المركبة الفضائية التي يمكنها تحمل أصعب الظروف في الفضاء
422
شارك
الحكمة – متابعة: تتطلب البعثات التي ستُرسل إلى كوكب الزُّهرة في المستقبل وسائل تقنية حديثة تتحمل الظروف القاسية، لكنها أيضا ستكون بحاجة إلى إحدى التقنيات القديمة.
منذ وقت طويل، لم يحاول أحد الهبوط على كوكب الزُّهرة، لأنه يمثل إحدى أقسى البيئات التي لا تصلح للحياة في المجموعة الشمسية.
ولأن كوكب الزهرة تغطيه سحب من حمض الكبريتيك، فإن درجات الحرارة على سطحه تناهز 460 درجة مئوية، ما يعادل 860 فهرنهايت، ويزيد الضغط الجوي فيه عن 90 ضعف الضغط الجوي على الأرض.
وقد استحال الرصاص والزنك والقصدير على سطحه إلى سوائل، فضلًا عن أن وزن ثاني أكسيد الكربون في الهواء يماثل تقريبًا وزنه على عمق كيلومتر واحد تحت سطح المحيط، وهذا يكفي لتحطيم غواصة.
لكن الأنظار اتجهت مجددًا إلى كوكب الزهرة، بعدما دخلت بعثة مسبار “أكاتسوكي” الياباني مدار ذلك الكوكب بنجاح في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وتخطط وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية لإرسال بعثات جديدة في عشرينيات القرن الحادي والعشرين.
كما تعتزم روسيا مواصلة النجاح الكبير الذي حققته في بعثاتها – مثل “فينيرا” و”فيغا”- التي أطلقتها في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.
وكل هذه البعثات تتضمن إرسال مركبات مدارية ودراسة الغلاف الجوي للكوكب ومجاله المغناطيسي وخصائصه الجغرافية.
ولكي نفهم حقيقة الكوكب، سنحتاج إلى مسبار يهبط على سطحه. وبإمكان المسابير الفضائية اختبار التركيبة الكيميائية للهواء والصخور على السطح وإحداث موجات زلزالية للكشف عن طبيعة باطن الكوكب.
وتتضمن المركبة الفضائية “فينيرا دي” التي تعتزم روسيا إرسالها مسبارًا يهبط على سطح الكوكب، بيد أن المهمة التي سينفذها هذا المسبار لن تتجاوز ثلاث ساعات، استنادًا إلى عمر البطاريات التي سيحملها على متنه.
وقد استطاع المسبار “فينيرا 13” الروسي، الذي هبط على سطح كوكب الزهرة سنة 1982، إبان عهد الاتحاد السوفييتي، أن يبقى على سطح الكوكب لأطول مدة حتى الآن، إذ ظل في هذه البيئة السامة والخطيرة لمدة 127 دقيقة.
وتتطلب صناعة مسبار يتحمل البقاء على كوكب الزهرة لفترات أطول من ذلك، ربما تصل إلى يوم، أو أكثر، أجهزة إلكترونية قوية لا تتأثر بدرجات الحرارة المرتفعة، أو بها طريقة ما لتبريد المسبار الذي سيظل في حقيقة الأمر في بيئة تشبه الفرن، أو كلاهما.
ويجب أن يعمل المسبار من دون ألواح الطاقة الشمسية لأنها أقل كفاءة على الكوكب ذي السماء الملبدة بالغيوم، فضلًا عن أن البطاريات لن تستطيع الصمود خلال المدة المطلوبة ولا يمكنها توليد الطاقة اللازمة.
ومن أجل الحصول على الأجهزة الإلكترونية المناسبة، يختبر علماء وكالة ناسا مواد جديدة لتصنيع رقائق الكمبيوتر التي لن تتوقف عن العمل تحت درجات الحرارة المرتفعة.
ويقول غاري هانتر، مهندس وباحث بوكالة ناسا: “يجب أن نصنّع شيئًا مختلفًا تمامًا يمكنه تحمّل درجات الحرارة التي تناهز 500 درجة مئوية، ما يعادل 932 فهرنهايت. نحن نحتاج عوازل مختلفة وعناصر تلامس بالدائرة الكهربائية مختلفة أيضًا. علينا أن نبتكر طريقة جديدة لنجمّع هذه الدوائر معًا”.
