المصاحف العمانية المخطوطة … بين الزخرفة والبساطة

435

ce5760_89ea3db095f64f058bd6cf8a02a401e0-mv2الحكمة – متابعة: تمتلك دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة العمانية عدداً كبيراً من المصاحف المخطوطة تتجاوز 200 مصحف كما ورد في كتاب “نوادر المخطوطات العمانية” الصادر عن الوزارة نفسها

وتتميز المصاحف العمانية المخطوطة بنمط كتابتها، وتجليدها وزخرفتها وتذهيبها، وأولاها النساخ والخطاطون أهمية كبيرة، وتسابقوا في إتقانها وإبداعها؛ كل على طريقته.

وأورد كتاب “نوادر المخطوطات العمانية” تفصيلاً لأشهر تلك المصاحف والذي يأتي في مقدمتها مصحف “القراءات السبع” والذي يشمل نص القرآن كاملاً، مع القراءات السبع في حواشيه، ويبتديء كل جزء من أجزاء هذا المصحف في الصفحة اليسرى من المصحف، موزعاً على ثماني ورقات أي ست عشرة صفحة، ليصبح عدد أوراق المصحف مئتين وأربعين ورقة وتحتوي الصفحة الواحدة منه على خمسة عشر سطراً.

وكتب المصحف الخطاط العماني المشهور “عبدالله بن بشير بن مسعود الحضرمي” أحد علماء صحار في القرن الثاني عشر الهجري. وللحضرمي مؤلفات عدة، وفرغ من كتابة المصحف الشريف في السادس من محرم سنة 1253 هـ، وهو أحد مصاحف عديدة كتبها بخط النسخ الجميل. وجعل اللون الأسود هو الأساس، ولون بالأحمر: السطر الأول من بداية كل جزء، أسماء السور، واسم الجلالة، والبسملة، وأول حرف من كل سطر. وكان الحضرمي بارعاً في تنسيق الصفحات والأسطر؛ إذ تبدأ كل صفحة بأول آية وتختم بنهاية آية، والحرف الأول الذي يبدأ به السطر الأول هو الحرف نفسه الذي يبدأ به السطر الأخير في الصفحة، كما أن أول حرف من السطر الثاني من أعلى الصفحة هو أول حرف من السطر الثاني من أسفلها، وهكذا بقية الأسطر، ويستمر التنسيق بهذا التناظر في بقية الصفحات.

أما السطر الثامن في وسط الصفحة اليمنى فإن أول حرف منه هو الحرف نفسه في أول السطر الثامن من الصفحة اليسرى، وخلافاً لما هو سائد في كتابة المصاحف؛ لم يعط الحضرمي لأول صفحتين من المصحف خصوصية تذكر، فكتب الفاتحة وأوائل سورة البقرة دون زخارف محيطة بهما، ولا نجد أية زخارف في سائر أوراق المصحف، سوى إطار بسيط باللون الأحمر، غير أن حسن خطه ووضوحه صبغه صبغةً جمالية فريدة.

ومما يميز محتواه القراءات السبع التي خطها على هامش المصحف، كل قراءة في موضعها مقابل اللفظ القرآني، وقد استمدها من كتاب “التيسير في القراءات السبع” لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني إضافة إلى حرصه على وضع علامات التجويد كالوقوفات والمدود في مواضعها من المصحف.

وورد في كتاب “نوادر المخطوطات العمانية” القول: “لنا أن نصطلح على تسمية الطريقة الفنية البديعة التي اتبعها الحضرمي في تنظيم المصحف وتنسيقه «بطريقة الحضرمي»؛ لأنها شهدت حضوراً قوياً في التراث العماني، وقلده فيها عدد من النساخ العمانيين”.

وتحتفظ دار المخطوطات بنسخة من مصحف شريف تحت رقم «4126»، ذهب منه اسم الناسخ وتاريخ النسخ بسبب ضياع الأوراق الأولى والأخيرة منه، وهو مكتوب على «طريقة الحضرمي» من حيث تناظر الأسطر والصفحات وعدد الأوراق، مع خلوه من ذكر القراءات.

وشبيه به مصحف محفوظ في إحدى المكتبات الخاصة بعمان، كتبه “راشد بن سالم بن علي بن عبدالله المنذري” سنة 1260 هـ؛ بطلب من العلامة المعروف ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي.

ويطابقهما في طريقة الكتابة مصحف بقيت أوراقه متناثرة منه ضمن مجموع محفوظ في مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بالسيب، ما يؤكد أن طريقة الحضرمي في كتابة المصحف ذاعت وانتشرت بين العمانيين.

ومن بين المصاحف التي تحتفظ بها دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة العمانية مخطوط “المصحف السندي” وهو للخطاط محمد بن فاضل السندي، لكن هذا المصحف سقط قدر كبير منه، وأصابت الرطوبة بعض جوانبه، وتبعثرت أوراقه. ولم يترك الناسخ مصحفه دون ذكر وجوه القراءات على هامشه، ولكن بإشارات وجيزة دون تفصيل، كما حرص على تبيان وجوه إعراب بعض المشكل من آي القرآن.

وختم نسخة المصحف بدائرة مزخرفة جميلة طرز فيها العبارة الآتية: “وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماتهۚ وهو السميع العليم” بقلم الفقير إلى الله السيد محمد فاضل السندي، غفر ذنوبهما”، وكتب أسفل هذه العبارة بخط مغاير: “نسخ هذا المصحف سنة 1179هـ” في بندر مسقط وانطمس اسم كاتب هذه العبارة من آخرها”.

