صحبفة الوطن المصرية تكتب: بساتين «البوعيثة»: جحيم أخضر أمام «داعش»

الحكمة – متابعة: زار الصحفي المصري أحمد العميد العراق وتجول في مدنه وتنقل في قواطع العمليات ضد داعش وبعد عودته اكد أن لا حرب طائفية في العراق وإنما حرب بين العراقيين والإرهاب، وأدناه تنقل الحكمة تجربة الصحفي المصري كما نشره موقع الوطن:
(Blitzkrieg) أو الحرب الخاطفة، كانت تلك الاستراتيجية العسكرية التي اجتاحت العراق بسرعة لإخضاع مساحات شاسعة من شمال العراق تحت يد تنظيم «داعش» قبل عامين، كان الخطر يقترب بسرعة نحو العاصمة بغداد بينما كان الجيش لا يزال يعانى محنته الخاصة.. عسكرياً كان يمكن متابعة الزحف بسرعة وإسقاط بغداد لكن تباطأت العملية لأسباب غير معلومة إلى أن تمكن العراق من حشد طاقة كل الأمة ومصادرها حتى النهاية. اقتربوا نحو بغداد والتفوا لدخولها من الجنوب لكن كانت تنتظرهم مفاجأة غير سارة مع الوحش الذى كان لا يزال متربصاً في البساتين الخضراء بحزام العاصمة المشجر، كانت أولى المهام التي تولتها سرايا «عاشوراء» التابعة للحشد الشعبي الذى تأسس بفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها المرجعية الدينية الشيعية بعد اجتياح «داعش» الموصل فى 2014، ثم انضم لهم الكثير من السنة حتى بلغ تعدادهم 50 ألف مقاتل سنى بالحشد بحسب الشيخ مهدى الصميدعى، مفتى أهل السنة والجماعة فى العراق، وأيضاً عدد من المسيحيين بهدف إنقاذ البلاد من السقوط وتعمل تحت قيادة وزارة الدفاع العراقية، دارت الحرب فى حزام بغداد الملىء بالبساتين لكن نصبت القوات الشعبية الجديدة حصونها على التلال المواجهة لتلك المنطقة الخضراء واتخذت مواقعها وجلسوا لتتبع الإرهابيين، لكن الأمر تحول إلى جحيم بالتسلل ليلاً وزرع أكثر المفخخات قسوة، وأبرعها تخفياً. على الجبهة الأخرى يجلس قناصو «داعش» ومقاتلوهم المسلحون ينتظرون الفرصة للانقضاض وتدمير الحصون الدفاعية ليضعوا أقدامهم على الطريق الذى يذهب مباشرة إلى العاصمة بغداد.. وسمت هذه الحرب فى المنطقة الخضراء بالجلوس أسفل الأشجار وخلف النخل متأهبين للهجوم المحتمل، «الوطن» زارت هذه الحرب الجالسة فى الجحيم الأخضر الذى يبعد فقط عن بغداد بـ35 كيلومتراً.
من بغداد كان الوصول إلى المواقع الأكثر خطورة ليس بعيداً، فحزام بغداد المشجر بكثافة لم يبعد عن العاصمة، حدود العاصمة العراقية، سوى بضعة كيلومترات، اضطررت إلى الدخول من الطريق العسكرى، الذى يبدأ بمعسكر ومركز عمليات سرايا عاشوراء، كنت قد حصلت على التصريحات اللازمة من الفرق المرابطة على الطريق، وجميعها تابعة لسرايا عاشوراء، للوصول إلى البوعيثة، حيث الجحيم الأخضر، الذى يمثل حواضن جيدة للدواعش، كان دخولى من الطريق العسكرى أكثر أماناً حيث يندس الدواعش بين الأهالى فى هذه البقعة الخضراء، كما أتيحت لى الفرصة للمطالبة بالمعدات العسكرية اللازمة للوصول إلى العمق ومنطقة التماس مع «داعش» فى أكثر المواقع أهمية بالنسبة إلى بغداد والتى تمكنت من الوصول إليها متحصناً داخل المدرعة الأمريكية «هامفى».
