تفتيش القتيل للحصول على هاتفه المحمول والبحث فى الصور على أى أدلة تكشف هوية زملائه على الجبهة من خلال الصور الجماعية له معهم.

«داعش» استخدم سياسة الأرض المحروقة فى الصقلاوية وقام بالتدمير الكامل للجسور والبنايات انتهت مسيرتنا إلى أحد المراكز التابعة لقوات «الحشد الشعبى» على أبواب مدينة «الصقلاوية»، لم يكن يُسمح لنا بالدخول والمرور إلى جبهة القتال من دون اصطحاب العميد حمزة خضير، فهو القائد المسئول عن نقطة التماس الساخنة المواجهة لـ«داعش»، وهو رجل قوى الملامح، بشرته سوداء يحب الهواء الطلق ومعتاد على التصرّف بذكاء وبجراءة شديدة، اصطحبنى مع جنود «عاشوراء» نحو أخطر المواقع وأكثرها التهاباً فى كل البلاد، حيث تُجرى محاولات دائمة من قوات «داعش» على وحدات قواته المرابطة على بُعد 150 متراً فقط من قوات «داعش» المختبئة فى بنايات مهدّمة وتطلق النيران عليهم بين الحين والآخر، بينما يرسلون عرباتهم المفخّخة فى أحيان أخرى.

يروى العميد «حمزة» ما تعانيه نقطته القتالية من هجوم مستمر، قائلاً: «نحن ما نخاف، مهما هاجمونا الإرهابيين، نصمد فى منطقتنا ولا نبرحها، ومهما فقدنا من شهداء لن نتراجع شبر واحد، وهتيجى تشوف أسودنا صامدين كيف»، مشيراً إلى أن خط المواجهة مع «داعش» على حدود مدينة الفلوجة، وأن الفلوجة عملياً محرّرة لمحاصرة «داعش» من جميع الجهات، إلا أنه لا تزال بها القوات الداعشية التى تُجبر الأهالى على عدم الخروج من المدينة وتجعلهم دروعاً يتحصّنون بها من غارات الطائرات أو القصف المدفعى من جانب قوات الجيش العراقى، مشيراً إلى أن الأمر لا يتطلب سوى الوقت حتى تنفد ذخيرتهم ويجبرون على الاستسلام.

«الوطن» تلتقى بجندى سُنى على الجبهة لكنه يرفض التحدث حتى لا ينكل «داعش» بأسرته فى الأنبار اصطحبنا مع عدد من جنوده إلى نقطته الواقعة بين الجسر اليابانى والمعهد الفنى بـ«الصقلاوية»، التى تم تحريرها العام الماضى، تلك المنطقة الصحراوية الخالية من السكان تظهر بها آثار العنف على الأراضى المنبسطة وأى بنايات أقيمت على طول الطريق، حيث تظل الخروقات على الجدران والبنايات المهدّمة شاهدة على عنف المعارك فى تلك المنطقة، وبعد نحو 15 كيلومتراً وصلنا إلى نقطة التماس الخطرة، حيث استقبلنا عدد من الجنود استخدموا أحد المخازن فى جعله غرفة مبيت كبيرة، بينما أقاموا تبة من أجولة الرمل «هيسكو»، وإلى جانبه جهة اليسار حفروا خندقاً كبيراً وفخاً مقابلاً للطريق الذى يستخدمه «داعش» فى إرسال مركباتهم وسياراتهم المفخّخة عند نقطة تُدعى «البو مطيرى»، وفقاً للخرائط العسكرية التابعة لمديرية الاستخبارات فى قسم الشئون الجغرافية بهيئة «الحشد الشعبى»، و«البو مطيرى» هو اسم لإحدى العشائر التى كانت تسكن هذه المنطقة.

انطلقنا والعميد «حمزة» ومعنا «أبوزين العابدين» نحو الحصن الأول، الذى يرمز إليه على الخرائط نفسها بـ«بيت حجى بخيت»، موجهين رؤوسنا إلى الأسفل، خشية استهدافنا من قبل قناصة «داعش» التى كانت تبعد عنا بـ150 متراً فقط، حتى وصلنا إلى التبة، ويتحصّن بها أحد الجنود، موجهاً بندقيته نحو أهدافه المتخفية خلف بناية رمادية، نجلس إلى جواره، وننخفض إلى الأرض حتى لا تكون رؤوسنا مكشوفة لعناصر وقناصى «داعش»، بينما يقف الجندى واضعاً لوحين زجاجيين مضادين للرصاص، لا يزيد عرض كل لوح على 30 سنتيمتراً، حتى يتمكن من الرؤية دون الشعور بالتهديد من رصاصة تخترق رأسه.

