الإشارات السرية التي تحكم شبكات وسائل النقل في بريطانيا
363
شارك
الحكمة – متابعة: في صبيحة أحد الأيام على شاطئ برايتون، كنا جالسين على منحدر من الحصى نطيل النظر إلى البحر. وكان معنا جهاز كمبيوتر محمول، وكابل يمتد أمتارًا عديدة، وهوائي أطول من طفل صغير.
وكنا ننظر إلى شاشات الكمبيوتر بعينين نصف مغمضتين، لكيلا يشتت انتباهنا الرجال الذين يمشطون الشاطئ بأجهزة الكشف عن المعادن، وبعض طيور النورس الكبيرة للغاية، من أجل البحث عن ذروة موجة معينة على طيف الترددات اللاسلكية. فقد كنا نحاول أن نرى البنية التحتية غير المرئية التي تحيط بكل جزء من أجزاء الحياة في العالم الحديث.
ففي القرن الحادي والعشرين، بتنا نعتمد، في كل جانب من جوانب حياتنا تقريبًا، على أنظمة لوجستية هائلة. فتدخل الملابس والأطعمة والعقاقير والهواتف إلى حياتنا من خلال شبكة معقدة ومتشابكة من سلاسل الإمداد والحاويات والطائرات والقطارات.
ويُنقل نحو 85 في المائة من حجم الشحن الدولي، ما يعادل نحو 10 مليارات طن متري، عن طريق البحر. كما تحمل كل طائرة تجارية تقريبًا نوعًا من أنواع الشحنات الجوية، ويكون هذا غالبًا على متن الطائرات الكبيرة والفسيحة مثل طائرات البوينج 747.
وفي هذا الصدد، تعاملت مطارات المملكة المتحدة وحدها مع ما يناهز 2.4 مليون طن في عام 2013 وحده. وتنقل القطارات في المملكة المتحدة حمولات تصل إلى نحو ستة ونصف مليار طن متري سنويًا.
ولكن على الرغم من أهمية الأنظمة اللوجستية، فإن البنى التحتية لها مصممة لتكون غير مرئية، لتعمل بسلاسة وهدوء. ولذا فلا نلاحظ أنها موجودة إلا عندما يحدث عطل أو خللّ ما، وهذا نلمسه عندما نفقد طردًا أو عندما يتأخر القطار.
وقد أقمنا مشروعا يحمل اسم “فاميليارز”، وهو مشروع يهدف إلى معرفة كم عدد الأنظمة التي يُسمح للمواطنين برؤيتها، من خلال عمل خرائط تفاعلية لحركة السفن والطائرات والقطارات القريبة وما تبثه من بيانات.
ويوجد الكثير من التطبيقات والبرامج التي يمكنها تتبّع هذه الأنظمة، ولكن أغلب تلك التطبيقات والبرامج الموجودة تدير البيانات وتفرزها بدلًا من أن تتيح للمستخدمين الوصول إليها مباشرةً.
لكن هناك تقنية جديدة، وهي نظام “الراديو المعرف برمجيا”، أتاحت فرصًا لإمكانية الدخول إلى هذه الأنظمة والبحث فيها مباشرةً. وفي معظم الأحيان، تستطيع أنظمة الراديو المعرف برمجيًا تلقي الموجات اللاسلكية التي تُبث من طيف عريض من الترددات اللاسلكية.
وعلى عكس الأنظمة اللاسلكية التقليدية التي صنعت خصيصًا لتقوم بوظيفة واحدة فقط دون غيرها وتستخدم مجموعة محددة من الترددات، يمكن أن يتلقى نظام الراديو المعرف برمجيا الكثير من الموجات اللاسلكية التي تتراوح من نظام الاتصال اللاسلكي قصير المدى بين الأفراد (السي بي) إلى الأقمار الصناعية للأرصاد الجوية، كما يمكنه أن يفك شفرتها.
وإذا ما قارنا أجهزة استقبال الراديو المعرف برمجيا مع برامج متخصصة مفتوحة المصدر سنتمكن من تتبع التقنيات اللاسلكية القديمة للغاية التي تمثل جوهر الأنظمة اللوجستية.
فترسل كل سفينة وقطار وطائرة رسائل لسائر أجزاء الشبكة بشأن المكان الذي وصلت إليه وماذا تفعل فيه. كما أن الراديو هو التقنية المثالية للسفن سريعة الحركة لأنه يمكّنها من التواصل أثناء السير.
ونجد أن الطائرات هي الأسهل في التعقب، ففي مقصورة القيادة في كل الطائرات يوجد جهاز إرسال واستقبال لنظام إذاعة الاستطلاع التابع التلقائي، الذي يمكنه إرسال الإشارات اللاسلكية واستقبالها.
وبعد تجميع المعلومات من خلال أجهزة التموضع العالمي (جي بي إس)، ترسل الطائرات إشارات تفصح فيها عن موقعها وارتفاعها وسرعتها ووجهتها على تردد لاسلكي 1090 ميجاهيرتز لكي يلتقطها غيرها من الطائرات وبرج المراقبة الأرضي.