داخل مدرعة فى وزن فيل بالغ محصنة ضد الرصاص وشظايا القذائف والقنابل، تمكنا من اختراق الطريق الموازى لنهر دجلة والذى يأخذك إلى البوعيثة عبر انحناءات غير كبيرة، لم أتمكن من سماع أى أصوات فى الخارج ولم تكن لى الفرصة أن أفتح شبراً من زجاج المدرعة المضاد للرصاص، فكان صوت محرك هذه الآلية الثقيلة يطغى على أى أصوات أخرى، لكن الخارج يصف نفسه بأشجار ونخيل وبنايات صغيرة تطل على الطريق الذى يصل عرضه إلى نحو 4 أمتار فقط، لكن فى الأمام والخلف كانت تحرسنا 3 سيارات عسكرية تحمل قرابة 15 جندياً مسلحاً مع برج فوق كل مدرعة مع أعلام السرايا التابعين لها، وهى سرايا «عاشوراء»، وكانت وجهتنا إلى مقر الفوج الثالث للواء الثامن «سرايا عاشوراء»، حيث كان ينتظرنا المقدم غانم البيضانى، آمر الفوج، داخل فيلا تطل على نهر دجلة مباشرة فى ساحة خضراء مبهرة، كانت هذه إحدى الفيلات التابعة لجهاز الاستخبارات العراقى فى عهد الرئيس الأسبق صدام حسين، وكانت مخصصة لسهرات كبار الضباط التى كانت تعج بالخمور والنساء، بحسب الجنود وأحد المرافقين التابعين لمقر مركز سرايا عاشوراء.

التقيت بآمر الفوج «البيضانى»، هذا الرجل كان أحد ضباط فيلق بدر الذى سافر إلى إيران خلال فترة حكم «صدام» وعاد بعد سقوط العراق على يد الأمريكيين، ثم ظهور «داعش» منحه الفرصة للمشاركة فى الحشد الشعبى للدفاع عن العراق، منذ لحظة لقائى به رحب بى بسخاء وأبدى إعجابه وانبهاره بمصر وشعبها حيث استهلك وقتاً كثيراً من لقائنا ورحلتنا فى الحديث عن مصر وشعبها وقوة جيشها، بادلته الشعور بالإعجاب وطلبت منه معرفة ما يجرى فى هذه الغابات المخيفة على طول الطريق حتى مقر تمركزه، ليؤكد لى الأهمية الاستراتيجية لهذه البقعة التى تدافع عن بغداد وتمنع شن هجمات «داعش» عليها أو إسقاطها، مشيراً إلى أن منطقة «البوعيثة» هى أكثر المواقع أهمية فى حزام بغداد، حيث إنها منطقة بساتين كثيفة يوجد فيها الإرهابيون بكثرة يختبئون خلف الأشجار والزراعات ويشنون هجمات بين الحين والآخر من خلال المفخخات التى يزرعونها بعيداً عن الحرب المباشرة والاشتباك المسلح ونقاط التمركز، موضحاً أن الأشجار والنخل جعلت الحرب هنا مقتصرة على الجلوس فى المواقع المختلفة والقنص حينما تسنح الفرصة، لافتاً إلى أنه يحيط بـ«البوعيثة» من الجنوب منطقة السيافية وعرب جبور، ومن الجهة الشرقية منطقة الباوى، وأنها حواضن مناسبة للإرهاب، حيث توجد مسافات شاسعة وغير مسيطر عليها.
متابعاً: «السيطرة على هذه المساحات الشاسعة من الأشجار والبساتين تتطلب قوة عسكرية كبيرة ذات تجهيزات عالية، للتوغل فى البساتين وتطهيرها دون القصف العشوائى والمدفعى الذى يضر بالأهالى»، مشيراً إلى أن القوات التى لديه ليست كافية من حيث العدد ولكنها مجهزة إلى حد جيد بما يمكنها من التغلب على الصعوبات التى تواجههم لردع أى محاولات اختراق والعبور إلى بغداد، قائلاً: «نخن مستعدون لهؤلاء القتلة ولدينا مواقف مشرفة فى صدهم وطالما ندافع عن الإسلام دون تفرقة بين سنى أو شيعى وطالما ندافع عن الإنسانية والحضارة سينصرنا الله»، مضيفاً أن قواته موجودة منذ عام ونصف العام، وبالرغم من ذلك لا يوجد خرق خلال هذه المدة.
