الحكمة – متابعة: على غرار ما حققته رحلات الطيران التجريبية من ازدهار في القرن العشرين، تبني وكالة ناسا الفضائية جيلًا جديدًا من الطائرات تختلف كل الاختلاف عن ما سبقها من طائرات.
حين تنتقل جوًا على متن طائرة ركاب، من السهل أن تفترض أن الطائرات كانت دومًا تتخذ الشكل نفسه، إلى أن تتعرف على مجموعة الطائرات التي أنتجتها وكالة ناسا من طراز “إكس”، وهي مجموعة طائرات تجريبية دشنت في أربعينيات القرن الماضي، وكل طائرة منها تحمل الرمز “إكس”.
وكان الكثير من هذه الطائرات عالي التقنية إلى درجة تجعلك تتساءل لماذا لم تصبح الطائرات الحديثة أكثر غرابة. فكان منها طراز من دون أجنحة، وأخر من دون ذيول، ومنها من دون طيار، فضلًا عن طراز أخر من الطائرة يمكنه الدوران بزاوية 180 درجة في السماء، وطراز مزود بالدفع النفاث.
ويبدو أن برنامج الطيران الأكثر طموحًا على الإطلاق لم يعرف المستحيل.
وبعودة الطائرات من طراز إكس، كشفت وكالة ناسا للفضاء النقاب عن برنامج تجريبي جديد على مدار 10 سنوات، يهدف إلى تطوير طائرة أكثر هدوءًا، وأقل إضرارًا بالبيئة، وأسرع بمراحل من سابقاتها.
وتضمنت خططهم إنتاج طائرات نفاثة تفوق سرعتها سرعة الصوت وهادئة للغاية، حتى أن الدويّ الذي تحدثه عند تخطي حاجز الصوت شُبه بصوت إغلاق جارك لباب السيارة بقوة. ولكن هذا ليس كل شيء.
ميلاد الملاحة الجوية
قد تتساءل ما علاقة كل هذا بمجال الاستكشافات الفضائية الذي تنخرط فيه وكالة ناسا. في الواقع، خرجت وكالة ناسا من رحم اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجوية، والتي تأسست في بداية القرن العشرين.
وقد بدأ برنامج الطائرات من طراز إكس في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما تضافرت جهود اللجنة الاستشارية الوظنية للملاحة الجوية والقوات الجوية الأمريكية من أجل انتاج طائرات تكسر حاجز الصوت.
وقد أثمرت جهودهما عن إنتاج الطائرة “بيل إكس-1″، وفي عام 1947، أصبح تشاك ييغر، بعد أن حلق بالطائرة في أول تجربة لها، فوق صحراء خالية تقع جنوبي كاليفورنيا، أول إنسان يصل إلى سرعة 1 ماخ.
وعلى مدار الستين عامًا التي تلت، تمخض عن برنامج الطائرات من الطراز إكس بعض أكثر الطائرات إثارة على الإطلاق، تمكنت من تحطيم أرقام قياسية لا حصر لها، سواء في السرعة أو الارتفاع أو التصميم، ومهّدت لظهور الجيل الجديد من وسائل النقل الجوي.
وكان من أبرزها، الطائرة إكس-13، التي أحدثت تغيرًا جذريًا في عالم الطائرات. وبإمكان هذه الطائرة، التي عرفت باسم “فيرتيجيت” (أي الطائرة الأفقية)، أن تقلع أفقيًا، وأن تحلق وتطير كأي طائرة معتادة، ثم تهبط أفقيًا على منصة هبوط.
ولكي تتمكن الطائرة من تنفيذ كل هذه المناورات ببراعة، من دون أن تنهار (حين ينعدم الرفع على الجناح مما يؤدي إلى سقوط الطائرة) أو تخرج عن السيطرة، فإنها كانت مجهزة بمحركات لديها القدرة على “الدفع الموّجه”، وهي محركات تربينية يمكن تعديلها لتشغيل الطائرة في أي اتجاه. كما تتضمن أنابيب “نفّاثة” (للتحكم في وضع الطائرة أثناء التحليق) على طرف الجناح تُمكّن الطائرة من الالتفاف حول المحور الأفقي.
ثم جاءت من بعدها الطائرة الحربية خفيفة الحركة بصورة فائقة، “أكس- 31 إيه” التي يمكنها الدوران 180 درجة في الهواء. فعلى عكس الطائرات الأخرى التي تدور حول نفسها بسرعات هائلة يتعذر معها التحكم في الطائرة، إذا حاولت الانعطاف بزاوية حادة، تستطيع الطائرة “إكس-31” أن تؤدي مناورات جوية استعراضية تُبهر جل الطيور من حولها.
وهناك أيضا الطائرة “إكس-43 أيه”، التي تعمل بمحرك نفاث تضاغطي يحدث الاحتراق فيه عند سرعات تفوق سرعة الصوت، ويمكنها الحصول على الهواء من الجو لأكسدة الوقود من أجل الاحتراق. فهذه الطائرة قد تصل إلى سرعات تضاهي سرعة الصاروخ، ولا تحتاج لحمل أكسجين لإشعال مخزونها من الوقود.
وتوفر الطائرة “إكس- 43” وزن الاكسجين لتسحبه في المقابل من الجو أثناء الطيران. وهذه الطائرة الأسرع على وجه البسيطة، إذ تصل سرعتها إلى تسعة أضعاف سرعة الصوت (7 ألاف و310 ميل في الساعة) لأنها تستطيع ركوب الموجة الصدمية التي تحدثها عند اختراق حاجز الصوت.