كان المشهد يدل على خطورة المنطقة، حيث تظهر عليه محاولات «داعش» الانتحارية لتفجير النقطة العسكرية، ما بين دراجة بخارية ملقاة على الأرض وجرار ضخم حاول اختراق الطريق والوصول إلى التبة لتفجيرها، إلا أنه فى كل محاولة انتحارية تهاجم الحصن، تتمكن قوات «الحشد» من تدميرها بقذيفة 106. وأكد جنود «الحشد» أن «داعش» يرسل المدرعات والمفخخات وبها جثث القتلى من صفوف الجيش العراقى و«الحشد الشعبى».

هبطنا من التبة قليلة الارتفاع حتى نذهب إلى الجبهة الأخرى، التى تقف بينها وبين التبة الأولى بنايات من طابق واحد تم تدميرها تماماً إثر المعارك التى دارت رحاها وقت الاشتباك وانسحاب الدواعش إلى الخلف، لكن جنود «داعش» تمكنوا من رصد حركتنا ورؤيتى بالرداء المدنى فظنوا أننى شخصية هامة فأمطرونا بوابل من الرصاص حتى اضطررنا إلى الجرى والانبطاح، حتى لا تصيب رصاصاتهم رؤوسنا أو أجسادنا، تمكنا من الولوج إلى الجبهة الثانية، إلا أنه كان يتحتم علينا المرور سريعاً، وحينما نجد كومة ترابية نحتمى بها، ونستأنف الولوج إلى العمق حتى نكون خلف ساتر قريب إلى القناصين وجنود «داعش»، لكنه أكثر تحصناً وارتفاعاً، ومن ثم الصعود إلى التبة الثانية، حيث أجولة الرمال التى تُشكل الحصن الثانى.

وفى هذا الحصن، جلس «حمزة»، مشيراً بيديه إلى البنايات، التى يختبئ بها جنود «داعش» والقناصون، موضحاً أنه ورجاله يعانون قتالاً عنيفاً، لكن روحهم القتالية أقوى على الهزيمة مهما كانت الظروف. ويستكمل «أبوزين العابدين على» وهو جالس القرفصاء داخل الحصن، حديثه عن المنطقة، ليقول إن القوات العراقية و«الحشد الشعبى» سيطرا على هذه المنطقة بالصقلاوية فى أغسطس من العام الماضى، لكن بعد معارك عنيفة من الضفة الثانية من النهر عند جسر الشيخ عامر والضابطية، وتقدّموا نحو الصقلاوية وحققوا انتصاراتهم بعد الانتصار الكبير فى ناظم التقسيم، مشيراً إلى أن هذه المنطقة تتعرّض كل أسبوع لهجمات انتحارية ما بين هجمة أو اثنتين أو ثلاث، لكن جميعها تبوء بالفشل بسبب يقظة الجنود وتجهيزهم بمضادات للدروع.

ويضيف «على» أن «داعش» يستخدم فى هجماته بلدوزرات وسيارات تمت السيطرة عليها من الجيش العراقى فى معركة الموصل بعد سقوط مستودعات وجراجات الجيش فى أيديهم، موضحاً أن بعض هجماتهم تكون بسيارات الجيش وتُحمل عليها جثث جنود عراقيين لديهم، حيث يملأون السيارات بالمفخخات وجثث القوات التى تسقط فى أيديهم، ثم يركبها انتحارى واحد أو اثنان لمهاجمة السيطرات والحصون الدفاعية للجيش العراقى أو قوات «الحشد الشعبى»، موضحاً أن هجماتهم أحياناً تكون ليلية بالأحزمة الناسفة، لكن يتم رصدهم من خلال الكاميرات الليلية وضربهم، مشيراً إلى أن الهجمات لا تقتصر فقط على التفجيرات، بل من خلال القناصين المتربصين على الأبنية القديمة المهدمة والأشجار الكثيفة والركام المتناثر على طول خط التماس، فى الوقت الذى يقف فيه الجنود من دون سترات واقية من الرصاص أو خوذات للحماية من هجمات القناصة، معلقاً بقوله: «مهما بلغت قواتهم الانتحارية وبراعتهم فى القنص، لا يمكن أن يخترقوا صفوف هؤلاء الأبطال وصدورهم التى بلا دروع واقية».