ويضيف آمر الفوج الثالث أن منطقة «البوعيثة» أغلبها من السنة ويوجد بها 20% فقط من الشيعة، بعضهم هرب منها بسبب تسلل الدواعش، وأن قوات «داعش» ترسل رجالها فى الليل لتتسلل إلى الطرق العسكرية وزرع المفخخات واستهداف القوات، إلا أن الأهالى يمتنعون عن إخبار القوات بمواقع المفخخات خشية من عنف «داعش» ضدهم والتنكيل بهم، مؤكداً أن الحرب هنا أصبحت تسير على هذا النحو من الجلوس للقنص أو زرع المفخخات، متابعاً: «فلو حد من الأهالى أخبرنا بمكان المفخخة، (داعش) تقتله هو وأهله، فبنسامح الأهالى إنهم يسيبونا للمفخخات، وها دى حربهم، صدقنى هم ليسوا شجعان ولا يمتلكون شيئاً، صدقنى»، مشيراً إلى أنه وقعت حادثة قبل أيام قليلة من لقائنا استشهد فيها جنديان وأصيب آخرون إثر مرورهم على عبوة مفخخة، وكان قبل الحادث مباشرة هناك جرار زراعى مر وحينما وصل إلى العبوة استدار وانحنى إلى طريق ثانٍ، ما يعنى أنه كان يعلم بوجودها ولم يخبر القوات.
وحول مستوى المعاملة بين قوات الحشد الشعبى وأهالى المنطقة من السنة والشيعة، أكد «البيضانى» أن المعاملة حسنة وهم يحبون القوات ويحبون بعضهم، لكن خوفهم من بطش «داعش» يجعلهم يتسترون على جرائمهم، مشيراً إلى أن «داعش» تشوه الإسلام سواء سنة أو شيعة، وأن دعوة «السيستانى» طالبت الشيعة بأن يعتبروا السنة أنفسهم وليسوا إخوانهم، وأن الحرب التى تدور هى حرب بين تنظيم إرهابى وبين دولة وشعبها.
ولّد لدى الشعور بالقلق من تقاعس الأهالى عن مساعدة الجيش وترك المفخخات تستهدفهم، حيث اضطررت أن أرافق تلك القوة العسكرية وركوب الآليات التى تتعرض للاستهداف وكانت مرافقتهم الحل الوحيد أمامى، فلا يمكن دخول هذه المنطقة والتجول بها، فكان بالتأكيد سيتم رصد أجنبى داخل المنطقة وسيتم تصفيتى فى الحال، بتهمة أننى عنصر استخباراتى تابع للجيش، شعرت بأهمية خبير المفرقعات لذا التمست من آمر الفوج والقائد أن أتحدث مع خبير المفرقعات فى المنطقة التى تعانى من المفخخات فى كل بضعة أمتار تخطوها الآليات.
بوجه أبيض ممتلئ وجسم قوى، حضر النقيب سالم محمد محمود، خبير المفرقعات بالفوج الثالث، حاملاً مع أحد الجنود قطعة من الحديد المحشوة بنترات الأمونيوم، وهى إحدى العبوات التى قام بتفكيكها من قبل، بينما يحمل جندى آخر أسلاكاً صفراء ومسطرة خشبية طويلة بها كبسولات معدنية، جلس على الأرض ليروى لى كيف كانت مزروعة وكيف تم تفكيكها، سارعت إلى الجلوس بجانبه لمتابعة الأمر، ليقول: «ها دى الحرب تخصنا نحن لأن العدو جبان بيزرع ويجرى، وأنا مهمتى أنظف المنطقة من تفخيخاتهم»، ويضع يده على قطعة العبوة الناسفة التى أمامه، ويتابع: «ها دى نوع من العبوات تسمى مطبة، وتكون بداخلها مادة نترات الأمونيوم أو التى إن تى أو السى فور وبيكون معها فتيل كورتكس وهو فتيل انفجارى من مادة البى تام»، مشيراً إلى أن كل هذه المواد تحتاج إلى صواعق كهربائية وبطارية 9 فولت ومفاتيح، موضحاً أن المفاتيح لها أنواع وهى التى تحدد كيفية التفجير، وأشهرها التى تسمى «مسطرة» وهى قطعة كبيرة من الخشب أو المعدن توجد عليها حلقات بلاستيكية وخطوط كهربائية، وعند المرور والضغط على المسطرة يعمل الفتاح ويصل الكهرباء بالعبوة فتنفجر.