واستطرد هانتر قائلًا، إن المشكلة الحقيقة أن الكثير من المواد تعمل بشكل مختلف عند درجات الحرارة المرتفعة، وضرب مثلًا بالسيليكون وهو شبه موصل في المعتاد، ولكن عندما ترتفع درجات الحرارة لتصل إلى نحو 300 درجة مئوية، 572 فهرنهايت، يصير موصلًا، ومن ثم يصبح أقل نفعًا للأجهزة الإلكترونية.
والمشكلة الأخرى هي حتى لو افترضنا أن الدوائر المصنوعة من السيليكون ستظل تعمل بكفاءة، فمن الصعب أن نجد المواد المناسبة لتصنيع التوصيلات بين الدوائر التي لن تتوقف عن العمل عندما تكون في بيئة كوكب الزهرة.
ويقول هانتر إن وكالة ناسا تختبر مدى إمكانية تصنيع أجهزة إلكترونية مصنوعة بالأساس من كربيد السيليكون، يمكنها أن تعمل لفترات أطول تحت درجات حرارة تقارب درجات الحرارة التي من المحتمل أن يتعرض لها المسبار على سطح كوكب الزهرة.
ولكن الجانب السلبي لهذه الأجهزة هو أن الرقائق التي يمكن أن نصنعها من هذه المواد، كما يبدو لنا حتى الآن، ستكون أقل كفاءة من الرقائق الموجودة في أجهزة الكمبيوتر الحديثة.
ووفقًا لما جاء في عرض تقديمي لمجموعة تحليل كوكب الزهرة واستكشاف معالمه، التابعة لوكالة ناسا، فإن هذه الأجهزة الإلكترونية ستعمل بنفس كفاءة أجهزة الكمبيوتر في ستينيات القرن العشرين.
ويقول هانتر: “نحن لا نطمح في الحصول على معالج مثل معالج بنتيوم”، ولكن إذا وضعنا تصميمًا إبداعيًا، قد نستطيع الحصول على صور وبيانات من مسبار وإرسالها إلى مركبة مدارية ستنقلها بدورها على مراحل إلى كوكب الأرض.
وذكر هانتر أن الهدف هو أن تظل الأجهزة تعمل لآلاف الساعات، لتغطي يومًا كاملًا على كوكب الزهرة، الذي يساوي 117 يومًا على كوكب الأرض.
أما عن أنظمة الطاقة، فقد اقترح كل من تيموثي ميلر ومايكل بول بجامعة ولاية بنسلفانيا، وستيفن أوليسون بمركز أبحاث غلين التابع لوكالة ناسا، استخدام المحرك الحراري الذي يسمى محرك ستيرلينغ.
وتعمل محركات ستيرلينغ بواسطة سائل مضغوط لبدء التشغيل يوجد داخل حجرة “باردة”، وهنا تعني كلمة باردة أن درجة الحرارة أقل نسبيًا، ولا تعني أنها شديدة البرودة. وينضغط المائع بواسطة مكبس ثم ينتقل إلى حجرة أخرى، حيث يجري تسخينه.
ويتمدد السائل الساخن، ليحرك مكبسًا آخر يتصل بالمكبس الأول عبر عجلة أو ذراع. وعندما يحرك المكبس الثاني المكبس الأول يسحب الماء مرة أخرى إلى الجانب البارد، حيث تنخفض درجة حرارته، وتبدأ الدورة من البداية.
وطالما يوجد مصدر للحرارة، لن يتوقف المحرك عن العمل. وتستخدم محركات ستيرلينغ اليوم في بعض أنظمة التبريد، وحتى في الغواصات، إذ تستخدمها القوات البحرية السويدية في المراكب من فئة غوتلاند للدفع تحت الماء.
ولا تزال هذه الوسيلة التقنية تستخدم منذ سنة 1816، حين اخترعها رجل الدين الاسكتلندي، روبرت ستيرلنغ.
ويرى كل من ميلر وبول أن هذه الفكرة القديمة يمكن أن تستخدم في المركبات الفضائية في المستقبل، ونشرا فكرتهما في دورية “أكتا أسترونيكا”. وقد موّلت وكالة ناسا بالفعل بعض الاختبارات الأولية.
وقال ميلر إن محرك ستيرلينغ يمكن أن يوفر الطاقة التي تكفي لتبريد الأجهزة الإلكترونية ومدّ الأجهزة بالكهرباء، ولذا فإن الأجهزة التي تعتمد على هذه المحركات يمكن أن تعمل لفترة أطول من تلك التي تعتمد على البطاريات.