وبسؤال «حمزة»، قائد الفرقة، عن سبب عدم ارتداء السترات الواقية من الرصاص والخوذات الفولاذية، أجاب بأنها غير متوافرة وأنها ليست أساسية فى الحرب ضد فصيل متطرف، وأن الدافع هنا فى هذه المعارك هو الإيمان بالله وبحمايته لنا، طالما كنا على طريق الحق، معلقاً: «الحامى والواقى من الرصاص والدرع هو الله، ما كنا نطلب واقياً من الرصاص، لا يوجد شبر فى جسدى من دون أثر لشظية أو رصاصة، أصبت أنا وجنودى، لكننا مستمرون حتى نموت على الحق»، مناشداً جميع العرب أن يدركوا خطر «داعش» لكونه تنظيماً متطرفاً يعمل على التفرقة بين السنة والشيعة وتصبح عملياته الإرهابية بهذه الصور حتى يتشدّد له ويقف بجانبه ويساعده أى سنى لا يعلم الحقيقة، قائلاً: «هنا نحمى الجميع، السنى والشيعى، نحن نحارب من أجل الجميع، السنى والشيعى والمسيحى والكردى، وبيننا مقاتلون سنة يعرفون الحق».

يشير «حمزة» بيده من داخل الخندق إلى جسر يُدعى «جسر الشيحة» وفقاً لخرائط مخابرات «الحشد الشعبى»، فجّره «داعش» ويقول: «هذا الجسر يؤدى إلى الرمادى، فجروا هذا الجسر، وهاى البيوت فجرها (داعش)، وهذه السيارة فجرها (داعش)، هم مجرمون لا يأتى من ورائهم غير الخراب، لا بد أن نحاربهم».

بعد تزايُد إطلاق الرصاص علينا انزلقنا سريعاً من الحصن فى حالة من الارتباك الشديد، كان الجنود المرابطون فى هدوء شديد، ربما لعلمهم بالأماكن الأكثر حماية خلف السواتر الترابية والخرسانية، كان الموقع خطراً، حيث كانت به أماكن مفتوحة وغير مغلقة بسواتر وحصون كاملة، بين كل بضعة أمتار توجد فتحة جغرافية تُمكن قوات «داعش» من إطلاق النار على الموجودين فى الجبهة من خلالها، ازدادت طلقات البنادق الداعشية التى كانت تأتى إلينا من جبهتين، كان الوضع سيئاً جداً، اضطررنا إلى السير منخفضين، خشية أن يتسلق أحد القناصة الأشجار والصعود إلى الأعلى، وضربنا، وكنا نخشى أن يزيد الهجوم، وحينما حاول أحد الجنود الرد عليهم ناشدته عدم مبادلتهم إطلاق النار، وأردت أن نتجنّب القتال على جبهتين، خصوصاً أنهم لم يعرفوا أين يتحصّن قناصو «داعش» تحديداً، فلن يتمكن من تغطية انسحابنا بهذه الطريقة، إذ كنت أخشى من إرسال قذائف الهاون بغزارة أو يُكثّف الدواعش من أعدادهم ويكثفون النيران على الثغرات المفتوحة على الجبهتين، كما أن الخندق الكبير الذى يمكن أن نتحصّن به على بُعد مائتى متر، وعلينا أن نجتاز مسافة 40 متراً فى العراء فى الوقت الذى ظهر فيه قناص آخر ومعه رامى طلقات سريعة، وبدأوا يطلقون النيران بكثافة، كان يصعب اجتياز هذه المنطقة للتحصّن بالخندق من أى هجوم مدفعى محتمل أو حتى من قذائف الهاون، ولم تكن لدينا سترات واقية من الرصاص أو خوذات تقى رؤوسنا من طلقات «داعش»، لنتمكن من البقاء وسط الاشتباك المسلح من الطرفين، أردنا أن نتجنّب القتال على جبهتين، ووافقنى فى الرأى قائدهم «حمزة».

