خطة إحياء التراث السعودي تأخرت على إنقاذ كنوز ثقافية كثيرة
406
شارك
الحكمة – متابعة: إذا كانت قرية رجال المع الحجرية الواقعة في حضن الجبال الجنوبية بالسعودية تمثل واجهة أنيقة للمساعي الجديدة التي تبذلها المملكة العربية السعودية لصون تراثها الثقافي فإن قرية وطن إمسودة تمثل ما يواجه تلك الجهود من صعوبات.
فأزقتها المغطاة بأسقف منخفضة تنوء بما فيها من أطلال تحكي قصة عشرات السنين من الإهمال إذ انهارت بعض أسطح المنازل الحجرية ونمت الأشواك عاليا في شقوق جدران القرية غير أن ثلاثة رجال يعملون قرب مدخلها لإنقاذ أحد البيوت.
وقد خصصت السعودية ما يقرب من مليار دولار لصون التراث في خطة إصلاح جديدة غير أن الإهمال الذي استمر عشرات السنين بل والتدمير المتعمد في بعض الحالات يؤكد صعوبة إنقاذ الكنوز الثقافية وارتفاع كلفتها.
وفي حين أن هذا المبلغ خصص في إطار برنامج التحول الوطني الذي كشف النقاب عنه هذا الشهر فلم تذكر أي تفاصيل عن كيفية إنفاقه كما أن المشروعات السياحية الوحيدة التي ورد ذكرها في الخطة تخص مواقع كبيرة قليلة.
وقال عبد العزيز الغانم ممثل مركز التراث العمراني في عسير التابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني “توقفنا عن استخدام هذه البيوت القديمة ربما منذ 40 عاما وكل خمس سنوات تحتاج لإعادة تأهيلها … أرجو أن نحصل على مزيد من الأموال. فنحن بحاجة إليها.”
ووطن إمسودة واحد من حوالي 4000 قرية قديمة في محافظة عسير الواقعة في جنوب غرب المملكة ويعد مشروع ترميمها لإنقاذ التراث المعماري وتعزيز السياحة واحدا من ثمانية مشاريع في المنطقة ينفذها مستثمر محلي.
ويقول إبراهيم الألمعي مدرس التاريخ السابق والمستثمر المحلي الذي يقف وراء هذه المشروعات إن ترميم القرية التي تحف بها حقول متدرجة في تجويف غير عميق على هضبة جبلية ستبلغ تكلفته نحو ستة ملايين ريال (1.6 مليون دولار).
ويبين ارتفاع التكلفة لقرية واحدة صغيرة في بلد هجر سكانه معظم بيوتهم القديمة وانتقلوا إلى بيوت خرسانية حديثة في أعقاب الطفرة النفطية في القرن الماضي مدى ضآلة ما قد تتمكن السعودية من حمايته من التراث بالاستثمارات المخصصة لذلك.
ورغم أن العاصمة الرياض تنتشر على مساحة واسعة من المباني منخفضة الارتفاعات والطرق السريعة والمراكز التجارية الحديثة فإن المدن الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمرتفعات الجنوبية مازالت تحتوي على بعض المباني الرائعة في أحيائها التاريخية القديمة.
ولا تزال بعض البيوت الطينية قائمة بحالة جيدة في المناطق الوسطى من البلاد ومنها الدرعية العاصمة التاريخية لأسرة آل سعود والتي تقع خارج الرياض مباشرة. لكن يندر ما تبقى من تراث معماري إذ أن هذه المناطق كان يسكنها في الأصل بدو رحل يعيشون في الخيام.
* الاستثمار في التراث
وفي إطار مساعي الرياض لإنهاء اعتماد اقتصادها على النفط فإنها تريد الاستثمار في السياحة وتهدف لزيادة إنفاق السعوديين في الداخل بدلا من الإنفاق على الإجازات في الخارج وكذلك قيام الحجاج القادمين إلى مكة بزيارة مواطن جذب أخرى في مختلف أنحاء البلاد.
ويعد تشجيع زيارة الأماكن الجميلة أو تلك التي لها أهمية خاصة هدفا رئيسيا وتوجد في السعودية بعض المواقع العالمية بعضها يقع في مناطق نائية غير معروفة تقريبا خارج المملكة.
فمقابر مدائن صالح النبطية المنحوتة في الصخر والواجهات المزخرفة للبلدة القديمة في جدة وكذلك الزخارف الحجرية العتيقة المستترة بين جلاميد الصخر في الصحارى الشمالية كلها تمثل تراثا فريدا للمملكة.
لكن الجهود السابقة لحماية التراث الثقافي لم توجه سوى لبضعة مواقع رئيسية في حين أن التنمية السريعة التي غذتها الثروة النفطية وعدم الاهتمام بصيانة العمارة التقليدية سمح بتداعي مواقع أخرى.
ومن المفارقات في ضوء التركيز على السياحة الدينية كان أحدث الأمثلة على الدمار في أغلبه في مكة. فقد أزيلت بيوت قديمة بعضها يرجع تاريخه إلى عهد الرسول محمد(ص) لإقامة مشروعات لاستيعاب مزيد من الحجاج.