كما حققت الطائرة التي تلتها في إطار هذا البرنامج، وهي من طراز “إكس 51 إيه”، من دون طيار، أطول مدة للطيران بسرعة تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت، ولم تتمكن أي طائرة حتى الآن من تخطي هذه المدة.
أما عن البرنامج الجديد لطائرات إكس، فقد وضعت وكالة ناسا نصب عينيها إتاحة تجربة الطيران بسرعات تصدر صوتًا كهزيم الرعد ليجربها عدد كبير من الناس، من خلال طائرة نفاثة في حجم طائرة رجال الأعمال تفوق سرعة الصوت.
بيد أن المشكلة الوحيدة هي أن الطائرات التي تتجاوز سرعة الصوت تحدث ضجيجًا يصم الأذان، ويشهد بذلك كل من وجد نفسه في مسار طيران الطائرة “كونكورد”.
وقد يكون الأمر هينًا إن كنت ستطير معظم الوقت فوق المحيط الأطلنطي، ولكن إذا كنت تطير فوق الأرض فسيمطرك الناس بوابل من الشكاوى. كما حدث في خمسينات وستينيات القرن الماضي، حين أقام الأمريكيون نحو 40 ألف دعوى على القوات الجوية الأمريكية في أعقاب انطلاق مجموعة من الرحلات الجوية التجريبية بسرعات تتجاوز سرعة الصوت.
إذ وصلت قيمة المبالغ محل النزاعات، على مدار ثلاثة أشهر فقط سنة 1967، إلى 3 مليون و800 ألف دولار أمريكي.
وتهدف وكالة ناسا، من خلال مشروعها الجديد لتكنولوجيا طائرات تتجاوز سرعة الصوت من دون ضجيج (كويست)، إلى بلوغ سرعات تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت من دون إحداث الدوي المصاحب لاختراق حاجز الصوت. ولكن كيف؟
ولكي نفهم كيف ستعمل هذه التقنية، علينا أن نعرف أولًا ما الذي يجعل الطائرات تحدث هذا الصوت المرتفع. تُحدِث الطائرات التقليدية أثناء انتقالها عبر الهواء موجات ضغط تشبه التموجات الدائرية متحدة المركز التي تظهر حول مؤخرة المركب في الماء.
وتنتقل موجات الضغط بسرعة الصوت، ومع زيادة سرعة الطائرة تُدفع الموجات لتتجمع مع بعضها، لأنها لن تستطيع الانفصال عن بعضها بعضًا في الوقت المناسب.
ثم تندمج موجات الضغط في النهاية لتشكل موجة صدمية واحدة تبدأ من مقدمة الطائرة وتنتهي عند ذيلها.
ويحدث هذا “الدوي” في حالة وجود تغير في الضغط، ومن ثم فتُحدث الطائرة الواحدة هديرًا كهدير الرعد مرتين، الأولى عندما يرتفع ضغط الهواء ارتفاعًا مفاجئًا بسبب اصطدام مقدمة الطائرة بالهواء، والمرة الثانية عندما يعود ضغط الهواء فجأة إلى المستوى المعتاد بعد مرور ذيل الطائرة.
وقد أوضحت الأبحاث الأخيرة التي أُجريت في أنفاق الرياح أنه من خلال إجراء تجارب على شكل الطائرة، ربما يصبح من الممكن إحداث موجة صدمية معدلة لا تحدث هذا الصوت الصاخب الذي قد يؤذي السمع.
وعلى الرغم من أن وكالة ناسا لم تفصح عن أي تفاصيل بعد، إلا أن التصماميم الأولية تتضمن تغيير تصميم الطائرة الحالي، المكون من بدن وجناحين، والاستعاضة عنه بتصميم يتناغم فيه الجناحين مع بدن الطائرة. لو أردت أن تتصور الشكل الجديد، فكر في سمك الراي اللاسع، ذي الجسم المفلطح.
وليس هذا كل شيء، إذ تهدف وكالة ناسا أيضًا إلى تقليص “بصمة الكربون”، (أي كمية غازات الدفيئة التي تحتوي على كربون في الجو) الناتجة عن النقل الجوي إلى حد كبير، من خلال تخفيض استهلاك الوقود بواقع النصف وتقليل الانبعاثات بواقع 75 في المئة.
وستكون الطائرة “إكس- 57″، التي أزاحت ناسا الستار عنها في الشهر الحالي، أول طائرة كهربائية تمامًا، تعتمد على 14 محركًا يدار كل منها بالبطاريات، وتُشحن هذه المحركات بالطاقة المتجددة.
وقد سميت الطائرة ماكسويل، نسبة إلى جيمس كليرك ماكسويل، الذي أشاد الكثيرون بإنجازاته في مجال الفيزياء ولقبوه بأبي الفيزياء الحديثة. فضلًا عن أن الطائرة الجديدة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت لن تحرق سوى الوقود الحيوي ذي محتوى منخفض من الكربون.
تعد وكالة ناسا هذا البرنامج البحثي الجديد بمثابة فرصة لتوسيع نطاق الاكتشافات والمعرفة في مجال الطيران.
ويرى المولعون بعالم الملاحة الجوية أن هذا المشروع إحياء لتقليد تناقلته الأجيال على مدار قرون وقد أثار اهتمام الناس طيلة عقود.
لكن هذا المشروع في نظرنا نحن، جعل احتمال القيام برحلة ليوم واحد من لندن إلى نيويورك، لا تشعر فيها بوخز الضمير، أمرًا قابلًا للتحقيق.