وبالفعل زاد إطلاق الرصاص لملاحظتهم حركتنا، ثم أطلقت علينا قذيفة «آر بى جى»، مما دفع مدرعة «هامفى» التابعة للفرقة المرابطة إلى التقدّم نحو منطقة العراء ذات الـ«40» متراً، لملاحظة قوة الهجوم وإطلاق القذائف، أسرعنا خلف المدرعة والاحتماء بها فى ممر مكشوف يؤدى مباشرة إلى منطقة أكثر أماناً تجاه المخزن الذى يستخدمه الجنود مبيتاً لهم، وعُدنا سريعاً إلى ركوب السيارة، وطالبت السائق بالتقدم بسرعة والابتعاد مسافة 7 كيلومترات كى نخرج من مرمى قذائف «الهاون»، وللمرة الثانية يؤيدنى فى الرأى القائد «حمزة»، قائد المجموعة المرابطة فى «الصقلاوية»، وأمر السائق بالقيادة السريعة لهذه المسافة التى حدّدتها، وقتها اقترح «على» التوجه لرصد ما جرى فى المعهد الفنى، لكنى رفضت اقتراحه وتجاهلت النصيحة، لأنه فى مرمى هاون «داعش»، فرد «حمزة» قائلاً: «صحيح، المعهد الفنى فلشوه (فجروه) داعش بالهاون، ومحتمل يضربوه مرة واثنين وثلاث، لأنهم عارفين أن محتمل قناص يختبئ به ويضرب منه»، شاهدت المعهد من بعيد وكان الدمار أكله وجعله ركاماً أشبه بلعبة أطفال دهستها شاحنة كبيرة، حيث أصبح ارتفاعه بضعة أمتار قليلة بعدما كان ذا أربعة طوابق.

اتجهنا شرقاً نحو الجسر اليابانى، الذى يشهد على فظاعة «داعش» فى تدمير البنية التحتية واتباع سياسة الأرض المحروقة، فى هذه المنطقة لا توجد بناية واحدة لم تتعرّض للأذى والتدمير، كما أن كل البنايات على طول الطريق محطمة، فإن الخروقات الكثيرة تحكى لنا شدة المعارك الضارية خلال انسحابهم وتراجعهم، حيث كان الهدف من تدمير الجسر اليابانى إعاقة تقدم القوات نحو الرمادى، ثم انسحبوا هم نحو الفلوجة للتحصن بالأهالى وجعلهم دروعاً واقية، حسب «حمزة».

استكملنا الطريق باتجاه الثرثار، وعلى طول الطريق لا تزال حفر كبيرة وعميقة تحكى كثرة المحاولات الانتحارية التى كان يشنها الدواعش قبل انسحابهم من هذه المنطقة، يقترب «حمزة» من حفرة سبّبتها محاولة انتحارية لضرب قواته، ويطالبنى بأن أسير خلف خطواته بالضبط، راوياً ما جرى فى هذه المنطقة منذ 6 أشهر، حيث لا تزال بقايا التفجير موجودة داخلها من قطع حديد بقايا هيكل سيارة ورولمان بلى خاص بالسيارة: «هذه سيارة مفخّخة وكان يبعد عنها كمين لقوات (الحشد الشعبى)، وكان القطاع كله تابعاً لـ(سرايا عاشوراء)، رأى الكمين السيارة تتقدم بسرعة فضربها، وفجّرها فى الحال بصاروخ 106، فجرنا السيارة، وكان بها اثنان انتحاريان، وهذا صار منذ 6 أشهر، وبعدها طهرنا الطريق من أى مفخخات».

تدين قوات «الحشد الشعبى» والقوات العراقية بالكثير لهذا المدفع المباشر «106 ملم» فى مواجهة «داعش» وعملياته الانتحارية بالآليات المدرعة والبلدوزرات، فقد أنقذهم خلال الكثير من المعارك مع «داعش» حتى إنهم لقبوه بـ«صائد الدبابات»، لقدرته على تدمير الدروع الكبيرة التى يصمّمها أفراد «داعش» حول سياراتهم أو مركباتهم المفخخة لصعوبة إيقافها حتى تصل إلى هدفها وتفجّره، وهذا المدفع هو سلاح عديم الارتداد من الأسلحة الثقيلة المضادة للدروع، بدأت صناعته بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اقتبس تصميمه من الأسلحة المضادة للدروع، مثل المدفع الألمانى «فلاك 88 ملم»، الذى كان له الفضل فى تدمير الدبابات الروسية، وأعجب به «هتلر» وأمر بوضعه فوق دبابة، ليصبح مدفع الدبابة المرعبة «تايجر» أكثر الدبابات الألمانية ترويعاً، لذلك أصبح المدفع «106» أكثر القذائف الموجهة إلى حصون وآليات «داعش» ذات التدريع الكبير.