ومن أسباب هذا النهج ذلك التزمت التقليدي لدى أصحاب المذهب السني الوهابي ممن يرون في تقديس الأشياء شركا بالله بما في ذلك المباني المرتبطة ببزوغ الإسلام. ويكشف ما يحدث اليوم من تركيز على التراث الوطني بل وعلى التراث المحلي قبل نزول الإسلام عن تخفيف للقيود الدينية في جانب من الجوانب.
* المطر يهطل والبيوت تسقط
ويهبط الطريق من وطن إمسوده إلى رجال المع على جبل سوده في التواءات حادة تختفي فيه شجيرات العرعر التي تنمو في المدرجات العليا حيث الهواء العليل ليحل محلها الحر والرطوبة في السهل الساحلي على البحر الأحمر.
ويوضح مثال رجال المع مدى ما يمكن لمشروعات الترميم أن تحققه من نجاح حيث جعل استثمار أربعة ملايين ريال على مدار السنوات الثلاث الماضية من القرية مقصدا وأصبح لها مكانة بارزة الآن فيما ينشر من منشورات عن السياحة في محافظة عسير.
وفي حين أن هذه البيئة المبهرة في واد جبلي وارتفاع بيوتها الحجرية المزخرفة بأشكال مختلفة من حجر الكوارتز تمنح الوادي مزايا ليست لدى قرى أخرى قديمة فإن الألمعي يعتقد أن من الممكن محاكاة هذا النموذج.
ويتطلع الألمعي لترميم سلسلة من القرى عبر جبال عسير يعكس كل منها عنصرا مختلفا من التراث المعماري غير العادي للمنطقة الأمر الذي يؤدي إلى زيادة تدفق السياح المحليين الذين يجتذبهم اعتدال حالة الجو في فصل الصيف.
لكن المال يمثل مشكلة كبرى. والألمعي الذي عاش في بيت قديم في رجال المع حتى سن السادسة عشرة مستثمر مستقل ونفذت مشروعاته بمشاركة وكالات حكومية قدمت بعض المال والمباركة الرسمية.
ومع ذلك فلم تستثمر الحكومة حتى الآن شيئا يذكر في التراث المحلي الذي لا تملك له حتى سجلا خاصا للمعمار التقليدي في عسير أو المحافظات المجاورة حيث توجد بيوت متداعية في أغلب المدن والقرى.
وحتى في وسط أبها عاصمة محافظة عسير يحتفي الناس بالأعراف المحلية في بعض الأشكال التقليدية التي تضاف إلى المباني الخرسانية في حين أن البيوت الطينية الفعلية تتدهور وتتحول إلى أطلال.
وقال الألمعي وهو يقف في حي البسطة بالمدينة حيث بدأت مجموعة من البيوت القديمة تتداعي تدريجيا “في غضون خمس أو عشر سنوات سينهار كل ذلك. فالمطر يهطل وتسقط البيوت. لا بد من الاستثمار. والدولة بحاجة للاستثمار.”
* الربع الخالي
ويتكرر هذا النمط في مختلف أنحاء البلاد. ففي وادي نجران الخصيب الذي يمتد بين تلال جافة شديدة الانحدار ليصل إلى صحراء الربع الخالي توجد فيما بين الحقول مجموعات من البيوت العالية من الطوب اللبن ذات عوارض أفقية مميزة.
ومن الواضح أن بعض البيوت تحظى برعاية أصحابها لكن أغلبها يتآكل ببطء ويتسبب عدم العناية بها في بعض الأضرار الهيكلية حتى أن شقوقا واسعة بدأت تظهر أو أن هذه الأبراج بدأت تميل بشكل خطير نحو الجانب الآخر.
ومع ذلك يبدو من المرجح أن يتركز الإنفاق على السياحة والتراث الوارد في خطط الإصلاح الجديدة على المشروعات الكبرى في أغلبه.
ومن المقرر توجيه استثمارات كبيرة قرب مدائن صالح وبعض الجزر المطلة على البحر الأحمر والغنية بالحياة البحرية.
ومع ذلك فقد حصل التراث السعودي على دفعة عام 2014 عندما سجلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) جدة القديمة ضمن قائمة مواقع التراث العالمي. وتطرح جدة القديمة بعضا من تحديات الترميم نفسها لقرى عسير حيث أغلب البيوت مثلما هو الحال في جدة مملوكة ملكية خاصة وبعضها في حالة سيئة.
وقال سامي نوار رئيس بلدية جدة القديمة “عندما كنت صغيرا لم نعرف أهمية هذه المباني. وفي تلك الأيام كنا نهلل عندما يهدمونها لمد طريق جديد. أما الآن فقد تمكنا من إنقاذ فن العمارة.”
ويعمل المناخ الرطب على تعفن الخشب وتآكل الجدران الأمر الذي يتطلب أن تتم عملية الإصلاح باستمرار كما أن المباني الرائعة التي ترجع إلى القرن السابع يسكنها الآن عمال أجانب فقراء بدلا من نخبة التجار الذين بنيت لهم تلك البيوت.
وقد ساعد تسجيل مواقع في اليونسكو في ضمان مستقبل أفضل لبيوت جدة القديمة التاريخية. وكان ذلك سببا في تبلور استثمارات الدولة وخطة الترميم.
وفي عسير مازال يبدو مثل ذلك النهج الشمولي بعيدا جدا. وقال الألمعي إن “إنقاذ تراثنا مشروع وطني. فهو للشعب بأكمله. لكني لا أعتقد أننا سنشهد استثمارات قريبا.”