وهناك مصحف آخر يحمل اسم “المصحف الملون” وهو وإن غابت عنه حلاوة الخط، أو تضاءلت أمام ما سبق، غير أن المتصفح له تشده زخارفه وألوانه البديعة، بدرجة قد لا تفي الكلمات وصفها، دون أن تكون الصورة حاضرة لعرض جمالياتها.

وتسمية المصحف الملون لم تأت من فراغ كما يقول كتاب “نوادر المخطوطات”، فهي أول ما يتبادر إلى الذهن عند الوقوف عليه، إذ تطالعك صفحاته بألوان متعددة، لكل لون منها درجات متفاوتة بين القاتم والفاتح، وكل هذه الألوان تقابلك في أول صفحتين من المصحف، ومع أن عادة النساخ جرت على تناظرهما غير أن ناسخ «الم صحف الملون» خالف ذلك، فجعل لكل صفحة منهما زخرفة مستقلة، كأنما أراد أن يرخي لقلمه العنان، فيبدع في التنميق والتلوين.

وتغلب الأشكال الهندسية والمشجرة على زخارف هذا المصحف، ففي صفحة سورة الفاتحة نرى آيات السورة تتوسط دائرتين في الأعلى والأسفل، مطرزتين بزخارف مشجرة ملتوية، وعلى الجانبين الأيمن والأيسر من السورة صفان متناظران من تشكيلات ورقية، كل ورقة بلون مختلف، وجميع هذه الزخارف محاطة بإطار مستطيل تمتد فيه الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء والسوداء، تارة تكون رفيعة وأخرى ثخينة.

أما صفحة أوائل سورة البقرة فتظهر في أعلاها وأسفلها تشكيلات ورقية مشابهة لتشكيلات سورة الفاتحة، غير أنها تمتد على العرض لا على الطول، ونص الآيات محاط بأربع دوائر، كل واحدة منها محشوة بأشكال هندسية رائعة، وكل هذه الزخارف يحيط بها إطار مستطيل كالذي رأيناه في سورة الفاتحة.

وإذا فرغنا من الصفحتين المتقابلتين نجد الألوان حاضرة في سائر الصفحات، فلكل صفحة إطار مستطيل من خطين أحمر وأسود، يطعمان أحياناً بلون الذهب، وحرص الناسخ على كتابة النص القرآني كتابة متقنة واضحة بخط النسخ وبالمداد الأسود، ثم يضع علامات التجويد والوقف وفواصل الآيات باللون الأحمر.

أما أسماء السور فيضعها في إطار باللونين الأزرق والأحمر، ولا يكتفي بتقييد اسم السورة فحسب، بل يزيد عليه عدد آياتها وهل هي مكية أم مدنية، وترتيب نزولها، ويبادل في كتابة ذلك بين اللونين الأخضر والأحمر، فيقول مثلاً:«سورة إبراهيم عليه السلام. اثنتان وخمسون آية. مكية إجماعاً غير آيتين نزلتا بالمدينة في قتلى بدر: «ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا» ثم نزلت بعدها سورة الأنبياء» وقد يزيد معلومات أخرى فيقول مثلاً: «سورة الغاشية ست وعشرون آية. مكية بالإجماع وكلماتها اثنتان وسبعون كلمة وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفاً ثم نزلت بعدها سورة الكهف”.

ولم تخل خاتمة المصحف أيضا من زخارف ملونة بديعة، نمقها الناسخ في هيئة مستطيلين كتب فيهما الآية: «وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم» وهي خاتمة معتادة في كثير من المصاحف العمانية ويلي المستطيلين مثلث رأسه للأسفل، كتب فيه الناسخ العبارة التالية: «تم معروضاً على حسب الطاقة والإمكان، ولله الحمد والشكر» وللأسف أغفل الناسخ ذكر اسمه، وهو على الأرجح عماني، كما أغفل بيانات النسخ وعلى حاشية الصفحة الأخيرة من المصحف تقييد وفاة امرأة عمانية سنة 1160هـ، ما يفهم منه أن المصحف ينتمي إلى القرن الثاني عشر الهجري، أو قبله.

وهناك مصحف “الريامي” الذي لا يجد المتصفح له أي نقش أو زخرفه وهو مصحف كتبه الأديب النسابة عامر بن سليمان الريامي من علماء القرن الثالث عشر الهجري وفرغ من كتابته في منتصف ذي الحجة 1240هـ ويجد القارئ التلوين والزخرفة في صفحتيه الأوليين فقط، ولكنها زخرفة هادئة كأنما هي قطعة نسيج من التراث العماني القديم أما خط الناسخ فغير مميز لكنه واضح ومقروء، متباعد الأسطر، ولا يجد المتصفح له أثر لزخارف تذكر، بل تخلو صفحات المصحف عادة من التأطير ولون الخطاط بالأحمر أسماء السور التي يحيطها بإطار أحيانا وأحيانا دونه.

ومن بين مصاحف الدار أيضا مصحف حمل اسم “مصحف الوايلي” وهو من بين النماذج التي تظهر فيه بساطة مخطوطات المصاحف العُمانية وخط المصحف الناسخ سليمان بن مطر الوايلي وفرغ منه في يوم الاثنين 2 جمادى الأولى 1291هـ ولا يجد المتصفح لهذا المصحف أي زخارف تذكر سوى إطار من خطين متوازيين باللون الأحمر أحياناً وهذا النمط من المصاحف شائع بكثرة عند أهل عُمان، وهو ينطلق من مبدأ يعتبر مكمن الجمال ليس في الزخارف والنقوش والزينة، إنما في البساطة التي تكسب القارئ الراحة والسكينة وفي وضوح الخط وضبط الشكل الذي يعينه على قراءة صحيحة متقنة للقرآن الكريم وله أمثلة كثيرة في مخطوطات الدار.

(صحيفة الوطن العمانية)

س ف

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*