استأنفنا الطريق، حتى وصلنا إلى مقر وحدة عسكرية عراقية كانت مسئولة عن تأمين منطقة ناظم التقسيم، وهى منطقة استراتيجية بها سد مائى مهم وجسر يربط كل المدن بالطريق السريع إلى بغداد، وهو طريق بغداد – الفلوجة، الوحدة العسكرية مدمّرة بالكامل، لا يوجد بها سوى «هيسكو» (جوالات كبيرة مكعبة محشوة بالرمال ومغطاة بأكياس كبيرة)، تلك الأكياس البلاستيكية السميكة رسمت لنا وعدّدت كم طلقة وأى أعيرة كانت تستهدف الجنود المحتمين خلفها، إضافة إلى عدة مركبات و«ونش» كبير ودراجات نارية أمام المقر، جميعها مدمّرة بشكل كامل، يقول «على» إن الوحدة العسكرية العراقية كانت محاصَرة فى هذا المكان فى مايو من العام الماضى، وحاصرها الدواعش لمدة أربعة أيام من الاشتباكات المستمرة والمحاولات الانتحارية، التى تصدت لها القوات، متابعاً: «كانوا بالعشر دراجات انتحارية يهاجمون المقر، وأوناش وسيارات، بل حتى بالمدرعات، لكن الجنود كانوا صامدين فى ظل محاصرة (داعش) لهم من كل الجوانب، حتى قامت طائرة عسكرية بإخلائهم فى اليوم الخامس»، مشيراً إلى أن العمليات العسكرية تمكنت بعدها من تحرير هذه المنطقة المهمة.

انعطفنا نحو الشمال عند الجسر الاستراتيجى المهم «ناظم التقسيم»، وهو جسر جديد صمّمه الجيش العراقى وأنشأه فى أقل من 20 يوماً، ودافع عنه بشدة، حيث يؤمّن له كامل المنطقة من هجمات «داعش»، كما أن الجيش العراقى ضحى بالكثير من رجاله من أجل السيطرة على هذه المنطقة الصعبة، فتقع الضفة المقابلة لهم تبة طبيعية عالية ترتفع عن الضفة التى تقابلها، المرابطة فيها قوات الجيش العراقى و«الحشد الشعبى» بنحو 60 متراً، مما يزيد صعوبة المعركة على كاهل الجيش العراقى.. التبة الكبيرة التى يقع خلفها ممر مائى صغير جداً، لتصبح هى نفسها محاصرة بين ممرين مائيين، الأول والكبير هو الذى أقيم عليه الجسر تجاه الغرب نحو بغداد، والثانى صغير، وهو تجاه صحراء الأنبار الشاسعة، وهو ما مثّل ميزة للقوات العراقية بعد السيطرة على التبة، حيث يستحيل معاودة «داعش» الهجوم مجدداً، حسب «على»، حيث يقول: «لا يمكن لـ«داعش» أن يعاود هجومه من هذا المكان، نحن أسسنا الجسر فى أقل من 20 يوماً لأجل وضع قوات هنا فى الأعلى، وأمامنا صحراء واسعة، أسفل التبة الكبيرة، وهى كالجبل، كما أن أسفلنا باتجاه العدو ممر مائى صغير يعيق تقدم «داعش»، لأنهم يهاجمون بالانتحاريين والمفخّخات، فإذا تقدموا إلى هنا سيرصدهم الجنود وسيطلقون النار عليهم من بعيد، وإن وصلوا فسيعلقون فى الممر المائى، ولن يتمكنوا من عبوره بسهولة، لذا كان علينا أن نبنى الحصون هنا ونراقب هذه الصحراء الشاسعة التى توصلك إلى الرمادى والموصل».

هذه التبة الطبيعية الكبيرة التى تشبه الجبل، تنتشر عليها كتل من الزجاج الطبيعى، الذى يُسمى رمال الزجاج، وهى ثروات معدنية تنعم بها صحراء الأنبار، حيث يُقدر أن بها نحو 86 مليون طن من هذه الرمال الزجاجية، التى تملأ هذه التبة، وتعكس أشعة الشمس مما يجعل بها نقاط بريق، وعلى أعلى هذه التبة نُصبت 5 حصون كانت إحداها تضم جندياً سُنياً من محافظة الأنبار رفض التحدث معنا لوجود أهله ضمن سيطرة «داعش»، فخشى أن يتسبّب حديثه معنا بأى أذى لأسرته وعائلته التى تقطن تحت سيطرة «داعش».

10-5-2016-S-11

س م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*