وإذا ما وضع جهاز استقبال الراديو المعرف برمجيا في المكان المناسب وباستخدم البرنامج الصحيح، يجوز لأي فرد في المملكة المتحدة أن يُجمع هذه الإشارات التي ترسلها الطائرات وأن يفك شفرتها بما لا يتنافى مع القانون.
نظريًا، يجب أن يكون من السهل تتبع الحاويات وناقلات النفط، لأنها، مثل الطائرات، ترسل بيانات عن موقعها وسرعتها والميناء الذي تتجه نحوه علنًا، وذلك عبر نظام التعريف الآلي الموجود على متن السفينة، الذي يرسل الإشارات على تردد موجات 161.975 ميجاهيرتز و162.025 ميجاهيرتز.
ولكن عمليًا، كما اتضح لنا عندما كنا على شاطئ برايتون، يتطلب التقاط هذه الإشارات التي تبثها السفن أن تكون في خط البصر المباشر مع السفن، أو بالأحرى في البحر.
وبعد بضعة أيام من إجراء التجارب بالاستعانة بهوائي يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، قررنا أن نحصل على البيانات من خلال جهة خارجية. وقد استعننا في مشروع “فاميليارز” بوسيلة مساعدة على الإنترنت قدمها موقع “في تي إكسبلورير.كوم”.
وبهذا، أصبحنا نتلقى البيانات بثبات وبلا انقطاع، ولكن هذا يعني أننا لن نستطيع التوصل إلى الطريقة التي جُمعت أو عُدلت بها المعلومات.
كما أن بعض البيانات ذات الصلة بوسائل النقل تعذر الوصول إليها كليًا تقريبًا. فقد وصلت الحمولات التي نقلت عبر خطوط السكك الحديدية البريطانية سنة 2014، إلى 22.7 مليار طن، وهو رقم غير مسبوق، ولكن المشكلة هي أن تتبع هذه القطارات نفسها مباشرة أمر صعب.
ففي المملكة المتحدة، يتواصل قائدو القطارات فيما بينهم في الغالب عبر النظام العالمي للاتصالات المتنقلة للسكك الحديدية، وهو يمثل شبكة الهواتف المحمولة للقطارات إلى حد كبير.
ولكن النظام العالمي للاتصالات المتنقلة للسكك الحديدية هو شبكة مغلقة، وهذا يعني أنه لا يجوز، بموجب قانون الاتصالات السلكية واللاسلكية في المملكة المتحدة، فك شفرة أي رسالة ترسل عبر هذا النظام.
إلا أنه في كل مرة كانت تُرسل رسالة مشفرة من أحد القطارات، كان من الممكن الكشف عنها بالقرب من المكان الذي أرسلت منه، إذ كانت تظهر في صورة ذروة الموجة على تردد الوصلة الصاعدة (المسار الذي ترسل فيه الإشارة من القطار إلى القمر الصناعي) 876-880 ميجاهيرتز. ومن ثم يمكننا أن نرى أن هناك رسالة أُرسلت من قطار، بينما لا نعرف فحواها أو أي تفاصيل عن القطار الذي أرسلها.
وبالنظر إلى الطريقة التي تتواصل بها أنظمة النقل فيما بينها، نتعلم بعض الأشياء عن البيانات نفسها. فهذه البيانات، التي لا تظهر بصورة منسقة على الشاشات، لا تنتقل رقميًا ولا بسلاسة، بل إنها أشبه بطبقة مشوشة ومتشابكة من مادة تغطي العالم بأكلمه.
وقد يتأثر الوصول إلى هذه الموجات اللاسلكية بطبيعة الطقس وتداخل الموجات الكهرومغناطيسية، والعجيب أن هذا التداخل يحدث بكثرة حول المطارات.
كما تؤثر التضاريس الجغرافية على إرسال الإشارات اللاسلكية، فقد تحول الهضاب والجبال والغابات دون وصول أشكال عديدة من الاتصالات اللاسلكية.
وأحيانًا، تصبح البيانات المرسلة بشكل مباشر وفوري عبر الإنترنت من القطارات متاحة بمجرد أن تُفرز هذه البيانات، وتُنقل إلى الجمهور عبر جدول زمني وتطبيقات ذات صلة بتذاكر القطارات، ولكن من الصعب للغاية تجميع هذه البيانات مباشرة.
وفي حين أن بعض الأجزاء من طيف ترددات الموجات تكون متاحة فإن البعض الآخر مشفر. وعلى الرغم من أن الإشارات اللاسلكية الصادرة من أجهزة الإرسال والإستقبال بالطائرات متاحة للجميع، فإنه لا يجوز بموجب قوانين المملكة المتحدة التنصت على المحادثات بين الطيارين والمراقبين الجويين.
ونحن في طريقنا إلى سبر أغوار البنية التحتية اللوجستية، وهو نظام مصمم عمدًا ليكون بعيدًا عن الأنظار، اصطدمنا بمتاهة من الأنظمة واللوائح التي تتحكم في إمكانية رؤية النظام، لندرك حينئذ الجوانب المختلفة لتجميع مثل تلك البيانات.