ومن المحتمل أن يكون سائل التشغيل هو الهيليوم، لأنه ينقل الحرارة بكفاءة مقارنة بسائر الغازات، كما أنه لا يتفاعل مع غيره من المواد.
ولكن ما يشغل العلماء ليس قوة المحرك فحسب، بل أيضًا الوقود، إذ إن محرك ستيرلينغ يحتاج إلى وقود.
وقد عقد ميلر وفريقه العزم على استخدام الليثيوم، الذي يمكن أن يحترق في هذا الغلاف الجوي الذي يتألف بشكل أساسي من ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين، ويمثل النيتروجين 4 في المئة من الهواء في كوكب الزهرة.
كما يذوب الليثيوم عند درجة حرارة 180 درجة مئوية، 356 فهرنهايت، مما يجعله وقودًا سائلًا فعالًا على كوكب الزهرة، ويسهل احتراقه عن غيره من أنواع الوقود.
وهذا سيقلل من وزن المركبة الفضائية عند الإنطلاق، فلن تحتاج أن تحمل على متنها سوى وقود الليثيون، ووفقًا لما ورد في البحث الذي أعده ميلر، فإن المحرك والوقود اللذين لا يتجاوز وزنهما معًا 50 كيلوغرام يمكنهما أن يشغلا مسبارًا فضائيًا ليومين.
ويمكن أن يُصمم المحرك في صورة نظام من مكبس واحد، بحيث يكون جزء منه باردًا والآخر ساخنًا، مما سيساعد على دفع مولد التيار المتناوب جيئة وذهابًا، إلى الأمام والخلف، لتوليد الكهرباء.
وقد استطاع ميلر وفريقه حتى الآن أن يجروا اختبارات على نطاق صغير، عند ضغط جوي قدره من أربعة إلى خمسة بار تقريبًا، وتأمُل المجموعة أن تحصل على المزيد من التمويل من أجل إجراء تجارب تحت ظروف مشابهة لتلك التي من المنتظر أن يواجهها المسبار على كوكب الزهرة.
علاوة على أن الليثيوم لا يلوث الهواء، وقد يثير استغراب البعض أن يؤخذ هذا الأمر في الاعتبار في كوكب غير مأهول، إلا أنه أمر لا يستهان به في المجال العلمي.
وقال ميلر: “نحن نريد أن نصنّع نظامًا إذا هبطنا به في أي مكان لتنفيذ المهمة المكلفين بها، لأي عدد كان من الأيام، لا يصدر غازات تؤدي إلى تلوث البيئة المحيطة”.
وعندما يحترق الليثوم في جو غني بثاني أكسيد الكربون، فإنه يتحول إلى كربونات الليثيوم، وهذا يعني أن القراءات التي ستصدر عن المسبار، الذي يختبر الغلاف الجوي، لن تتأثر بغازات العادم.
وإذا استطاع الفريق أن يثبت أن نظام الاحتراق سيعمل عند 90 بار تقريبًا، فإن التقنية التي توصل إليها الفريق ستنتقل إلى مستوى جديد يؤهلها للطيران. وقال ميلر: “لو تمكننا من أن نقدم شيئًا، فإنه يمكن أن يعمل لمدة أسبوع”.
إن كوكب الزهرة وكوكب الأرض متشابهان في مناحٍ عديدة، منها أن الفارق بين نصف قطر كوكب الزهرة ونصف قطر كوكب الأرض ضئيل للغاية، وكتلة كوكب الزهرة تساوي 81 في المئة من كتلة كوكب الأرض.
وعندما تكونت الكواكب، كانت قريبة من بعضها في سديم شمسي، (وفقًا للفرضية التي تقول بأن مجموعتنا الشمسية تكونت من سديم منذ ملايين السنين)، ولذا فيجب أن يكون تركيب كل الكواكب إجمالًا متشابهًا.
ولكن قد تصبح الوسائل التقنية التي ستمكن المسبار من البقاء لزمن أطول على كوكب الزهرة ذات أهمية بالغة لمساعدتنا في الإجابة عن السؤال الذي طالما حيّر الكثيرين، وهو كيف أصبح أحد الكواكب مأهولًا وصالحًا للحياة، وأصبح الآخر، كما جاء على لسان كارل ساغان، “المكان الأشبه بالجحيم”.